الأربعاء 15/10/1445 هـ الموافق 24/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
الذكرى 43 ليوم الأرض.....محمود كعوش
الذكرى 43 ليوم الأرض.....محمود كعوش

الذكرى 43 ليوم الأرض بقلم: محمود كعوش 

"30 آذار/مارس 1976"
يوم الأرض...يوم العزة والكرامة

 

يستقبل الفلسطينيون في كل مكان ذكرى "يوم الأرض" المباركة في 30 آذار/مارس من كل عام بكثير من الحزن والألم على الشهداء الفلسطينيين الأبرار الذين سقطوا في ذلك اليوم المشهود. ويزيد في حزنهم وألمهم أن المناسبة تحل عليهم عاماً بعد عام في ظل أوضاع غريبة وشاذة تطغى بشكل شامل وكامل على المشهد العربي من المحيط إلى الخليج، بحيث أصبح من المتعذر معها لم شمل الحكام العرب "بطيب خاطر وحسن نية" تحت سقف واحد لمناقشة قضايا الأمة المصيرية ومحاولة إيجاد الحلول الناجعة لها، بعيداً عن مخاطر التدخلات الخارجية، وبالأخص الأميركية ـ الصهيونية المشتركة.
وشهدت على ذلك أكثر من قمة عربية، منها القمة العشرون التي انعقدت في العاصمة السورية دمشق بين 29 و 30 آذار/مارس 2008، والتي تصادف اختتام جلساتها مع إحياء الذكرى السنوية الثانية والثلاثين لانتفاضة "يوم الأرض". فما سبق انعقاد تلك القمة من شد وجذب وقيل وقال واتهامات متبادلة بين عرب "السلام والاعتدال" وعرب المقاومة والممانعة جعل من انعقاد تلك القمة "قضية القضايا" التي تقدمت على كل قضايا الأمة الكثيرة المعقدة والشائكة!!
وشهد على ذلك أيضاً قيام بعض الحكام العرب بإلغاء المهرجانات الثقافية التي كانت مقررة ذلك العام في العديد من عواصم ومدن بلدانهم بمناسبة ذكرى انتفاضة "يوم الأرض" الفلسطينية، قبل ساعات قليلة من المواعيد المقررة لها، لاعتبارات تعرفها الجماهير العربية، وكان من أبرزها الظروف الصعبة والمعقدة التي كانت تمر بها الأمة العربية والتي كانت تتطلب العمل من أجل التضامن العربي، ولو في الحدود الدنيا!!
أما فلسطينيو الداخل، الذين احتلت أراضيهم عام 1948 وكان لهم الدور الطليعي في أحداث ذلك اليوم العظيم، فيحيون ذكرى اليوم المجيد الذي اغتيل لهم فيه عام 1976 ستة من أبنائهم البررة برصاص القوات الصهيونية المجرمة والغادرة، التي حاولت كسر شوكتهم ومنعهم من تنفيذ قرارهم بالإضراب الاحتجاجي ضد مصادرة أراضيهم، بذات الحزن والألم الممزوجين بالتعبير عن غضبهم ونبذهم للاحتلال البغيض، إلى جانب قيامهم بنشاطات كثيرة في كل قرية وبلدة ومدينة، مثل المظاهرات والمهرجانات الاحتجاجية والندوات والمحاضرات والبرامج اللامنهجية في المدارس، إضافة إلى زيارات قبور الضحايا لقراءة الفاتحة على أرواحهم الطاهرة.
إن "يوم الأرض - 30 آذار/مارس 1976"، بكل ما حمله من معانٍ سامية وما رافقه من وحشية ودموية صهيونية، وما نجم عنه من نتائج واستحقاقات، كان ولم يزل يُمثل حدثاً تاريخياً مهماً وملمحاً سياسياً مضيئاً في تاريخ الشعب الفلسطيني ونضاله الوطني، وتاريخ الأمة العربية ونضالها القومي، باعتباره اليوم الذي عبر فيه فلسطينيو الداخل عن رفضهم القاطع لسياسة الأمر الواقع التي فرضتها عليهم سلطة الاحتلال الصهيوني، من خلال انتفاضة عارمة أعلنوا فيها عن تشبثهم بأرض الآباء والأجداد، وتمسكهم بهويتهم الوطنية، وبحقهم المشروع في الدفاع عن وجودهم وانتمائهم الوطني والقومي، رغم مؤامرة التهويد المتواصلة والمترافقة مع عمليات الإرهاب والقتل والتنكيل التي ما برحت تلك السلطة العاتية تمارسها بحق الشعب الفلسطيني منذ عام النكبة الكبرى، بهدف اقتلاعه من أرضه وتهجيره وإبعاده عن وطنه وتشتيته في أصقاع المعمورة، ومحاولة تذويبه في مجتمع آخر لا يرتبط به بشيء من التقاليد والعادات والأعراف والتاريخ والجغرافيا والآلام والآمال المشتركة.
وكما شكلت الأرض محور الصراع الفلسطيني ـ الصهيوني بشكل خاص والصراع العربي ـ الصهيوني بشكل عام بالنسبة للصهاينة منذ ولادة كيانهم المصطنع بطريقة قيصرية في قلب الوطن العربي عام 1948، وفق ما أشرت إليه جميع أدبياتهم وخرافاتهم التوراتية التي اعتبرت "زوراً وبهتاناً" أرض فلسطين "ركيزة إنجاح المشروع الصهيوني الذي بشر به تيودور هرتزل اليهود أثناء انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية عام 1897 وتبنته في ما بعد جميع المؤتمرات الصهيونية الأخرى"، كانت الأرض ولم تزل وستبقى تشكل لب قضية وجود ومستقبل وبقاء الفلسطينيين، وربما العرب أجمعين، الأمر الذي جعل من التشبث بها والنضال الدؤوب من أجل الحفاظ عليها وعدم التفريط بها، والنضال المتواصل من أجل تحرير ما تمت سرقته واحتلاله منها، حتمية مصيرية لا تراجع عنها ولا نقاش أو مساومة بشأنها.
وعلى خلفية هذا الموقف وإيمان الفلسطينيين بقداسة أرضهم حدثت انتفاضة 30 آذار/مارس 1976 المجيدة في فلسطين المحتلة، التي تلتها لاحقاً انتفاضات أخرى مباركة في كل من قطاع غزة والضفة الغربية والقدس في أعوام 1987 و2000 و2017 و2018 والآتي أعظم. ففي 30 آذار/مارس 1976 وبعد حوالي ثمانية وعشرين عاماً من المعاناة الشاقة والمريرة التي لا يحتملها بشر ولا حجر ولا شجر، قام فلسطينيو الداخل بانتفاضتهم العفوية والسلمية ضد سلطة الاحتلال الصهيوني. وقد اتخذت تلك الانتفاضة المباركة في حينه شكل إضراب شامل ومظاهرات شعبية عارمة عمت مدن وقرى منطقة الجليل شمال فلسطين المحتلة، فتحت القوات الصهيونية خلالها فوهات بنادقها وحممها على المتظاهرين الفلسطينيين، مما أدى إلى استشهاد ستة منهم، اقتضي الوفاء لأرواحهم الطاهرة التذكير بأسمائهم، وهم استناداً لمعلومات "الموسوعة الفلسطينية": الشهيد خير ياسين من قرية "عرابة" والشهيدة خديجة قاسم شواهنة والشهيد رجا أبو ريا والشهيد خضر خلايلة من قرية "سخنين" والشهيد محسن طه من قرية "كفركنا" والشهيد رأفت علي زهيري من مخيم نور شمس بالضفة الغربية والذي استشهد في قرية "الطيبة". وسقط إضافة لهؤلاء عشرات الجرحى والمصابين، وبلغ عدد الذين اعتقلتهم قوات الاحتلال الصهيوني في ذلك اليوم أكثر من 30 فلسطيني.
وكان بديهياً أن ينتصر الفلسطينيون في قطاع غزة والضفة العربية بما فيها مدينة القدس المباركة لإخوانهم في فلسطين المحتلة عام 1948، ليمنحوا انتفاضة "يوم الأرض" بعداً وطنياً، كما كان بديهياً أن ينتصر إليهم إخوانهم في المشرق والمغرب العربيين ليمنحوها بعداً قومياً، وهما بُعدان لطالما افتقدهما الفلسطينيون والعرب للأسف بعد ذلك، ولا زالوا يفتقدونهما حتى وقتنا الحاضر!!
واستناداً إلى التقارير والمعلومات الصحفية التي تم تداولها في حينه، فأن قيام سلطة الاحتلال الصهيوني بمصادرة نحو 21 ألف دونم من أراضي قرى عرّابة وسخنين ودير حنّا وعرب السواعد وغيرها من قرى منطقة الجليل لتخصيصها للمستوطنات الصهيونية في سياق مخطّط تهويد لتلك المنطقة المحتلة كان السبب المباشر لتفجر انتفاضة "يوم الأرض" في 30 آذار 1976. وحسبما جاء في تلك التقارير والمعلومات الصحفية فأن تلك السلطة البغيضة كانت قد صادرت بين عامي 1948 و 1972 أكثر من مليون دونم من أراضي المدن والقرى والبلدات الفلسطينية في الجليل والمثلث، إضافة إلى ملايين الدونمات الأخرى من الأراضي التي سبق الاستيلاء عليها بفعل المجازر والمذابح المروّعة التي ارتكبتها العصابات الصهيونية الإرهابية، وبالأخص منظمتا "الأرغون" و"الهاجاناة" بحق الفلسطينيين، إبان حرب 1948، وبفعل التهجير والإبعاد القسريين اللذين فًرضا عليهم. فانتفاضة "يوم الأرض" المباركة لم تكن بنت لحظتها ولا وليدة الصدفة المحضة، بل كانت نتيجة بديهية ومرتقبة لمعاناة الفلسطينيين المريرة والمستمرة.
انتفاضة "يوم الأرض" التي انفجرت في منطقة الجليل شمال فلسطين المحتلة في 30 آذار/مارس 1976، وتمددت لتشمل جميع الأراضي الفلسطينية التي احتلها الصهاينة في عامي 1948 و1967 وطال شررها الوطن العربي والعالم الإسلامي على امتدادهما أُخمدت وأطفئت جذوتها في ذات اليوم. لكن معركة الأرض الفلسطينية المقدسة لم تُخمد ولم تنطفئ جذوتها بعد، وهي متواصلة ولربما بحدة وشراسة أكبر وأشمل حتى يومنا هذا.
فسياسات التوسع الاستيطاني ومصادرة الأراضي ما تزال تطارد الفلسطينيين من مدينة إلى مدينة ومن بلدة إلى بلدة ومن قرية إلى قرية ومن حي إلى حي ومن زقاق إلى زقاق، والمخططات العدوانية الجهنمية ما تزال هي الأخرى تُحاصرهم وتعمل على خنقهم والحيلولة دون تحسن أوضاعهم وتطورها. والأسوأ من ذلك كله أن التوجهات والممارسات الصهيونية العنصرية بحقهم، آخذة بالتزايد والتفاقم يوماً بعد يوم، بحيث تجاوزت أراضي فلسطين المحتلة عام 1948 وأصبحت تنذر بقرب حدوث مخاطر حقيقية تمس الوجود الفلسطيني في هذه الأراضي وشرعية هذا الوجود نفسه، بعد قرار الرئيس الأمريكي الجمهوري دونالد ترمب الخاص باعتبار القدس "عاصمة" للكيان الصهيوني، وفي ظل التنامي الخطير للحديث عن "الدولة اليهودية"!!
لا شك أن شعبنا الفلسطيني البطل وأرضنا العامرة بالخير والإيمان واجها من المؤامرات ما لم أو يُحصى، وعاشا محناً كثيرة وكبيرة، وعانا من آلام أكثر وأكبر عجزت عن تجاوزها أو تحملها كل شعوب الأرض، إلا أن ما من أحد من أبناء هذا الشعب المرابط داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 و 1967 والمنتشرين قسراً بقوة الترحيل والتهجير والترانسفير في ديار الشتات الواسعة، يقبل بالمساومة على أي من الحقوق والثوابت الوطنية والقومية، أو التفريط بشبر واحد من أرض الآباء والأجداد.
فمهما بلغت المؤامرات والمحن والآلام التي تنتظر هذا الشعب وأرضه في قابل الأيام، ومهما شطحت وانحرفت القلة الضالة من الأدوات الرخيصة والمرهونة بإرادة المحتل الغاشم والإمبريالية الجديدة المتمثلة بالولايات المتحدة، سيبقى الأمل موجوداً لأن هذا الشعب بغالبيته، وهو صمام الأمان، قد حسم أمره وقرر بشكل نهائي أن يكون في جبهة المقاومة والممانعة حتى تحرير آخر ذرة تراب من أرضه المقدسة.
رحم الله شهداء انتفاضة "يوم الأرض - 1976"، ورحم شهداء جميع الانتفاضات الفلسطينية التي تلتها، ورحم كل شهداء فلسطين والأمتين العربية والإسلامية.
وكل انتفاضة وأنتم بخير ونصر مظفر بعون الله تعالى.

محمود كعوش
كاتب وباحث فلسطيني
[email protected]