الخميس 9/10/1445 هـ الموافق 18/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
التّراث الشّعبيّ في الحضارة العربيّة....د. روزلاند كريم دعيم
التّراث الشّعبيّ في الحضارة العربيّة....د. روزلاند كريم دعيم

نتناول في هذه الورقة موضوع التُّراث الشّعبي في الحضارة العربيّة، الذي يشمل تراث جميع الفئات السكانية المتكلمة باللغة العربية في بلادنا كالمسيحيين والمسلمين والدروز، في أماكن السكن المختلفة.

ولعل هذا الزخمَ من الديانات والطوائف والتقسيمات هو ما يثري تراثنا العربي ويضفي على تراكماته شمولية وعمقًا.

تُعتبر هذه الورقة أساسية وأولية في موضوع التراث الشعبي وقد تنبثق عنها محاضرات ومقالات في مواضيع تراثية وحضارية عينية.

 

التراث

أصل الكلمة "تراث" من المصدر الثلاثي "ورث"، أي انتقل إليه مال فلان بعد وفاته، والميراث هو ما يخلفه المرء لورثته.

ودلاليًّا تدل كلمة تراث على الموروث التّاريخي والثقافي والحضاري للمجتمع، أي ما ورثه المجتمع عن الأمة الذي هو امتداد طبيعيّ لها، منذ أقدم العصور إلى الآن.

يشمل التراث الدين والمعتقدات واللغة والتاريخ والتراث الشّعبي.

 

الفولكلور

يُعرّف التراث الشّعبيُ عالميًّا بالفولكلور.

يتكوّن المصطلح فولكلور من كلمتين Folk بمعنى شعب، و Lore بمعنى حكمة، أي ثقافة الشّعب أو حكمة الشّعب.

وقد اقترح المصطلحَ الباحثُ البريطاني وليم جون تومز سنة 1846 على إحدى الصحف اللندنيّة، ليدل على مجموع المأثورات (العوامل) القولية والروحانية والمادية التي تميّز حضارة معيّنة، والتي تنتقل بالمشافهة أو بالقراءة أو بالتأمل أو بالتقليد من جيل إلى جيل نتيجة التراكمات الثقافية الحضارية على مرّ العصور.

 

فإذًا، التراث الشعبي هو تراكمات الإبداع الشعبي المادي والمعنوي خلال العصور الغابرة، الذي توارثته ذاكرة المجتمع الجمعيّة، وتميّز بالحياة والبقاء لمدة ثلاثة أجيال على الأقل أي ما يقارب التسعين عامًا. مهما امتدّت أصوله إلى الماضي البعيد.

لا يقتصر التراث على مرحلة تاريخية معينة، فإنه يولد مع الشعب في مكان محدّد ويبقى بعده، متماسكًا ومتبلورًا ومتطوّرًا ومتصلاً بوعي، وبغير وعي، في دماء الشعب، موجِّهًا لفكره وممارساته وطقوسه وعاداته وسلوكه الجمعي والفردي.

يصمد التراث في اختبار الزمن وهو قابل للتطوّر والمرونة نتيجة المتغيّرات السّياسية والثقافية والحضارية للمجتمع.

فالتراث هو حصيلة الإبداع الإنساني، يرثه الشعب عن الأجيال السابقة ليورثه للأجيال اللاحقة، ويحرسه، ويصونه، ويرعاه، ويذوّته ويتصرف بحسبه، ويطوره، ويلائمه لظروفه الحالية ليساهم في تحسين حاضره وحل مشاكله وبناء مستقبله.

 

تصنيف التراث

تعدّدت تصنيفات التراث الشعبي لتغطي دورة حياة الإنسان ودورة الحياة في الطبيعة، وتتشابك القيم وتتداخل فنرى المادة التراثية الواحدة من عدة زوايا.

نعتمد في هذه الورقة على ثلاث فئات أساسية متبعة في تصنيف مواد التراث العالمية، ونجدها ملائمة لتصنيف مواد التراث الشعبي في الحضارة العربيّة على تعدِّد أطيافها. ويصعب الفصل بين هذه الفئات، فالعلاقة بينها موجودة وقويّة ومكمّلة وتنتج عنها ترابطات وتعالقات، حتى يصعب أحيانًا التمييز بين مركباتها المختلفة الرئيسية والثانوية:

أولًا: الأتنولوجيا أو الحضارة المادية وتشمل عدة مجالات

أ. أنماط البناء والهندسة؛ بناء الأماكن المقدسة والمقامات والبيوت
وبيوت الحيوانات والأسوار، والخانات والآبار.

ب. المهن والحِرف التقليدية وأدوات عملها مثل صناعة الزيتون، التجبين ومنتوجات الحليب والصوف، الغزل، الزجاج، الصياغة، الصيد، الخزف، النحاس، الفخار.

ج. الملابس والحلي ووسائل الزينة كالأزياء الشعبية وملابس المناسبات
والتطريز والحياكة والنسيج والكحل والحناء... يدرج هنا أيضًا الرقص الشعبي والدبكة الشعبية وما يتبعها من ملابس خاصة وآلات عزف.

د. المأكولات الشعبية التقليدية العامّة والخاصّة بالطقوس والمواسم والمناسبات.

 

ثانيًا: الأنتروبولوجيا الثقافية – التراث الفكري

تشمل الإبداع الفكري المتعلق بالعادات والتقاليد والممارسات المرتبطة بدورة حياة الإنسان من ميلاد وطفولة وخطوبة وبلوغ وزواج ووفاة، وبدورة السنة بما فيها من مواسم اجتماعية وزراعية وأعياد وطقوس مختلفة.

يتطور الفكر الإنساني نتيجة صراع الإنسان مع قساوة الحياة والعالم اللامنظور؛ دورة الطبيعة بما فيها من مواسم زراعية وفصول وظواهر طبيعية اعتيادية وغير اعتيادية كالمطر والرعد والبرق وفصول السنة وكسوف القمر والفيضانات. ودورة حياة الإنسان بما فيها من غموض وانتظار وقلق وانتقال.

هذا العالم الغيبي الذي يتعامل معه الإنسان ويواجهه دفعه لإبداع معتقدات يؤمن أنها تقيه شر العالم اللامنظور.

وقد يعتمد الإنسان في معتقداته على أسس دينية مختلفة فينشأ الدين الشعبي، وإن كان هذا الأمر لا يحول المعتقدات الشعبية الدينية إلى معتقدات دينية.

 

ثالثًا: الأدب الشعبي ويشمل الفنون القولية من نثر ونظم كالأساطير والخرافات والقصص الشعبية والأمثال والحكايات والنوادر والطرف والمُلح والنكات والأغاني الشعبية.

والأدب الشعبي في أساسه شفوي مجهول المؤلف، يجيب عن احتياجات أساسية لدى الشعب، منها ما له علاقة بحضارة الشعب الفكرية. وبقاء الأدب وانتشاره وتداوله لهو أكبر دليل على قبوله في المجتمع. وبذلك يشكل الأدب الشعبي وثيقة غنية للحضارة التراكمية المادية والفكرية ولمعتقدات وعادات الشعب.

وكونه شفويًّا فهو محميّ من الملاحقة السياسية، فالشعب هو الوحيد الذي يقرر بقاء واستمرارية الأدب الشعبي أو عدم بقائه. وللشعب الحق في التغيير في هذا الإبداع وفق احتياجات الفترة الزمنية والمنطقة الجغرافية وما ينبثق عنها من ظروف اجتماعية وسياسية وحضارية.

المرونة والتغيير لا يضران في جوهر الأدب الشعبي، فحافظ الأدب الشعبي وناقله ليس بالضرورة يذكر جميع التفاصيل، إذ تسقط سهوًا التفاصيل الصغيرة، إضافة إلى أنه يُدخل جزءًا من شخصيته ويمكن أن ينتج لديه إنتاجًا جديدًا في كل مرة يعبّر بها عن هذا الإبداع، ومن هنا قوة الأدب الشعبي - إذ أنه إنتاج فرديّ وجماعيّ بنفس الوقت.

 

العلاقة بين الفئات

لتوضيح العلاقة بين مجالات التراث الشعبي وبين المجتمع العربي على جميع أطيافه أختار مرحلة الولادة من دورة حياة الإنسان، على سبيل المثال لا الحصر.

مع الولادة تكون هناك حاجة لإعداد حاجيات مادية للطفل كسرير وملابس وأدوات، ومعها تعد أكلات خاصة للأم الوالدة ويتم تقديم القينر أو المغلي للضيوف.

من ناحية فكرية، ترتبط العديد من المعتقدات بالولادة، لهذا السبب يبحث الأهل عن اسم يحمي الطفل من الأذى، ويضعون على ملابس الطفل التعاويذ ويرقونه.

أما من ناحية الأدب الشعبي فعالم التهاليل وأغاني المهد غني جدًّا ويعكس معتقدات الشعب الفكرية تجاه هذا المولود.

ولو نظرنا إلى القصّة الشعبيّة نجدها تعكس احتياجات الإنسان المادية والمعنويّة والروحانية وتعرض حضارة مادية غنيّة كما أنها تعكس معتقدات الشعب الدينية والشعبية.

أما الأغنية الشعبية فبالإمكان تصنيفها ضمن التراث الأدبي وضمن التراث الفكري أيضًا لو ارتبطت بطقس معين وضمن التراث المادي لو ارتبطت بآلة عزف أو بدبكة معينة. وكذلك الأمر مع سائر مواد التراث الشعبي.

 

كما رأينا، لا يمكننا فصل مجالات تراثنا الشعبي عن بعضها فهي متداخلة ومكملة، ولا نستطيع فصلها أو عزلها عن حياتنا المعاصرة، فهي مرتبطة بوجداننا وبعاداتنا وبمعتقداتنا وممارساتنا، ولا يختلف تراث فئة عن الأخرى إلا بالتفاصيل العينية الصفيرة، بينما يبقى الجوهر ثابتًا.

من هنا تكمن أهمية فهم التراث الشعبي بجميع أشكاله، توثيقه، تداوله وبحثه، مع الأخذ بعين الاعتبار القيمة المضافة للعيش في مجتمع تعدّدي ودينامي.