الأربعاء 4/5/1446 هـ الموافق 06/11/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
اسماعيل السعيد يكتب : بين التطبيل والعويل
اسماعيل السعيد يكتب : بين التطبيل والعويل

بينما كان أحد الخبراء يتصارع على شاشة إحدى القنوات الفضائية حول رفع تذكرة المترو ، كانت الأم في صراع من نوعٍ آخر من أجل اللحاق بالمايكروباص الذي استعاضة عنه ، حيث إنها لا تملك سعر تذكرة المترو في الوقت الحالي ، لتذهب إلى السوق الكبير كي تأتي بالخضار الذي تبيعه يومياً في المدينة الراقية .. بدت الأم شاردة الذهن وهي تبحث في هاتفها ألأسود القديم الذي تحمله ، فقد قاربت الساعة على الخامسة مساءً ولم يرسل ابنها إشارة تنذر برجوعة من المدرسة برنة على الهاتف كما اتفقا سوياً بالأمس .

كان ابنها ذو الاثنى عشر عاماً دائم الغياب عن المدرسة وهو ما يهدد الأم بفقدان معاش "تكافل وكرامة" الذي تعتمد عليه ، بجانب بيع الخضار ، التي تنفق منه عليه وعلى إخوته .

وضعت الهاتف داخل جلبابها الأسود وهي في حيرة من أمرها ، لعله يظهر في اول أيام رمضان ، هكذا حدثتها نفسها ايضاً عن زوجها الغائب منذ شهور .. الذي كان يعمل خبازاً حين تزوجها ولكنها لا تعلم الآن عنه شيئا .. بعد أن نجت الأم وجميع الركاب من رعونة السائق ، وصلت إلى مدخل السوق الكبير واتجهت مباشرةً إلى الداخل باحثة عن زبائن لما تبقى لديها من خضار ،لعلها تتمكن من دفع جزء من مديونيتها لدى التاجر الكبير الذي يعطيها الخضار بالآجل وشراء ما يكفي لإعداد وجبة خاصة لأبنائها في أول يوم من شهر رمضان الكريم .

"رفع سعر تذكرة المترو هو تحرش رسمي بالفقراء في مصر" .. قالها الخبير الاقتصادي على الشاشة ، بينما كانت أعين عسكري المرور وكبار التجار على ناصية الشارع تكاد تخترق العباءة السوداء التي تختفي بداخلها كل يوم .. تجاهلت الأم نظرات الحرمان من حولها وسلمت أذنيها للضوضاء المنبعثة من السيارات والبائعين حتى لا تسمع سخرية المتسكعين في الأسواق .

وفي طريقها إلى التاجر الكبير ، اخذ منها التفاتة منظر الزحام الشديد على محل اللحوم في وسط الشارع .. كانت قد وعدت أبناءها بوجبة لحوم على إفطار يومهم الأول من رمضان ، ترددت وأخذت تسأل نفسها هل تذهب الآن أم تنتظر حتى ينتهي الزحام .. لم تنتظر كثيراً ، حيث أثار الضجيج والصياح القادم من هناك فضولها فذهبت لترى ماذا يجري هناك ، 60 جنيه إزاي يا عم أمال اللحمة نفسها بكام ؟

كانت صيحة سيدة مسنة في وجه البائع ، فأجابها ب140 جنيه يا أمي .. خلصنا يا عم إعمل معروف .. الصبر يا عم الحج ما لازم حد يشتري اللحم عشان أبيعلك العضم .. إحنا بايعين ٣٠ كيلو انهارده ، على العموم بنجهز طلبك جوه .

وقفت غير مصدقة أن سعر الشغط ، (ما يتساقط من اللحم) ، يباع ب 60 جنيهاً للكيلو ، وهو ما كان ذات يوم سعر كيلو اللحمة نفسها منذ فترة غير بعيدة .

كان على الأم الاختيار بين التضحية بعشرات الجنيهات للوفاء بوعدها للأبناء أو تسديد 70 جنيهاً قيمة القسط اليومي للتاجر الكبير . فقررت التفاوض مع التاجر لإعطائه نصف اليومية فقط والاستعاضة عن اللحمة بكيلو من الشغط للأبناء حتى يقضي الله أمرا كان مفعولاً .

وفي طريقها إلى التاجر الكبير ، مرت من أمام القهوة المشهورة في السوق لتشرب بعض الماء ، لعلها تجد من يشتري منها ما تبقى من خضار .

"رفع سعر تذكرة المترو سيعود نفعه على الغلابة في المستقبل"، هكذا كان رد الخبير الثاني على الأول .. يا عم اتلهي ، هكذا صاح صاحب القهوة من خلف دخان شيشتة .. يعني إيه ارتفاع سعر التذكرة يعود نفعه على المواطن يا حج ، محدثاً رجلا في منتصف العمر يبدو على وجهة قدر من الثقافة والعلم . لما كمية الفلوس تزيد في خزينة مرفق المترو هتزداد مرتبات الناس وهتقل الأسعار على أشياء أهم ، هكذا أجاب الرجل. "هي فين الفلوس الزيادة دي ماشفنهاش ليه قبل كده لما غلوا كذا ، وكذا ؟" قالها المعلم وارتفعت الضحكات في القهوة وارتفع معها الدخان .

اقتربت منهم قائلة ، حزمة الخضار ب7 جنيه وهديهولك ب5 عشان خاطرك .. انا في آخر الْيوم وعايزه أروح يا حج .. أخذ منها ما تبقى معها من خضار ، حيث إنه اعتاد منذ زمن ممارسة عبادة جبر الخواطر ، وأعطاها النقود وزجاجة مياه غازية كانت أمامة .. هو صحيح الأسعار هاتنزل لما التذكرة والمواصلات تغلى يا حج؟

ربنا يفرجها من عنده يا بنتي ، هكذا أجابها الرجل .

ممكن على آخر السنة تقريباً ؟

سألته مرة أخرى ، فأجاب قائلاً يا بنتي "أسعار السلع التي تهمك لن تنخفض".

تصور سعر كيلو اللحمة في السوق تعدى المائة جنيها؟

لم أجد أمامي سوى الشغط الذي ارتفع سعره هو الأخر إلى 60 جنيهاً .. الله يخرب بيت الدولار يا حج ، قالتها بحسن نية وكما اعتادت ان تسمع من الخبراء بأن السبب يرجع الى أرتفاع سعر الدولار .. سألها الرجل ، وماذا كُنتم تأكلون قبل ذلك ؟

أجابته الأم في خجل "شغط بردوا"، فضحك الجميع ، وهنا صاح الخبير من خلف الشاشة قائلا "يجب تطبيق قواعد الحكومة الرشيدة و...." وقبل أن يُكمل ، قام صاحب القهوة بتغيير المحطة في ضيق ، فظهر المذيع المشهور بصوته الشهير وهو يحث الناس على العمل وبجانبه رجل الأعمال الذي يشكو قلة العمالة المحلية ويندد بإحجام الشباب عن العمل في مصانعه ناصحاً الشباب : بدلاً من أن تلعنوا الغلاء إنزلوا للعمل ، ثم ذهب المذيع إلى فاصل فقام صبي القهوة بتغيير أحجار المعسل للزبائن قبل أن يواصل ..