الجمعة 10/10/1445 هـ الموافق 19/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
هل نكتشف الإسلام من جديد ؟... ‏وليد محمد محمد صالح‏.
هل نكتشف الإسلام من جديد ؟... ‏وليد محمد محمد صالح‏.

 بسم الله الرحمن الرحيم

 

(1)
منذ حوالى شهرين مضيا كنت فى زيارة لكليتى كلية الزراعة بمشتهر التابعة لجامعة بنها , و يومها كان بديهيا أن أتفقد أحد أهم مصادر ثقافتى و هى مكتبة تلك الكلية خاصة قسما : المعارف العامة و الديانات , و ساعتها وجدت نفسى أمام "فاجعة" إلغاء القسمين من فهرسة المكتبة , و اعتمادها فقط كمكتبة زراعية متخصصة مع وضع بعض الكتب الدينية على أحد الأرفف و كانه ذر للرماد فى العيون دون تسمية القسم بقسم الديانات , و لم أسألهم عن عشرات أو مئات الكتب التى كانت ضمن قسمى المعارف العامة و الديانات وقت أن كنا طلبة بالكلية , فإن من لا يقدر قيمة تلك الكتب الثمينة التى تقطر علما و معرفة فلا فائدة فى الكلام معه أصلا !
و اليوم قد قمت بزيارة مكتبة قصر ثقافة فاقوس , و التى هى أيضا من أهم مصادر ثقافتى بكثرة الكتب التى قرأتها منها و فيها , و لحسن الحظ وجدت المكتبة على حالتها كما هى دون أية جرائم فى حقها , بل و ظهر من الغيابات الكثيرة للكتب كم هو الإقبال على الاستعارة منها .
و كان الكتاب الذى وقع اختيارى عليه بعنوان :"تاريخ الفلسفة الحديثة " , حيث يركز أكثر على تاريخ الفلسفة خلال عصر النهضة فى أوروبا و ما بعده .
(2)
و لفت نظرى فى الصفحات الأولى من الكتاب تلك الانتقادات الموجهة إلى الديانة المسيحية من أبنائها و ليس من خارجها ! و لننظر فيما قيل عن ميكيافيللى إجمالا : " فى كتبه جميعا يقارن بين الأخلاق القديمة و الأخلاق المسيحية , فيرى أن القدماء كانوا يحبون الجاه و الصحة و القوة البدنية , و كانت ديانتهم تخلع هيبة إلهية على القواد و الأبطال و المشرعين , أما المسيحية فإنها على العكس ترجئ غاية الإنسان إلى الآخرة , و تحث عن الإعراض عن الجاه الدنيوى , و تمجد التواضع و النزاهة , و تضع الحياة النظرية الباطنة فوق الحياة العملية الظاهرة , فأوهنت عزيمة الإنسان , و أسلمت الدنيا لأهل الجرأة و العنف , فهى نافعة و ضرورية للجمهور فقط المطلوب منه الطاعة , و يجب على الحاكم أن يحميها و يؤيدها حتى و لو اعتقد بطلانها " !
و لأننى من قراءتى لكتابه الأشهر " الأمير" فأنا أعلم كم هى صراحة ميكيافيللى و كم هو إخلاصه فى نفس الوقت للفكرة التى يؤمن بها و أن التاريخ ظلمه كثيرا هو و كتابه " الأمير " , يكفى أنه من خلال ذلك الكتاب حاول جاهدا أن يسدى للإمبراطور نصائح تساعده فى توحيد إيطاليا كدولة واحدة قوية مهابة و إيقاف التناحر بين أبنائها , و كان من ضمن نصائحه ألا يتردد فى قتل أقرب الناس إليه إذا كانوا يحولون دون محافظته على العرش ! و ذلك لأن واقع الناس ليس مثاليا لكى نكون معهم مثاليين !
ميكيافيللى يؤمن صراحة بعدم صلاحية الديانة المسيحية للسياسة و الحكم , بل و يعلن يأسه من قدرتها على التغيير الجذرى الحقيقى لسلوكيات و أخلاقيات الناس , و هو ما يستدعى مقولات قيلت فى حق الدين الإسلامى تناقض تماما هذا الذى شهد به أحد أبناء المسيحية عليها : قال أحد المفكرين الغربيين يوما ما عن الإسلام :" يا له من دين .. لو كان له رجال " !
و قال آخر :" تأثير دين محمد فى النفوس أعظم من تأثير أى دين آخر " .
إن الدين الإسلامى ليست فيه تلك الفُرقة بين الدنيا و الآخرة و هو الذى انتقده مكيافيللى فى الديانة المسيحية , فإن الخير فى المفهوم الإسلامى هو لمصلحة الدنيا و الآخرة معا , و لا يوجد عمل نافع للآخرة وحدها دون أن يكون نافعا للدنيا أولا , و كذلك لا يوجد عمل نافع فى الدنيا إلا و كان صاحبه مثابا عليه فى الآخرة , فالإسلام مثلا هو الدين الوحيد الذى جعل الجنس عبادة ! , قال رسول الله - صلى الله عليه و سلم : " إن فى بضع أحدكم لأجرا , قالوا أيأتى أحدنا شهوته ثم يكون له فيها أجر ؟! قال : أرأيتم إن وضعها فى حرام أكان عليه وزر ؟ فكذلك لو وضعها فى حلال كان له بها أجر " !
و يتحسر ميكيافيللى على أن الناس قبل اعتناقهم للمسيحية كانوا يحبون الجاه و الصحة و القوة البدنية , و هو ما يجعلنا نقول :" ليته عرف الإسلام إذا لكان قد وجد فيه ضالته " , فالإسلام حض الناس على السعى على الرزق , و أن تكون أيديهم هى العليا المعطية و ليست هى الأيادى السفلى الآخذة , و قال النبى فى ذلك :" نعم المال الصالح للرجل الصالح " , و كان العشرة المبشرون بالجنة كلهم موسرون , لدرجة أن سيدنا طلحة بن عبيد الله كان يخشى أن يرفع حجرا من طريق الناس قد يؤذيهم خوفا من أن يجد مالا تحته لكثرة ما عنده مال ! و أوجب على معتنقيه التسلح بكل أسباب القوة , قال تعالى :" و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة و من رباط الخيل ترهبون به عدو الله و عدوكم " , أى قوة من أى نوع يتوجب على المسلمين اقتناءها و القدرة على استعمالها .
و كلام ميكيافيللى يجسد أحد أهم عيوب ديانات ما قبل الإسلام , و هو التوجه فقط إلى الآخرة و إهمال الدنيا , مما أدى لاعتبارها ديانات غير واقعية مغرقة فى المثالية , فالإسلام فيه نص قاطع يقول :" و ابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة و لا تنس نصيبك من الدنيا " , توازن لا يوجد إلا فى الإسلام .
و فى هذا السياق أورد الإمام الشيخ محمد الغزالى هذه القصة العجيبة لرجلين أحدهما لا يفكر إلا فى الآخرة فقط , و الآخر لا يفكر إلا فى الدنيا فقط , و قد انتقد هذا الذى كل تفكيره فى الآخرة فقط أشد النقد , فالدنيا هى مزرعة الآخرة , و لا ثمار بغير زرع : " كان هناك شريكان فى عمل رأسماله ثمانية آلاف دينار , أحد الشريكين بار و الآخر فاجر , و انفضت الشركة لأن الشريك الفاجر ضاق بصاحبه , فهو لا حرفة له بينما الفاجر محترف , و نسأل : لماذا لا يكون المؤمن صاحب حرفة ؟ و فى الحديث : إن الله يحب المؤمن المحترف , و أخذ كل شريك نصيبه فاشترى الفاجر لنفسه دارا بألف دينار , و تصدق البار بألف من عنده لتكون له دار فى الجنة ! و نسأل : لماذا لا تكون للرجل الصالح دار فى الدنيا ؟ ثم تزوج الفاجر بألف دينار , فتصدق الرجل بألف دينار لتكون له زوجة من الحور العين فى الآخرة ! و نسأل : لماذا لا يتزوج هذا التقى بامرأة ينفق عليها و يعف نفسه و يعفها و تُكتب له أجر حسنات فى الجنة لا حصر لها ؟ و اشترى الفاجر بساتين بالألفين الباقيتين عنده , على حين تصدق البار بألفيه نظير بساتين فى الدار الآخرة , و بقى صعلوكا محسورا .. و هذا التصرف مرفوض شرعا " انتهى كلام الشيخ الغزالى .
و كلامه يوضح حقيقة الإسلام فى دفع الناس إلى تملك كل أسباب القوة و الجاه و الاستغناء فى الدنيا مع عمل حساب للآخرة من نفس جنس العمل , إذ الدنيا و الآخرة فى المفهوم الإسلامى مترابطتان لا تنفكان .
(3)
المثير فى كل مناسبة يثار فيها الكلام عن الدين فى أوروبا أن يتذكر الناس ما فعلته الكنيسة فى العلماء و وقوف رجالها موقف الخصم ضد البحث العلمى و التقدم العلمى , و ذلك لدرجة حرق العلماء و هم أحياء كما حدث مع جردانو برونو , مما أدى إلى حالة من النفور من الدين بين العلماء و المثقفين الأوروبيين , و من ذلك تم اختراع " العلمانية اللادينية " التى يقف منها المثقفون المسلمون الذين يفهمون دينهم موقف السخرية الضاحكة ملء الأشداق !
و هو ما عبرت عنه مقولة أحد المفكرين قائلا : هل كانت لنا كنيسة تطاردنا فى يقظتنا و منامنا بالإتاوات الثقيلة و تحرم علينا التفكير فى كروية الأرض ؟!
و فى الصفحات الأولى من نفس الكتاب نجد هذه الكلمات شديدة الاستغراب بالنسبة لأى عقل مسلم : " و جاءت كشوف كولومبوس و فاسكو دى جاما و ماجلان و دريك فى أواخر القرن بمعلومات كثيرة عن شعوب كانت بمعزل عن المسيحية و كان لها أديان و أخلاق , فظهرت فكرة الدين الطبيعى و الأخلاق الطبيعية , و هكذا تكونت فى الغرب المسيحى نظرية جديدة فى الإنسان تقنع بما يسمى الطبيعة و تستغنى عما فوق الطبيعة كأنها تقول لله : نشكرك اللهم على نعمتك و لكنا بغير حاجة إليها " !
و لنقارن هذا المفهوم الذى ساد لدى المسيحيين و لم يكن فى المسيحية الترياق الشافى منه , لنقارنه بمثيله فى المفهوم الإسلامى , حيث أنه " و إن من أمة إلا خلا فيها نذير" , و أن من هم فى أمريكا الشمالية أو فى أمريكا الجنوبية أو حتى فى القطب الجنوبى لابد أنهم قد أرسل فيهم أنبياء و نزلت عليهم كتب سماوية قبل البعثة المحمدية , و هذا ما يعطى مناعة ضد " اختراع" ديانات جديدة وضعية كما حدث فى أوروبا و دلت عليه الكلمات السابقة .
و فى المفهوم الإسلامى فإن هذا الدين " كامل " , بناء على نص قاطع مانع : اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتى و رضيت لكم الإسلام دينا " , فالدين كامل لا ينقصه شيئ و لا ينقصه تشريع أو أخلاق أو معاملات , و هو صالح لكل زمان يأتى بعده مثلما صلح فى زمانه الأول و قام بتحويل قبائل بدائية متناحرة إلى أمة موحدة أسقطت أكبر إمبراطوريتين فى ذلك الوقت فى خلال سنوات معدودة .
و إن الدين الإسلامى لم يقع فيما وقعت فيه المسيحية فى أوروبا مما جعل العلماء يقفون منها موقف الخصم , و صار ال" الدينى" ضد " العلمى" , لكن فى المفهوم اللإسلامى و التاريخ الإسلامى لم يحدث شيئ من ذلك , فأكثر علماء الإسلام من مفسرين و محدثين و فقهاء هم أيضا أطباء و فلكيون و جغرافيون , حتى أن ابن النفيس مكتشف الدورة الدموية الصغرى هو أيضا من كبار فقهاء الشافعية !
و يلاحظ فى الانتقادات الموجهة إلى الأديان من داخلها و بواسطة معتنقيها أن الإسلام خارج قائمتها !
مسيحيون ينتقدون المسيحية أو يهود ينتقدون دموية و عنصرية التوراة أو غير ذلك كله دارج و يحدث , لكننا لم نسمع عن مسلمين انتقدوا الإسلام !
الانتقادات تكون لمسلمين مثلهم حتى أشد الغلاة منهم , فإسلام بحيرى و خالد منتصر قد انتقدا البخارى و التراث لكنهما لم ينتقدا الإسلام !
و دعاوى " تصحيح الديانة " كما حدث من مارتن لوثر و غيره لم يحدث مثلها أبدا فى الإسلام , و إنما المطالبة دائما تكون بتصحيح ما فعله فلان أو علان من أتباع الإسلام !
و لهذا نعود فنسأل أنفسنا و نسأل أيضا " العلمانيين " منا : هل نكتشف الإسلام من جديد ؟