الجمعة 19/9/1445 هـ الموافق 29/03/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
الباثولوجيا الأردوغانية ووهم العظمة ...د. حميد لشهب
الباثولوجيا الأردوغانية ووهم العظمة ...د. حميد لشهب

 إذا ما تأمل المرء هجمة أردوغان الأخيرة على الشمال السوري، واستحضر إلى الذهن سلوكه غير السوي منذ اندلاع الأزمة السورية، فلا يمكنه ألا يتيقن من كون أردوغان يعاني من اضطراب نفسي حاد، منبعه يتأصل في تصور وهمي عن ذاته وعن أمجاد تركيا الغابرة. وفي نفس الوقت لا يمكن للمرء أن ينفي بأنه في جنونه هذا يُتقن الإنتظار والإنقضاض على الفرص التي تُتاح له دون تردد.

 

في عالم السياسية الوسخ، يوهم المرء بأن المريض الآخر الجالس في مستنقعات مشاكله الشخصية، في بلاد العم سام، هو الذي "أعطى لأردوغان الضوء الأصفر" ليعيث فسادا بشمال بلاد الشام. والواقع أن الغرب بأكمله، نظرا لمصالحه السياسية والإستراتيجية والعنصرية اتجاه العرب والمسلمين؛ وحتى وإن كان التنديد واردا على الواجهة، يشجع أردوغان في مسعاه المسعور لتفتيت القطر السوري. وحتى الدول العربية التي يتعالى صوتها تنديدا بالإستعمار الغاشم لأردوغان للأراضي السورية، لا تخرج عن حدود ما يسمح لها به سيدها الغربي، وبالخصوص الأمريكي، أي الإكتفاء بالتنديد. لا يمكن أن يأخذ المرء بجد التنديدات العربية، وهو يعلم بأن كل الدول العربية صفَّقت لإثارة الفتنة في سوريا، بل ساهمت فيها ومولتها.

 

ما يحدث حاليا، طبقا لقراءتنا المتواضعة للأحداث، هو أن سلوك أردوغان المزدوج في الأزمة السورية، يعري حاليا عن دوره كعميل مزدوج للغرب، أُدخل فيما يشبه تحالفا بين روسيا وإيران؛ وما إن بدأت ملامح النصر تُرسم على هذا التحالف؛ حتى قيد أردوغان لمُربع طُبخت استراتيجيته في مراكز الإستخبارات الغربية، وما أكثرها، لمحاولة إطالة الأزمة السورية إلى أقصى حد؛ لأنها تخدم أجندات صهيو-أمريكية بالخصوص.

 

الطريف في الإخراجات المسرحية الأردوغانية هو أنه يوهم العالم بأنه يهدد بالفعل أوروبا عندما يُصرح بأنه سيرسل لها ملايين اللاجئين وآلاف الإرهابيين، على الرغم من أن كل شيئ مضبوط في الكواليس السياسية والديبلوماسية والمخابراتية. فالرسالة الموقوتة في مثل هذه الشطحات الإعلامية موجهة بالأساس إلى الرأي العام الأوروبي، لترهيبه بتزكية من حكامه؛ الذين يستغلون بهلاونية أردوغان لتخويف شوارعهم. وما لا يرى بالعين المجردة، هو أن ترامب، أو بالأحرى حاشيته، كان عليها خلق ساحة اهتمام جانبية لشغل الرأي العام الأمريكي والعالمي، ليخف عنه الضغط الداخلي للأسابيع القليلة الماضية.

 

أما صُياح بعض القادة العرب، فلا يعدو أن يكون صياحا فحسب، دون أي تأثير يُذكر على مجرى الأحداث على أرض الواقع. وهم في هذا لا يبرحون الأمكنة والدوائر والمربعات والمستطيلات التي رسمها لهم الأمريكان. بمعنى أن الأمر يبقى على مستوى الإدانة اللفظية، ولن يمر إلى قرارات واقعية جدية، لأن الحكام العرب، وبالخصوص أولئك الذين "جاهدوا" من أجل مسح بلاد الشام من خارطة العالم منذ اللحظات الأولى للأزمة السورية، وجدوا أنفسهم حاليا، بعدما غسلت أمريكا يدها منهم ، في مأزق، يهدد استمرارهم من المحيط إلى الخليج. فالواقع الهش لدول الخليج العربي ومصر، يوحي بأن هناك شيء يُحاك في مطابخ السياسة الغربية للقيام بتغييرات جذرية على رقعة الشطرنج العربي، وإبدال بيادق ببيادق أخرى، لتستمر الهيمنة الغربية على العالم العربي. لن تقوم الدول العربية مثلا بتجميد الإستثمارات التركية في بلدانها أو وقف دخول السلع التركية للأقطار العربية، للضغط المباشر على أردوغان؛ لأن لا حيلة ولا قوة لها، فلم تتعلم إنتاج أكلها بيدها ونسج لباسها بأصابعها.

 

أما اصطفاف قطر إلى جانب أردوغان، فإنه اصطفاف على حافة الهاوية، بل قمار سياسي وديبلوماسي حقيقي، حتى وإن كان محركه هو موقف مبدئي؛ لأن قطر في محنتها مع "أعدائها" الخليجيين لم تجد إلا تركيا في جانبها. لربما يلعب عامل الإنتماء الطائفي لجماعة الإخوان المسلمين دوره في التناغم بين قطر وتركيا أردوغان، لكنه في واقع الأمر لا يعدو أن يكون إلا تناغما مرحليا، سينتهي عندما تنتهي "الإمبراطورية الأردوغانية".

 

أما أكراد سوريا، فإنهم سقطوا هم أيضا في الفخ الأمريكي منذ بداية الأزمة. اعتقدوا في صدق أمريكا، التي استغلتهم واستعملتهم خدمة لمصالحها الخاصة، كما تفعل مع باقي بلدان المعمور؛ وبالخصوص الأقطار العربية. هناك مؤشرات تراهن على أنهم قد يلتجؤون إلى النظام السوري، لكن هذه الفرضية غير ثابتة، لأنهم في أحلك اللحظات التاريخية لوطنهم، حملوا السلاح وتحالفوا مع العدو لتدمير بلدهم الأصلي، وكان بالأحرى بهم الدود عن مناطقهم والبرهنة على أنهم أهل لأن يكونوا من اللحمة السورية، المتعددة والمتنوعة. نحن ليس ضد مطالبة أقليات في الوطن العربي باستقلالها الذاتي، لكن بشرط أن يكون هذا الإستقلال في حضن الوطن، على شكل جهات جغرافية وثقافية وعرقية ودينية، كما هو معمول به في الكثير من البلدان الغربية، ومنها أمريكا نفسها.

 

خلاصة القول، يقوم أردوغان، في جنونه المرضي، بمحاولة تقطيع جزء من لحمة دولة عربية مستقلة، لإلحاقه لـ "إمبراطوريته"؛ وهي عملية تثبت بالواضح بأنه مسكون بخوف وجودي من قيام جمهورية كردية على الأراضي التركية. وإلى جانب وظيفته كبيدق للأمريكيين فيما يقوم به الآن، فإن السيناريو الذي يُرعب أردوغان هو قيام كيان كردي، يمزق إمبراطوريته.