الخميس 18/9/1445 هـ الموافق 28/03/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
بحلم بيك..!! .. عبد الهادي شلا
بحلم بيك..!! .. عبد الهادي شلا

 

 نكبر قليلا..على مهل و في داخل كل منا طفل،يتمرد أحيانا ويرضى أحيانا ،دون أن يكف عن الإلتفات إلى طفولته ويتمنى لو عادت لمرة واحدة يستحضر منها لحظات السعادة والفرح التي كانت قبل أن تباغتها الأيام بجبروتها وتقلبها.

كلما استمعت إلى أغنية المطرب عبد الحليم حافظ "بحلم بيك" كلما حضرت في ذاكرتي صورة تجعلني أبتسم وأتمنى لو عدت ذاك الصبي الصغير.

كنت في الصف الخامس الإبتدائي وقتها،أنسخ درس القرأة الذي طلبه مدرس اللغة العربية وصوت عبد الحليم يأتي من المذياع وأنا أردد ما يقوله بينما يدي تكتب .

في صباح اليوم التالي طلب المدرس أن يضع التلاميذ كراساتهم أمامه على الطاولة في الفصل وأخذ يقلب فيها على عجل.

أمسك بكراسي وأخذ يقلبه على غير عادته فقد كان مقعدي ملاصق لطاولتة في الصفوف المتقدمة..و فجأة جلجل بضحكة أرعبتني وكل من في الفصل من التلاميذ فقد كان مدرسا جادا تسبقه عصاه عند دخول الفصل.

مع أنني كنت من المتفوقين لا أخشى العقاب ، فقد نظر إلى نظرة الحانق، الأمر الذي جعلني أتسمرت في مكاني و مد يده بكراستي نحوي وهو يأمرني بأن أقرأ ما نسخت وبصوت عالٍ..

بدأت ببطء والخوف يتملكني ولكنه زجرني وأمرني مرة أخرى أن أرفع صوتي فاسترسلت في القرأة و توقفت قبل أن انطق وهو يحثني على الإستمرار وأكملت..."بحلم بيك ...أنا ... بحلم بيك" !!

ضج الفصل بالضحك و جحظت عيون المدرس وتطاير منها غضب جعلني أرتعش خوفا وكاد لأن يتوقف قلبي فقد كان له هيبة ربما لا يعرفها الجيل الحالي الذي ينعم بأسلوب تربوي عصري.

خيم صمت تام على الفصل قبل أن يضع يده على كتفي وبكلمات حنونة توجه للتلاميذ وأنا معهم بكلمات أبوية لم يتوقعها أحد ولم نعهدها منه وهو يحثنا على الإستماع إلى الموسيقى فهي تهذب الروح وتريح الأعصاب وتخلق فينا التوازن الذي لا غنى عنه لحياة مستقرة ولكن في غير وقت القرأة والكتابة فقد تشغلنا عن مضمون الدرس.

كان هذا في زمن مغاير تحكمه تقاليد تعليمية وتربوية صارمة،وربما يعتبر البعض هذه اللفتة من المدرس هي خروج عن العرف الذي كان سائدا.

تنفستُ الصعداء وأنا أنظر إلى مدرسي بإحترام كبير وشعور أبوي لم أشعر به من قبل فهو حازم وجاد.

 يومها عرفت أن في داخل كل منا إنسان أخر لا نراه ولا يتجلى لنا إلا في حالة خاصة وفي وقت ما قد لا نتوقعه.

كبرت محبا للموسيقة والجمال ،وبقيت هذه الذكرى مع الأغنية تحضر في خيالي كلما استمعت إليها،وأضحك في سري وينشرح صدري لأن مدرسي كان واع لقيمة المشاعرالإنسانية وقت كنت صبيا صغيرا تفتحت عيوني وقلبي على الحب والحياة..!