الخميس 18/9/1445 هـ الموافق 28/03/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
الحافلة الأخيرة....مجد مالك خضر
الحافلة الأخيرة....مجد مالك خضر
الحافلة الأخيرة
 
مضى شهر على عملي في مصنع يقع في منطقة صحراوية بعيدة عن مكان سكني، وكان هو العمل الأخير المتاح أمامي بعد مرور عام على تخرجي من الجامعة بشهادة إدارة أعمال وجلوسي في المنزل؛ بسبب عدم وجود وظائف متاحة، وأفضل وظيفة حصلتُ عليها في ذلك الوقت مسوّق عروض تأمين، ولم أستمر فيها إلا بضعة أسابيع. 
 
كنتُ أغادر المنزل في السادسة صباحًا وأعود له في الثامنة مساءً، بعد أن أقف أمام المصنع لانتظار الحافلة قبل الأخيرة حتّى أعود بها... وفي أحد الأيام تأخرت في العمل واحتجتُ لساعة إضافية، فلم أتمكّن من اللاحق بالحافلة قبل الأخيرة مثل كلّ يوم، ووقفتُ أمام المصنع أنتظرُ مرور الحافلة الأخيرة.
 
كان الليل قد حلَّ وأصبحت المنطقة شبه مظلمة، ولا تضيئها إلا أضواء أعمدة الإنارة والمركبات التي تمرّ في الطريق... وصلت الحافلة الأخيرة بعد انتظار قرابة النصف ساعة، وهذه المرّة الأولى التي أغادر فيها باستخدام تلك الحافلة، لم يكن عدد الركاب كثيرًا، مقارنة مع الحافلة السابقة التي أُرغم أحيانًا على الركوب فيها واقفًا؛ بسبب الازدحام وعدم وجود مقاعد كافية لاستيعاب كمية الركاب التي تفوق حمولتها، ولكن هنا الحال تغيرت كثيرًا فأستطيع اختيار أي مقعد أريد، وجلستُ على مقعدٍ مفرد بجانب عائلة من أب وأم وطفلهما الذي لا يتجاوز الخمس سنوات من عمره، وكان يحاول دائمًا التخلص من حضن والده، ليتحرك في أرجاء الحافلة.
 
ابتسمتُ في وجه الطفل الذي بادلني الابتسامة، ثم نظرتُ من النافذة باتّجاه الطريق الذي كان ساكنًا ومظلمًا، وأصوات أبواق بعض المركبات هي من يعكر صمت الليل المطبق، وأثناء انشغالي بمشاهدة الطريق شعرتُ بأن يدًا صغيرة امتدت إلى جيب بنطالي وبدأت تعبث في محتوياتها، ولم تكن إلا يد الطفل الذي أخرج بعض النقود وقصاصات الأوراق، وعندما سحبتُ يده بدء بالبكاء وانتبه والده، وقال لي أعتذر ولكنه طفل صغير، فأجبته لا داع للاعتذار لم يقصد ذلك، واستمر صوت بكاء الطفل يعلو بنبرةٍ حزينة، وهو يشير إلى قطع النقود التي ما زالت في يدي، فناولتها للطفل وقلت لوالده اعتبرها هدية مني له، وعندما عادت النقود إلى يده توقف عن البكاء، بعد أن أعاده والده إلى حضنه... شكرني الأب قائلًا التربية هي من أهم الوسائل التي توجّه الطفل، ولكن أحيانًا قد تفقد البوصلة التربوية اتّجاهها؛ بسبب براءة الأطفال أو جهل الوالدين بتوجيههم لتجنّب ارتكاب الهفوات الصغيرة التي لا يد لهم فيها... وما هي إلا دقائق قليلة حتّى بكى الطفل مرّة أخرى وأشار لي. بعد محاولات فاشلة في تهدئته قررتُ أن أغير مكاني وعدتُ ثلاثة مقاعد إلى الوراء.
 
جلستُ هذه المرّة بجانب رجل في منتصف الستين من العمر، كان غافيًا من التعب، ويطلق شخيرًا متقطعًا، وتبدو هيئته أنه يعمل في إحدى الوظائف الشاقة، وخلال سير الحافلة كانت قد سقطت في حفرة أدّت إلى اهتزازها، فاستيقظ الرّجل ونظر حوله، وعندما لمحني قال لي هل وصلنا يا بُني؟ فأجبته بأننا لم نصل بعد، وسوف أوقظه عند وصولنا، ولكن رفض وقال لي بأنه سيظلّ مستيقظًا، وعلى ما يبدو كان يبحثُ عن شخص ليتكلّم معه، فأخبرني مجموعة من قصص الماضي الخاصّة به، ثمّ سأل عن عملي وطبيعة حياتي، وبعد أن أخبرته بحداثةِ عهدي في العمل، وعدم استمراري في وظيفتي السابقة، تغيّرت نبرته الهادئة وقال بعصبية هذا الجيل لم يعد أهلًا للعمل مثل جيلنا، طبعًا لا أقصدك أنت يا بني، كنا نعمل في الماضي بأي عمل متوفّر أمامنا، ولم نرفض أي مهنة نتقنها ونتعلّم أساليبها وندرك استخدام أدواتها، وأردف قائلًا طبعًا لا أقصدك يا بني، ولكن في هذا الزمن أصبح أغلب الشباب يشعرون بالحرج لمجرد العمل في مهنة لا تتوافق مع أحلامهم، كأن المكتب والوظيفة المرموقة تطرق أبواب منازلهم في كلّ يوم.
 
كنتُ أسمع له مصغيًا ومكتفيًا بأن أحرك رأسي علامة الإيجاب، مع أني داخليًا ندمتُ لإخباره عن حياتي الوظيفية، وكان فمه ما زال يتحرك مطلقًا العبارات والانتقادات كسيل جارف لا يتوقف، وأكّد مرّة أخرى بأنه لا يقصدني مطلقًا بالكلام... لم أجد إلا يدي تربت على كتفه، وقلتُ له من المؤكد لم تقصدني بأي كلمة قلتها أشكرك على الحديث اللطيف، ولكن اسمح لي أن أبدل مكاني أريد الجلوس بجانب النافذة لتنشق القليل من الهواء، حاول أن يستوقفني ولكن ودعته بيدي.
 
اخترتُ الجلوس في المقعد الأخير الذي يتميّز باتساعه؛ لأنه يكفي لأربعة أشخاص وهو العدد الطبيعي له، إلا أن أصحاب الحافلات يحاولون حشر ستة أو ثمانية أشخاص معًا في ذلك المقعد، واليوم هو لي وحدي أستطيع الجلوس فيه كيفما أشاء، أمامي جلس شابان يتحدثان عن الرياضة وكرة القدم، أخرج أحدهما هاتفه النقال وبحث قليلًا فيه، ودار بينهما الحوار التالي:
- وأخيرًا فاز فريقي الرياضي بخمسة أهداف مقابل هدف للفريق المنافس (قال صاحب الهاتف النقال).
- فريقك يقتنص الفرص فقط، كما أن التحكيم يكون لصالحه غالبًا.
- بل فريقي هو أفضل فريق يلعب كرة القدم (أجاب غاضبًا).
- هذا كله كلام بكلام أهدافكم غير حقيقية ومزيفة.
- بالطبع ستقول ذلك لأن فريقك لم يحقق عدد الأهداف الكبير الذي حققه فريقي.
 
استمر السجال والجدال بينهما لأكثر من عشر دقائق، وتحوّل في لحظة إلى عراك بالأيدي، ولم يوجد غيري بالقرب منهما لفصل المعركة المندلعة، وأخبرتهما أن كلا الفريقين ليسا ملكًا لأحدٍ منهما، ويجب عليهما أن يحافظا على الروح الرياضية، وتجنّب هذه الخلافات التي لا معنى لها، وأن صداقتهما أهم وأقوى من أي مباريات وفرق رياضية، وعندها تصلحا معًا، وقررتُ أن أغادر مكاني للجلوس بجانب السائق.
- لقد تنقلت كثيرًا في الحافلة، ألم تجد مكانًا مناسبًا في هذه المقاعد الفارغة؟ (قال السائق).
- كلُّ مكان كنتُ أختاره للجلوس له قصة تختلف عن غيره، وأخيرًا قررتُ أن أجلس بالمقعد الموازي لمقعدك.
- أهلا بك، لم تبقَ إلا ربع ساعة فقط حتى نصل إلى الموقف، على ما يبدو أنها المرّة الأولى التي تركب فيها هذه الحافلة.
- نعم لم يسبق لي ركوب الحافلة الأخيرة؛ بسبب مكان سكني البعيد، وضرورة عودتي مبكرًا إلى المنزل.
- أقود هذه الحافلة على الخط نفسه منذ حوالي العشرين عامًا، وفي كلّ يوم يصعد وينزل لها الكثير من النَّاس، لكلٍّ منهم قصة لا يعلمها أحد، بعض الذين يجلسون مكانك يقولون قصصهم لي أو يصمتون حتّى وصولهم إلى مكان نزولهم.
- اكتشفتُ هذا الشيء اليوم، فكلّ شخص من الأشخاص الجالسين بالخلف له قصة خاصّة به.
- أي أشخاص لا يوجد أحد يجلس بالخلف؟! (أجاب السائق باستغراب)
- كيف لا يوجد أحد أولئك الذين يجلسون بالخلف؟! (أشرتُ إلى المقاعد)
التفتُ إلى الوراء ولم أجد أحدًا بالحافلة كانت فارغة تمامًا، ولم يكن فيها إلا أنا والسائق فقط، ثم نظرتُ نحو السائق وقلتُ له بل جلس على المقاعد عائلة وشابان ورجل ستيني.
- لم يركب أحد طيلة الطريق، بل أنتَ الراكب الوحيد الذي صعد إلى الحافلة منذ انطلاقها.
- ألم تسمع عراك الشابين وشخير الرجل الستيني وبكاء الطفل الصغير؟! (أجبتُ باستغراب)
- على ما يبدو أنك متعب كثيرًا من يوم العمل الطويل، وأبشرك بأنا قد وصلنا إلى موقف الحافلات، تفضل بالنزول.
 
غادرتُ الحافلة وعلامات الدهشة ما زالت على وجهي، وبعد خطوات قليلة كانت المفاجأة الثانية موقف الحافلات خالٍ تمامًا لا يوجد أحد غيري فيه، حتّى الحافلة الأخيرة لم يعد لها وجود.
 
 
مجد مالك خضر