الجمعة 10/10/1445 هـ الموافق 19/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
كلنا محاصرون.... بقلم إيناس زيادة
كلنا محاصرون.... بقلم إيناس زيادة

استوقفني قبل فترة خبر استحواذ كوكاكولا على كوستا أي أن صانع القهوة أصبح مملوكاً لكوكاكولا، شركة المشروبات الغازية الأشهر لدى عالم المقاطعة تحديدا. وجولة سريعة على المحلات التجارية والمقاهي في معظم مراكز التسوق العالمية تعطينا لمحة سريعة عن هيمنة إقتصادية كبيرة لكل من نفكر بأن علينا مقاطعتهم، هيمنة تشمل مأكلنا ومشربنا وملبسنا ووصولا حتى كيفنا. أليس هذا هو الحصار الإقتصادي بعينه؟

وهكذا بات عالمنا محكوم بقوى إقتصادية تقرر لنا ما نحب وما يسعدنا، فترانا نتبجح بمنتجات لو تفكرنا قليلاً لذهلنا من القدر الذي نسهم فيه في بناء اقتصاد عدونا المباشر، ولربما لن نصدق أننا قد نتبرع ببناء مستوطنة دون علم مباشر منا، بل من خلال سلع نستطيع لو أردنا الإستغناء عنها.  نعم .. نحن وصلنا إلى هذا الدرك دون دراية، أو ربما ببعض دراية، مصحوبة بحالة من النكران.

 

وفي هذا السياق، استذكر هنا ذلك الفيديو المتداول على منصات التواصل الاجتماعي لمحاضر يدعو للاستغباء وتقليل التذاكي كي نستطيع التعامل مع غباء الآخرين ونعيش دون توتر.  قد تكون هذه هي الرسالة الحقيقية، وقد يكون هذا هو المطلوب منا، أن نهبط بمستوى الذكاء إلى الحد الذي يجعل أي شيء مقبول، ونستهجن كل من يرفض ما أصبحنا نراه من المسلمات.  بمعنى أننا أصبحنا نقيس تطور دولة ما بعدد ما لديها من فروع لماكدونالدز وستاربكس، ونجد أن الدولة التي لا تسمح لهذه المطاعم بالانتشار لديها، على درجة عالية من التخلف. 

هذه الحملات في غالبها تستهدف المواطن متوسط الدخل الذي يقبل على هذه المنتجات وكأنها الخلاص أو ترياق الحياة الذي حرم منه طويلاً، وذلك لما يرافق هذه السلع من ترويج على أنها مرتبطة بالرقي الاجتماعي.

لماذا لا نتفكر فيما يحاصرنا من سلع؟  ولماذا نفتقر لذلك الإيمان بأن شخص واحد يمكن أن يحدث فرقاً؟

بدأت منذ فترة بمتابعة حركة مقاطعة المنتجات الإسرائيلية BDS، ووجدت في بداية مشواري الخاص في المقاطعة سعادة غريبة، إذ جعلتني إنسان ذو قضية، لا أقبل بالمسلمات وأحاول المقاومة قدر الإمكان، لكنني فوجئت بتدخل الآخرين الصارخ واستهزائهم من مجرد رفضي لبعض المنتجات، وغالباً ما أواجه بالعبارة ذاتها: وهل تظنين أن مقاطعتك ستؤثر عليهم؟

نظرة سريعة في كتب التاريخ، تبين أن الأمم تنهار عندما تنهشها من الداخل القوى الربوية التي تتغلغل في النظام الإقتصادي إلى الحد الذي يجعل الدولة تعتمد عليها.  فلا بقاء دون استقلال اقتصادي! 

وهذه الحقيقة أدركتها القوى الاستعمارية التي عملت دوما على نخر الإقتصاد لتهيمن عليه وتصبح الهواء الذي تتنفسه الدول المستهدفة. 

في الماضي القريب، كان العالم العربي ينتج قمحه وقطنه ووقوده، وما كان ذلك ليرضي أحد من القوى العالمية التي لا تريد أن يقوم لهذه المنطقة قائمة، فما كان منهم إلا أن أنهكوا المنطقة بالحروب لاستنزاف منابع ثرواتها ومن ثم استهدفوا القيادات التي جلبوها لتتفق معهم على وقف إنتاج القمح والقطن، ناهيك عنسلة غذاء العالم العربي التي تعاني الجوع، إلى أن وصلنا الآن إلى الحملة الأخيرة على النفط الذي يخضع منذ أمد لحملة تجفيف لينتهي بذلك عهد الثروات العربية. 

ليست هذه بطروحات اقتصادية، بل هي مجرد تساؤلات قد تفسر سلوك المواطن العربي الذي بات لا يشعر بانتماء ولا وطن، شغله الشاغل متابعة كل ما يستجد من سلع قد يرى في امتلاكها ما يميزه أو يتفوق به على سواه، ليصبح أغلى ما فيه حقيبة أو حذاء. 

بسيادة الفوضى هذه تقوم دول وتنهار أمم، وتتشرذم منطقة ربما مر عليها يوم كانت فيه أمة واحدة. طالت هذه الفوضى القيم الدينية، وتم التشكيك بكل ما يرتبط بالإيمان، واقتنعنا إلى حد كبير أن كل متديِن هو مشروع إرهابي.

 

إن معركتنا في حقيقتها هي معركة قيم وأخلاق، لأن فاقد القيم قابل للتعامل مع من يدفع له أكثر، وفاقد الأخلاق لا يأبه إن نهب أو قتل أو ....

إذا، محصلة الأمر أننا جميعا داخل هذا الحصار، إما سلعهم وإلا فلن نأكل أونشرب أونتستر. 

لن تعود الأوطان دون قدرة على الاستقلال الإقتصادي الذي لن يترك مجالا لابتزاز أي طرف، ولن نستقل اقتصاديا طالما شعرنا أن يداً واحدة لا تستطيع أن تصفق؛ بل تستطيع أنت بامتناعك عن سلعة ما بتعطيل إتمام مستوطنة، وأنا أستطيع كذلك بامتناعي عن قبول ما لا لبس فيه من بضائع، أن أحرمهم من وضع آخر برغي في سلاح سيصوبونه على عشيرتي وأهلي.