الخميس 10/6/1446 هـ الموافق 12/12/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
حديقة المؤسسة....مجد مالك خضر
حديقة المؤسسة....مجد مالك خضر

حديقة المؤسسة

أمسك أبي يدي وركضنا بسرعة نحو منزلنا، كنتُ ما أزال أحمل أرغفة الخبز التي استطعنا الحصول عليها من خيمة المساعدات، كان النّاس يركضون في كلّ اتّجاه وعلى غير هدى، بعد سقوط الكثير من القذائف على قريتنا، فكّرنا منذ بداية الحرب أن نرحلَ عن القرية، ولكن بسبب إغلاق الطرق التي توفّر لنا العبور إلى قرى أو مدن أخرى بعيدة عن ذيول الحرب أرغمنا على البقاء وانتظار مصيرنا.

أثناء هربنا من القذائف والرصاص مررنا من أمام بقايا حديقة المؤسسة، التي كانت في الماضي جزءًا من طفولتنا المفقودة مبكرًا نتيجة للحرب، بكلّ مكانٍ من الحديقة كانت لي ذكرى، بين ورودها وأزهارها، وفي الألعاب التي كنا نلعبها بأرضها الواسعة، والأرجوحات الموزعة على أغلب أماكنها، وبائع الفول والفشار، وغيرها من الذكريات التي رحلت ولن تعود.

***

كنتُ في العاشرة من عمري عندما انتهى إنشاء (حديقة المؤسسة)، وعُرِفت بهذا الاسم بسبب إنشائها على نفقة مؤسسة الحديد العامة؛ إلا أن اسمها الرسمي هو حديقة النرجس؛ لأنها مزروعة بأزهار النرجس. كنا عائلة جميلة جدًا أنا وأختي الصغيرة التي تصغرني بخمس سنوات وأمي وأبي الذي يعمل نجارًا، كنتُ فتاةً ذكية هكذا تقول المعلمات عني لأمي التي تزورني في المدرسة بصورة شبه دائمة، للاستفسار عن دراستي وأحوالي الدراسية.

في أغلب عُطل نهاية الأسبوع كان أبي يأخذنا إلى حديقة المؤسسة، فهي من الأماكن المشهورة التي تجتمع فيها العائلات للاستمتاع بالعطلة، وكنت ألتقي فيها مع صديقاتي اللواتي يدرسن معي في المدرسة، وكان الوقت يمضي دون أن نشعر بمروره، وتميّزت حديقة المؤسسة بأنها تجمع جميع النّاس معًا، مهما كانت حالتهم الاجتماعية أو نوعية وظائفهم ومهنهم، فمثلًا جارتنا التي تتباهى بأن زوجها صاحب محل مجوهرات، وترتدي أجمل الحلي، كانت تزور الحديقة بين حين وآخر، لتستعرض ثراءها، وجارتنا الفقيرة التي أنجبت خمسة أطفال متتابعين وبطنها منتفخ بالسادس، لم تفوّت نهاية الأسبوع لزيارة الحديقة؛ لأنها المنطقة الوحيدة المجانية التي تترك أطفالها يلعبون في ساحاتها حتّى غروب الشمس.

هكذا كانت حياتنا خليطًا من البساطة والهدوء، وبعيدة عن أي تعقيدات أو أزمات، أمّا أكبر مشكلاتنا لم تتجاوز سوء تفاهم بين الجيران أو عراك بين الأطفال، وكانت الأيام تكفل حلّها، فلا يظلّ الشقاق أو النزاع بين شخصين أو أكثر؛ إلا وساهم سكان القرية في التوفيق بين المتنازعين، وكان الجميع يعرف بعضهم بعضًا، نتشارك الأفراح والأتراح، ونكرم الضيوف الذين يمرّون من قريتنا أو يأتون لها بعد أن تقطعت بهم السبل للعودة إلى ديارهم.

***

قبل وصول نيران الحرب بأيام قليلة إلى قريتنا، كانت الحياة شبه هادئة وشاهدنا على نشرات الأخبار مدى تأثير الحرب في المدن والقرى الأخرى، وكانت أمي تبعث الطمأنينة في نفوسنا، وتخبرنا بأن كلّ شيء سينتهي، ومن المؤكد أن الحياة ستعود لطبيعتها، ولكن كان الهدوء الذي عشنا فيه هو الصّمت قبل اندلاع الحرب، والتي بدأت مع سقوط أوّل قذيفة في وسط الطريق الرئيسي، وكانت السبب في هرب النّاس للاختباء في منازلهم أو التوجّه إلى الملجأ الوحيد في القرية، والذي لم يكن جاهزًا لاستقبال العدد الهائل من اللاجئين، ثم تتابع سقوط القذائف التي لم تفرّق في أهدافها بين البيوت أو النّاس.

***

بعد ركض طويل وصلنا إلى المنزل، ولكن لم نرَ إلا الغبار والدخان الأسود الكثيف الذي حوّل ضوء الصباح إلى ظلام قاتم، أمّا منزلنا قد اختفى تمامًا وأصبح بقايا ركام، صرخ أبي مناديًا على أمي وأختي، ولم نسمع أي صوت، وذهبنا نحو أطلال منزلنا وبدأنا نبحث عنهما، ولكن دون جدوى، وأثناء بحثي عثرتُ على لعبة قطنية مهشمة كانت لأختي، ولم تفارقها أبدًا، وفي غمار بحثنا سقط أبي مغشيًا عليه، وبكيتُ حتّى نمتُ أو غبتُ عن الوعي.

***

انتهى ذلك اليوم غير واضح الملامح، وخرجنا من الملجأ الذي تمكّن أبي أن يجمعنا فيه، كانت قريتنا قد تدمّرت جزئيًا، أغلب المنازل سقطت بفعل القذائف، وبعض المحلات التجاريّة اشتعلت النيران فيها، وحديقة المؤسّسة الشاهدة على طفولتنا الجميلة، تعرضت لحريق بسيط في بعض أشجارها، واستطاع أهل القرية والمشرفون عليها إطفاء النار قبل أن تلتهم بقاياها.

***

استيقظتُ على ضوء ساطع جدًا، كنت ممددةً على الأرض برفقة مجموعة من الأطفال الآخرين، وأدركتُ أني داخل مشفى أو مستوصف طبي، اقتربت مني فتاة ترتدي روبًا أبيضًا، وسألتني إذا أشعر بألم، ولكن أجبتها بأني أريد أبي، فأخبرتني أنها لا تعلم أين هو، فقفزةُ لأبحث عنه وركضتُ في الممر، ولحقت الفتاة ورائي وطلبت مني التوقف، ولكن لم أسمعها بل صرختُ بحثًا عن أبي، وأثناء ركضي لمحتُ الكثير من أجسام النّاس ملقاة على الأرض، وأخرى مستلقية على الأسرّة القليلة التي حشر على بعض منها شخصان، وأخيرًا رأيتُ أبي الذي كان ممددًا على سرير وفاقدًا للوعي، مسكتُ يده واحتضنتها ولكنه لم يرد، حاول الممرضون إعادتي إلى الغرفة التي كنت فيها، ولكن قاومتهم وبعد إصراري تركوني بجانبه.

***

عدنا إلى المنزل بعد مغادرتنا للملجأ وحالتنا صعبة جدًا، ولم يكن منزلنا من المنازل التي تعرضت للتدمير حتّى ذلك الوقت، وقرر أبي أنه بات من الضروري رحيلنا عن القرية، والذهاب إلى قرية أو مدينة لم تصلها نيران الحرب، وسوف ينتظر اللحظة المناسبة للرحيل... مرّت بضعة أيام كان الهدوء النسبي هو المؤثّر فيها، وفي يوم منها احتجنا إلى الخبز، ولم يبقَ في منزلنا الكثير من الطعام، ومخبز الحي تعرّض للقصف، وكان الخبز الوحيد المتوفّر هو الذي تقدّمه خيمة المساعدات، فغادرتُ مع أبي المنزل للحصول على حصتنا من الخبز.

***

بعد مرور ثلاثة أيام على وجودنا في المستوصف الطبي خرجنا منه، حاولنا أن نغادر القرية، ولكن جميع الطرق مغلقة، ولا توجد أي ممرات آمنة للعبور منها، وكانت الهيئات المسؤولة عن تقديم المساعدات قد بدأت تتلاشى؛ بسبب تعرض مراكزها للقصف، ولكن استطعنا الالتحاق بإحدى الخيم التابعة لهيئة إنسانيّة، وكان مكان سكننا الجديد بالقرب من حديقة المؤسسة، وعندما شاهدته للمرّة الثّانية وهي بهذه الحالة بكيتُ كثيرًا، وتذكّرت ذكرياتنا الجميلة في ساحاتها، وسألتُ أبي عن أمي وأختي، وقال لي بأنه متأكد من أنهما على قيد الحياة.

***

مضى أسبوع على وجودنا في المخيم، كنتُ أخرج مع بعض الفتيات للعب أمام الخيم، وفي إحدى المرات قررنا الذهاب إلى حديقة المؤسسة، كانت مدمّرة تمامًا لم يبقَ فيها أي شيء على حاله، وعندما وصلتُ إلى ساحتها وجدتها قد تحوّلت إلى مسرحٍ للأنقاض، فبكيتُ كثيرًا على طفولةٍ ضاعت بين ركام ورصاص الحرب، وعدتُ مسرعةً إلى الخيمة، وبكيتُ كثيرًا حتى نمتُ من التعب.

***

بعد مرور قرابة الشهر على مكوثنا في المخيم، أخبرونا بأن هدنة عقدة ليومين ويوجد معبر آمن يستطيع كلّ من يريد مغادرة القرية المرور منه في ساعات الصباح الأولى، مع توخي الحذر والإسراع قبل انتهاء المهلة المحدّدة للهدنة، وأخبرني أبي بأننا سنرحل مع أوّل أشخاص يرحلون خارج القرية، رفضتُ الرحيل وأخبرته بأني سأنتظر في المخيم لحين اللقاء مع أمي وأختي.

***

غلبني النعاس مساءً، ولم ألحظ أبي الذي كان قد جمع أغراضنا مستعدًا للرحيل، واستيقظتُ محمولةً بين ذراعيه، عندما اقتربنا من بقايا سور حديقة المؤسسة، فأخبرني بأننا في طريقنا للرحيل، حاولتُ التملص من ذراعيه، ولكنه طلب مني أن أظلَّ هادئة، وأخبرته بضرورة انتظار أمي وأختي، وحاولتُ الهروب منه، وكانت هذه المرّة الأولى التي يغضب فيها مني، فقال غاضبًا "أمكِ وأختكِ توفيتا أرجوكِ افهمي ذلك جيّدًا".

بكيتُ كثيرًا ونظرتُ إلى وجهه كانت بعض الدمعات قد تساقطت على خديه، أمّا حديقة المؤسسة أو بقاياها بدأت تغيب عن عيني تدريجيًا، بعد مشينا لمسافة طويلة نسبيًا سمعنا أصوات رصاص متفرقة؛ إذ خُرقت الهدنة أكثر من مرّة، وكان أبي يخفّف عليَّ ويطلب مني التحمّل والصمود، وقد أسرعنا في المشي كثيرًا هربًا من المجهول وذهابًا نحو المجهول.

أسرعنا الخُطى بعد تتابع أصوات الرصاص الذي لم ندرك مصدره، وأثناء هربنا سقط أبي على الأرض، وصرخ من الألم كان كتفه ينزف بغزارة، حاولتُ مساعدته لكن لم أنجح في تضميد جرحه، كانت رصاصة قد اخترقت الكتف واستقرت فيه، لم يلتفت لنا أي من الأشخاص الذين شاركونا رحلة النزوح، إلا رجل عجوز وزوجته وقفا بجانبنا، ولكن لم يستطع الرّجل حمل أبي الذي بدء يفقد وعيه، وسمعنا أصواتًا لرجال يركضون باتّجاهنا، وقال أبي لي قبل أن يغيب تمامًا عن الوعي ارحلي معهما، ولكن رفضت وأخبرته بأني سأموت معه، فأشار للمرأة أن تأخذني معها، فحملتني وركضت مع زوجها، ولم تنجح محاولاتي في العودة إلى أبي الذي لا أعلم عنه شيئًا حتى اليوم.

***

هذه قصتي وقصة الكثير من الأطفال الذين عانوا من أهوال الحرب، ومع فقدانهم لعائلاتهم وذكرياتهم ومنازلهم ومدارسهم لم يفقدوا شيئًا واحدًا فقط، وهو الأمل بالحياة.

 

مجد مالك خضر