الخميس 18/9/1445 هـ الموافق 28/03/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
التباس العلاقة بين المنظمة والسلطة....د. سنية الحسيني
التباس العلاقة بين المنظمة والسلطة....د. سنية الحسيني

 تعتبر منظمة التحرير الفلسطينية أساس النظام السياسي الفلسطيني الحالي ونقطة إرتكازه. فقد أعادت المنظمة ملامح الهوية الفلسطينية كما وضعت اطاراً مؤسساتياً سياسياً وقانونياً لشعب يقبع نصفه تحت الاحتلال والنصف الآخر مشرد لاجئ يعيش غريب مبعد عن وطنه. ولم تغير نشأة السلطة الوطنية الفلسطينية بعد توقيع اتفاق أوسلو من واقع النظام السياسي الفلسطيني، لأنها جاءت بتكليف من المنظمة نفسها وتحت إشرافها، وضمن مهام إدارية محددة لسلطة حكم ذاتي إنتقالي مؤقت في إطار مناطق محتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة. إلا أن التجاوزات الكبيرة بتهميش السيادة القانونية والسياسية لمنظمة التحرير لصالح السلطة الوطنية أدخلت الواقع الفلسطيني في مأزق خطير متصاعد. وشكل فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية للسلطة أبرز مظاهر ذلك المأزق. وقد يكون إعادة الاعتبار السياسي والقانوني لمكانة المنظمة وتقسيم الصلاحيات بينها وبين السلطة حسب الاصول، هو السبيل الوحيد لإعادة التوازن السياسي للحال الذي وصلت اليه البلاد اليوم .

تعرض الفلسطينيون خلال العصر الحديث لتطورات سياسية معقدة، أثرت بشكل جلي على مخرجات نظامهم السياسي. فما بين خضوع الفلسطينيين لسلطة الدولة العثمانية ثم لسلطة الاحتلال البريطاني ومن بعدها لمؤامرة سايكس بيكو التي سلخت فلسطين عن إمتدادها الجغرافي الطبيعي مع بلاد الشام عندما وضعت الحدود السياسية لفلسطين، اكتملت فصول المؤامرة  بتكليف بريطانيا كسلطة إنتدابية على البلاد، لصالح تمكين اليهود في أرض فلسطين. لقد خرج الفلسطينيون من هزيمة عام 1948 في أضعف حالاتهم فما بين إحباط الهزيمة وتشرد مئات الآلاف من أبناء الشعب وضعف وإنقسام عربي وعجز قيادي فلسطيني وقفت القضية الفلسطينية عند مفترق طريق خطير. 

ورغم أن تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، والذي جاء بناء على تكليف من جامعة الدول العربية في قمتها الاولى مطلع عام 1964، كان في ظل ظروف ومعطيات معقدة ومتداخلة، إلا أن المنظمة نجحت في لم شمل الفلسطينيين في إطار مؤسسي قانوني، الامر الذي يعتبر انجاز من الصعب إنكاره في ظل ما كانت تمر به القضية الفلسطينية آنذاك. 

أصبحت المنظمة الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني والموجه الرسمي للسياسة الفلسطينية، وأصبح ميثاقها ونظامها الاساس يقوم بوظيفة الدستور، فرسخ مفهوم  الهوية الفلسطينية، وجسد عملياً واقع النظام السياسي الفلسطيني في ظل بقاء الاحتلال. فاعترف جميع أعضاء الجامعة العربية بالمنظمة كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني عام 1974، كما أصبحت المنظمة عضواً فيها، وانضمت إلى عضوية منظمة المؤتمر الاسلامي، وأصبحت عضواً مراقباً في الأمم المتحدة. وعام 1976 صدر بيان من قبل فلسطيني الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1948 يؤكد على أن المنظمة تمثلهم أيضاً.


لم يكن الأداء السياسي العام للمنظمة بدون أخطاء أو انتقادات. كما أن البنيان القانوني لأذرع منظمة التحرير المختلفة عكس نظرياً شكلاً ديمقراطياً، في حين واجهت الممارسة الديمقراطية الفعلية صعوبات عديدة في كثير من الأحيان. إلا أن منظمة التحرير بقيت الإطار الفلسطيني الرسمي الجامع والمتفق عليه من قبل الفلسطينيين وغير الفلسطينيين.   
 
وواجهت المنظمة العديد من العوامل التي ساهمت في إضعافها، سواء على المستوى العسكري بعد خروجها من لبنان أو على المستوى المالي بعد حرب الخليج أو على المستوى السياسي بعد صعود مكانة حركة حماس في الاراضي المحتلة خلال سنوات إنتفاضة الحجارة، ورفضها الانضواء تحت مظلة المنظمة وإعلانها عن ميثاق بديل عن ميثاق المنظمة، إلا أن أزمة المنظمة الكبرى جاءت بعد قيام السلطة الوطنية. فلم يتم الإكتفاء بالخلط بين دور المنظمة والسلطة رغم السيادة الدستورية للأولى على الثانية، بل جرى العمل على نقل صلاحيات المنظمة القيادية إلى السلطة، الأمر الذي أحدث خللاً كبيراً في منظومة الحكم، ظهرت بوضوح بعد فوز حركة حماس في الإنتخابات التشريعية عام 2006.
 
ليس هناك أدنى شك في سيادة وسمو المنظمة قانونياً على السلطة. فقد تشكلت السلطة الفلسطينية عام 1993، بعد رسائل الاعتراف المتبادلة بين منظمة التحرير وإسرائيل، حيث إعترفت المنظمة بحق إسرائيل في الوجود، بينما إعترفت إسرائيل بالمنظمة ممثلاً عن الشعب الفلسطيني، وبعد إقرار إعلان المبادئ الذي نص على ترتيبات إنشاء حكومة ذاتية إنتقالية، لفترة لا تتجاوز الخمس سنوات. ورسخ إتفاق غزة ـ أريحا مصطلح السلطة الوطنية، بعد تشبث قيادة المنظمة به، تيمناً بما جاء في برنامج النقاط العشر.
 
وجاء إقرار المنظمة باقامة السلطة بعد مصادقة المجلس المركزي للمنظمة في تونس في الشهر التالي لإعلان المبادئ، حيث فوض المجلس المركزي اللجنة التنفيذية بتشكيل السلطة، بناء على قرار المجلس الوطني، على أن تكون المنظمة مرجعيتها، وهو ما أعاد القانون الأساس للسلطة التأكيد عليه. ونصت المادة الثانية من الإتفاقية المرحلية والتي وقعت في واشنطن عام 1995 على إلتزام المنظمة باجراء إنتخابات سياسية عامة لمجلس السلطة (المجلس التشريعي) ولرئيسها، مع التأكيد على أنها ليست بديلاً عن المنظمة. واعتبر قانون الإنتخابات الفلسطيني الصادر نهاية عام 1995 أن أعضاء المجلس هم أيضاً أعضاء في المجلس الوطني، على اعتبار أن المجلس التشريعي يعمل ضمن إطار المجلس الوطني. كما أن صلاحيات المجلس التشريعي محددة ضمن فترة إنتقالية وضمن نطاق الضفة الغربية وقطاع غزة، في حين احتفظ المجلس الوطني بصفته التشريعية والتمثيلية للشعب الفلسطيني كله.
 
وأكدت المادة التاسعة في فقرتها الخامسة (ب) من الاتفاقية المرحلية على أنه ليس من صلاحيات المجلس ممارسة أية مسئولية تتعلق بالعلاقات الخارجية، على أن تقوم المنظمة بالمفاوضات وتوقيع الاتفاقات مع الدول أو المنظمات الدولية لصالح المجلس في الامور التالية: إتفاقات إقتصادية (الملحق الخامس) وإتفاقات مع الدول المانحة وإتفاقات تنفيذ خطط تنموية إقليمية (الملحق الرابع) وإتفاقات علمية وتعليمية وإتفاقات في إطار المفاوضات المتعددة.
 
ليس هناك شك في حالة التهميش التي لحقت بدور المنظمة لصالح السلطة، والتي بدأت حتى قبل قيام السلطة  فعلياً على الأرض، وقائمة الشواهد على ذلك طويلة. فاشترطت المنظمة عندما أقرت إقامة السلطة أن يكون رئيس السلطة هو نفسه رئيس اللجنة التنفيذية، وأن تتشكل السلطة من عدد من أعضائها، وهو الامر الذي تسبب في خلق إزدواجية وخلط كبير بين دور المؤسستين. فقد تجاوزت السلطة على سبيل المثال في ممارستها للسياسة الخارجية صلاحيات المنظمة المنصوص عليها في إتفاقات أوسلو نفسها. فأصبحت السلطة بكوادرها ومؤسساتها صاحبة القرار السياسي الفلسطيني الحقيقي،  في حين حيدت المنظمة وباتت مجرد هيكل صوري.   

كشف نجاح حركة حماس في الانتخابات التشريعية عن عمق أزمة النظام السياسي الفلسطيني، التي عكسها الخلل في تطبيق التزام السلطة بمهامها الادارية وقفزها على صلاحيات المنظمة السيادية في صنع القرار السيااسي. ولو أن مكانة وصلاحيات السلطة بقيت ضمن حدودها الادارية حسب النص والقانون، لحافظ النظام السياسي الفلسطيني على توازنه في ظل صعود أي فصيل سياسي غير حركة فتح في إنتخابات السلطة، والتي تسيطر على قرار المنظمة.
 
ليس هناك حل للتخلص من المأزق الفلسطيني الحالي وحالة الانقسام إلا باستعادة المنظمة لدورها التمثيلي والسياسي والقانوني واستكمال إصلاح مؤسساتها. فليس من المنطقي أو المقبول أن ينتهي دور المنظمة قبل أن تحقق الهدف الرئيس الذي جاءت من آجله قبل أكثر من خمسة عقود. وليس من الممكن أن تقود السلطة السياسة الفلسطينية وحدها في ظل إستمرار إحتلال يقيدها باتفاقات وإختلال في موازين القوى على الأرض لصالحه. إن الصيغة التكاملية وتقسيم العمل بين صلاحيات المنظمة السيادية والقيادية وصلاحيات السلطة الادارية، بما في ذلك اعادة تحديد وظيفتها ومهامها، هي الطريق الوحيد للحفاظ على المشروع الوطني الفلسطيني.