الخميس 16/10/1445 هـ الموافق 25/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
الأجندة العالمية للعام 2030 : الثّقافة من أجل التّنمية المستدامة (1من2)....صابر بن عالية
الأجندة العالمية للعام 2030 : الثّقافة من أجل التّنمية المستدامة (1من2)....صابر بن عالية

تعود النّواة الأولى لمفهوم التّنمية إلى نهاية القرن 18 ، لكنّه لم يقع استعماله بمعناه المعاصر . بل برز مصطلحان آخران يدلّان على تطوّر المجتمعات نحو الرّفاهيّة بما يشبه المفهوم الرّاهن للتّنمية . هما " التّقدّم المــادّي " و " التّقدّم الاقتصادي " . و في القرن 19 وقع استخدام مصطلحي " التّحديث " و " التّصنيع " فانجرّ عن ذلك تداخل هذه المفاهيم ( التّقدّم ، التّطوّر ، التّحديث ، التّصنيع ) مع مفهوم التّنمية ، و هو تداخل بلغ أحيانا درجة التّماهي و التّرادف ، كما لا يزال حاضرا إلى الآن لدى بعض الباحثين . مردّ ذلك أنّ الدّول الّتي توصّلت إلى تحقيق درجة قصوى في التّنمية هي الدّول المتقدّمة و المتطوّرة و الحديثة و الصّناعيّة .

و قد هيمن مصطلح النّموّ الاقتصادي إلى غاية سنة 1929 تاريخ الأزمة الاقتصاديّة العالميّة . و هو يدلّ على " قيمة كبيرة ملموسة تترجم في زيادة المقدّرات الاقتصادية " . لكنّ هذه الأزمة دفعت الاقتصاديّين إلى إعادة النّظر في دور الدّولة في تحفيز النّموّ الاقتصادي . فتمخّضت عن ذلك مقاربات تتماهى إلى درجة كبيرة مع المفهوم المعاصر للتّنمية لكن دون استخدام هذا المصطلح بصفة صريحة .

برز مصطلح التّنمية بمعناه الحديث لأوّل مرة سنة 1949 حين استخدمه الرّئيس الأمريكي هاري ترومان . و غداة التّحوّلات السّياسيّة و الإيديولوجيّة الّتي شهدها العالم إثر الحرب العالميّة الثّانيّة ، و لا سيّما بداية الحرب الباردة ، طرأ تداخل كبير بين قضيّة التّنمية و الأبعاد السّياسيّة و الإيديولوجيّة . فغدت قضيّة التّنمية  " مجالا للصراع و موطنا للسلطة و السّيطرة " كما يقول الباحث المغربي عبد الكريم جندي ، و لا سيّما على مستوى علاقة الدّول المتقدّمة بالدّول النّامية . حيث حصل ما يسمّى بأدلجة قضية التّنمية .

لقد هيمن البعد الاقتصادي للتّنمية في بداية نشأتها في العالم الغربي . إذ كانت تعني تنشيط الاقتصاد القومي و تحويله من حالة الرّكود إلى حالة الدّيناميّة . لكن مفهوم التّنمية شهد تحوّلا و لم يعد ينحصر في البعد الاقتصادي فحسب . بل إنّه توسّع ليشمل الجوانب الاجتماعيّة و السّياسيّة و الثّقافيّة ، فهو حسب غريغوري لازاريف " مجموع التّغييرات الاجتماعيّة و العقليّة الّتي تهيّء شروط النّموّ و متابعته على المدى الطّويل " . و هو ما أدّى إلى الانفتاح المتزايد لمفهوم التّنمية على الأبعاد الانسانيّة و البيئيّة ، مما ساهم في بروز مفاهيم جديدة أكثر تعبيرا عن هذه الأبعاد ، و في طليعتها مفهوم التّنمية المستدامة . فماذا يعني هذا المفهوم ؟

و رد هذا المفهوم للمرّة الأولى في أحد منشورات الاتّحاد الدّولي من أجل حماية البيئة سنة 1980 . لكنّ تداوله على نطاق واسع لم يقع إلّا بعد استخدامه في تقرير برندتلاند Brandtland  الصّادر  عن اللجنة الدّوليّة للبيئة و التّنمية سنة 1987 تحت عنوان " مستقبلنا مشترك " . و يعتبر هذا التّقرير التّنمية قضيّة دوليّة و هدفا للدّول المتقدّمة و النّامية على السّواء . التّنمية المستدامة كما يعرّفها هذا التّقرير هي " تلبية حاجيّات الجيل الحاضر دون تطويق قدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها " . ثم اتسع هذا المفهوم لاحقا  ليعني " استخدام الموارد المتجدّدة و القابلة للتّجدّد لدفع النّموّ الاقتصادي ، مع المحافظة على التّنوّع البيولوجي و أصناف النّوع الحيواني و الالتزام بالمحافظة على نظافة الهواء و الماء و الأرض " .

و قد تصاعد الاهتمام بقضيّة التّنمية المستدامة على المستوى العالمي ، و هو ما يبرز من خلال ما يسمّى بأهداف التّنمية المستدامة للعام 2030 أو ما يعرف بالأجندة العالمية 2030 . هي جملة من الأهداف الّتي وضعتها الأمم المتّحدة  و رؤية و دعوة عالميّة للعمل من أجل القضاء على الفقر و حمايـة كوكــب الأرض و ضمان تمتّع جميع الشّعوب بالسّلام و الإزدهار بحلول عام 2030 . وافقت على هذه الاتفاقية جميع الدّول الأعضاء بمنظّمة الأمم المتحدة و تتعلّق هذه الأهداف بأربعة مجالات رئيسيــــة هــي المجــالات البيئيّــــــة و الاجتماعيّة و الاقتصاديّة و الشّراكات . تتميّز أهداف التّنمية المستدامة بالتّرابط فيما بينها ، فالنّجاح في تحقيق هدف معيّن في معالجة موضوع محدّد يفضي إلى تحقيق الأهداف الأخرى . كما تقتضي التّعــــــاون و العمل مع جميع الشّركاء و بشكل عملي من أجل التّوصّل إلى اتّخاذ الخيارات السّليمة لتحسين الحياة بطريقة مستدامة للأجيال القادمة . و هي توفّر أيضا مبادئ و غايات واضحة لجميع البلدان لتعتمدها وفق أولويّاتها و خططها الوطنيّة مع تركيز الاهتمام على التّحدّيات البيئيّة الّتي يواجهها العالم بأسره . هذه الأهداف تمثّل إذا خارطة طريق شاملة ، وهي تعالج الأسباب الجذريّة للفقر و توحّد الشّعوب لإحداث تغيير إيجابي في العالم أجمع . هي كذلك شاملة للجميع ، فلا يمكن لدولة أن تعمل بمفردها لتحقيق النّموّ الاجتماعي و الاقتصادي داخل حدودها فقط . بل يجب أن تتضامن الدّول و تتعاون لضمان تحقيق الأهداف و الاستدامة للجميع .

 لقد أكّدت الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة في أكثر من مناسبة على الدّور الرّئيسي للثّقافة في تحقيق أهداف التّنمية المستدامة . يمكن أن نذكر في هذا الصّدد القرار عدد 68/223 لسنة 2013 و القرار عدد 69/230 لسنة 2014 . كما أنّه في إطار توسيع المشاركة في صياغة خطة التّنمية المستدامة ، تم سنة 2014 تنظيم جملة من الحوارات حول الثّقافة و التّنمية المستدامة بمشاركة عديد منظمات المجتمع المدني و الجهات المعنيّة في القطاعين العامّ و الخاصّ . احتضنت هذه الحوارات دول المغرب ، و مالي، والبوسنة والهرسك ، و إكوادور ، و صربيا تحت قيادة اليونسكو و صندوق الأمم المتّحدة للسّكّان و برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي بالتّعاون مع حكومات الدّول المذكورة . بالتوازي مع ذلك وقع اطلاق دعوة دوليّة لارسال مشاركـــــــــــــات و سلسلة من النقاشات عن بعد حول الموضوع . و قد توّجت هذه الاستشارات بمنتدى دولي في فلورنسا بإيطاليا ضمّ 400 مشارك من 2 إلى 4 أكتوبر 2014 .  و قد تم التّأكيد في هذه الحوارات على أنّه لا توجد حلول عالمية موحّدة لتحقيق أهداف التّنمية المستدامة  ، فصيغ التّنمية تتباين حسب البيئة الثّقافيّة المحلّيّة . فالثّقافة باعتبارها " مجمل السمات المميّزة الرّوحيّة و المادّيّة و الفكريّة و العاطفيّة الّتي يتّصف بها مجتمع أو مجموعة إجتماعيّة " يمكنها أن توفّر حلولا دائمة للمشاكل التّنمويّة الّتي يواجهها العالم . و ذلك بفضل الدّور الّذي تلعبه في التّنمية البشريّة و بوصفها عامل استقرار و صمود و ذات دلالة رمزيّة بالنسبة للمجتمعات . و تناول المشاركون بالنقاش صيغ مساهمة الثّقافة في تحقيق أهداف التّنمية المستدامة في 6 مجالات رئيسيّة وهي : الثقافة و مقاومة الفقر ـ الثّقافة و التّربية ـ الثّقافة و المساواة بين الجنسين و تمكين المرأة ـ الثّقافة و المدن الدّائمة و التّحضّر ـ الثقافة و البيئة و التّغيّر المناخي ـ الثّقافة و شمول الجميــــــــــع و المصالحة . وقد تولّت اليونسكو نشر تقرير يتضمّن خلاصة الاستشارات المذكورة و نتعرّض في هذا المقال إلى أهمّ ما ورد فيه .     

1 ـ الثقافة و مقاومة الفقر

إنّ المقاربات الّتي تراعي الخصوصيّات الثّقافيّة من شأنها تعزيز نجاعة البرامج الهادفة إلى مقاومة الفقر ، من خلال التّصدّي لأبعاده البشريّة و الاجتماعيّة و الاقتصاديّة. ويمكن أن توفّر الصّناعــــــــــــات الثّقافيّــة و الابداعيّة و السياحة الثقافية الشّغل اللائق لعدد هام من الأشخاص خاصّة أولئك المنتمين إلى فئات فقيــــرة و هشة . فالصّناعات التّقليديّة مثلا هي المورد الرّئيسي للدّخل للكثير من الأفراد الّذين يعانون التهميش الاقتصادي . و هي توفّر الدّخل ليس فقط للحرفيّين و عائلاتهم ، بل أيضا لأولئك الّذين يمتهنون أنشطة على صلة بهذه الصّناعات كالنّقل و البيع و جمع الموادّ الأوّليّة . كما تمارس هذه الصّناعات غالبا في إطار العائلة و المجتمع المحلّي ، مما يخلق الأمان في العمل و الشّعور بالانتماء . ينظر إليها كذلك على أنّها أنشطة شريفة لأنّها ترتبط بصفة وثيقة بهويّة الجماعة . هي قطاع غير نظامي و هي مصدر لدخل إضافي أو تعويضي للعائلات الّتي تقتات من الفلاحة الموسميّة . و تخوّل للنساء كسب الدّخل ، حيث يصعب على المرأة في عديد المناطق من العالم الحصول على شغل لائق . بالتالي فإنّ انخراطهنّ في أنشطة توفّر الدّخل لأسرهنّ يمكّنهنّ من المساهمة في مجابهة النّفقات الأسريّة  .

غالبا ما يرتبط قطاع الصّناعات التّقليديّة بالسّياحة الّتي تلعب أيضا دورا محوريّا في التّقليص من الفقر . فالسياحة تبقى قطاعا اقتصاديّا واعدا ، حيث يفوق عدد المسافرين في العالم المليار سنويّا . في بعض الدّول النّامية تفوق المداخيل المتأتّية من السّياحة تلك المحقّقة في الدّول المتقدّمة . كما يرتبط ازدهار السياحة بتعزيز الأنشطة المتعلّقة بالتّراث الثّقافي و الصّناعات التّقليديّة و أيضا حماية و إعادة توظيف المعالم التّاريخيّة .

حسب تقرير اليونسكو حول الاقتصاد الابداعي الصّادر سنة 2013 ، توفّر الصّناعات التّقليديّة 100000 موطن شغل في مالي و الصّناعات الابداعيّة 300000 موطن شغل في الأرجنتين . في حين يشتغل 7,06 مليون شخص في قطاع الثّقافة و الاعلام في الاتّحاد الأوروبّي .

من جهة أخرى تدعم الثّقافة برامج التّنمية المحلّيّة من خلال اعتماد مقاربات تتماشى مع  الواقع المحــــــلّي و البيئة المحلّيّة . حيث يجب تطويع الأولويّات الوطنيّة و الدّوليّة في مجال التّنمية  لتكون ملائمة و قابلة للتّجسيد على المستوى المحلّي . و هو ما يستوجب مراعاة البيئة الثّقافيّة المحلّيّة . ففي عديد البلدان تخضع الحاجيّات التّنمويّة للمناطق للعوامل الجغرافيّة و التّركيبة الاجتماعيّة و وجود نزاعات و كوارث طبيعيّة . في هذه المناطق لا تؤدّي المقاربات العامّة للتّنمية إلى نتائج إيجابيّة بسبب إغفال الخصوصيّات المحلّيّة .

على صعيد آخر يضطلع الابداع و التّجديد الثّقافي بدور أساسي في تعزيز تنافسيّة الاقتصاد . إذ تواجه اقتصاديّات البلدان النّامية تحدّيات تتعلّق بالحاجة إلى الموادّ الأوّليّة و الموارد الطّبيعيّة و بضعف فرص التّصدير مما يجعلها هشّة . يمكن للابداع و الثّقافة أن يساهما في التّغلّب على هذه المصاعب بفضل فرص التّنوّع و التّطوّر و التّجديد الّتي يوفّرانها . حيث يمكّن دعم الصّناعات الثّقافيّة و الابداعيّة و تنوّع التّعبيرات الثّقافيّة من استغلال القدرة التّحويليّة للابداع من أجل بلوغ نتائج إيجابيّة و دائمة في موضوع التّنمية .

2 ـ الثّقافة و التّربية :

تساهم الثّقافة فعليّا في رفع التّحدّيات الّتي يواجهها قطاع التّربية . تتعلق هذه التّحدّيات أساسا بتوسع نفاذ الجميع إلى التّعليم ، و لا سيّما الابتدائي ، و بجودة البرامج التّربويّة . تسهّل الثّقافة النّفاذ إلى التّعليم كما تجعل البرامج و المناهج و أساليب التّدريس أقرب إلى الواقع المحلّي .

إنّ إدماج الثّقافة في التّربية يؤدّي إلى نظام تربوي متلائم مع حاجيّات العالم المعاصر و يؤهّل الأفراد للعيش في مجتمع معولم و متعدّد الثقافات . كما أنّ توفّر سياسات و برامج تربويّة و مناهج متلائمة مع الخصوصيّات الثّقافيّة يضطلع بدور رئيسي في مقاومة اختلال المساواة في النّفاذ إلى الدّراسة و ضمان تعليم شامل للجميع .

كذلك فإنّ اعتماد ممارسات تربويّة  مبتكرة ، تكون فيها المجتمعات بمعناها الواسع مشاركة ، يساهم في تنوّع هامّ على مستوى التّربية . من الأمثلة على ذلك تشريك بعض عناصر المجتمع ، كالوالدين و المسنّـين و الحكواتيّين ، في تدريس بعض المحاور المحلّيّة أو تقديم وجهة نظر دينيّة أخرى أو التعريف بالعادات الثّقافيّة .

من ناحية أخرى يتضمّن التّراث الثّقافي اللامادّي أمثلة حيّة لمحتويات و أساليب تربويّة . فقد ابتكرت المجتمعات في كلّ العصور أساليب لتنظيم و نقل معارفها و مهاراتها للأجيال اللاحقة ، لا سيّما فيما يتعلّق بالبيئة الطّبيعيّة و الاجتماعيّة . حتّى في ظلّ توفّر الأنظمة التّربويّة الرّسميّة ، فإنّ الكثير من هذه المعـارف و الأساليب التّقليديّة للتّعليم مازالت ذات أهمّيّة و فائدة . و هي تشمل عديد المجالات كالصّحّة و الزّراعــــة و الاستغلال الدّائم للموارد الطّبيعيّة . تقتضي جودة التّربية أن لا تنفصل الأجيال الجديدة عن هذه الموارد القيّمة للمعرفة المرتبطة بصفة وثيقة بهويّتهم الثّقافيّة .

بالاضافة إلى ذلك تؤدّي مراعاة البعد الثّقافي إلى النّفاذ إلى تعليم متنوّع من خلال تعزيز التّعليم باللغة الأمّ إلى جانب الانفتاح على اللغات الأخرى . فالتّعليم باللغة الأمّ يمثّل السّبيل إلى تربية شاملة للجميع ، و بالتّالي يجب أن يثمّن و يعترف به كشرط أساسي لتوسيع النّفاذ إلى التّربية و فرص التّعلّم . و هو أيضا يساهم في تحسين جودة التّربية و المحافظة على التّراث و العادات و اللغات .

على صعيد آخر فإنّ الثّقافة ، حين تكون في صميم التّربية تعزّز الثّقة و تدعم الحوار من خلال تأهيل النّاشئة على أمثل وجه للعيش في مجتمع متعدّد الثّقافات . لمجابهة تحدّيات العالم المعاصر ينبغي أن تهدف الاستراتيجيّات التّربويّة إلى تنمية الحساسيّة الثّقافيّة و تمكين النّاشئة من الاختصاصات الّتي تتخوّل لهم العيش في مجتمع متعدّد الثقافات اقتصاديّا و اجتماعيّا . و باعتبارها من المكوّنات الرّئيسيّة للحياة المواطنيّة يجب أن تدعم التّربية احترام الاختلافات الثّقافيّة و أن ترسّخ الوعي بضرورة مقاومة الصّور النّمطيّة ، لا سيّما تلك المتداولة في وسائل الإعلام ، و أن تمثّل أداة تسامح و سلام . يجب أن تساهم السّياسة التّربويّة في بناء مجتمعات مسالمة و دائمة . و هو ما يتطلّب مراعاة البيئة الثّقافيّة الّتي ستطبّق فيها . ففي مجتمعات تتّسم بتنوّع ثقافي لابدّ من مقاربات تربويّة متعدّدة الثّقافات .

تضطلع التّعبيرات الثّقافيّة أيضا بدور هام في النّموّ الشّامل للنّاشئة و نجاحهم الدّراسي . النّظام التّربوي الجيّد هو ذلك الّذي يهتمّ بالطّاقات الشاملة للطّفل . مما يستوجب تثمين الدّور الأساسي للثّقافة و الابداع في العمليّة التّربويّة . فالفنون من موسيقى و رقص و مسرح و غيرها هي أنشطة ضروريّة للنّموّ الشّامل للطّـــــــفل . و النّظام التّربوي الّذي يحفّز الابداع و التّعبير الذّاتي هو الأنجع لتكوين و تأهيل النّاشئة لمواجهة الواقع الاقتصادي الصّعب الّذي ينتظرهم .

تساهم التّعبيرات الثّقافيّة أيضا في خلق أطر تدريس أكثر شمولا للجميع . هي صيخ لفتح حوار بين التّلاميذ و عائلاتهم . فالمشاريع الابداعيّة تشجّع مشاركة أفراد العائلة و المجتمع في المشاريع الدّراسيّة . و هو ما يتحقّق بمناسبة الحفلات المدرسيّة أو المعارض مثلا . بالتّالي يوفّر الفنّ و الابداع فرصا عديدة لتعزيز المشاركة الايجابيّة للوالدين في التّربية ، ممّا يسمح لهما باكتشاف مهارات أبنائهما .

تبرز أهمّيّة الثّقافة في التّربية كذلك من خلال الدوّر الحيوي للمؤسّسات الثّقافيّة في التّعليم اللانظامي مدى الحياة . تشمل هذه المؤسّسات المكتبات و دور الأرشيف و المتاحف و المراكز الثّقافيّة و الهياكل المشابهة . فالمكتبات هي فضاء ينبغي أن يكون متاحا لكلّ من يطمحون إلى التّطوّر الذّاتي و إثراء معارفهم . أما المجموعات الأثريّة بالمتاحف فهي توفّر مساهمة قيّمة في كل جوانب البرامج التّربويّة .

بالإضافة إلى ذلك تمكّن دور الأرشيف و المكتبات المربّين و التّلاميذ و الجمهور من النّفاذ إلى المصادر الأوّلية للمعرفة ،ممّا يسهم في تنمية الفكر النّقدي لديهم .فالنّفاذ إلى هذه المصادر يمثّل شرطا رئيسيّا للتّربية . حيث يمكّن التّلاميذ من ربط الصّلة بالماضي و سدّ الفجوة بين الحاضر و حدث تاريخي بعيد . من خلال توظيف وثائق الأرشيف في العمليّة التّربويّة ، يكتسبون القدرة على قراءتها نقديّا . كما يكتشفون الوثيقة التّاريخيّة و يتدرّبون على تأويل الوقائع . المصادر الأوّليّة هي إذا أدوات تساعدهم على بناء رأيهم الذّاتي . و الثّقافة بهذه الصّيغة تسهم في تنمية الحسّ النّقدي لدى النّاشئة و إكسابهم المعارف و المهارات الضّروريّة لتكوين رؤية نسبيّة للتّاريخ . يكتسي هذا الأمر أهمّيّة بالغة في وضعيّات النّزاع و مابعدها حيث تحول الرّوايات التّاريخيّة المتداولة دون السّلام الدّائم .

3 ـ الثّقافة و المساواة بين الجنسين و تمكين المرأة :

إنّ الثّقافة ، باعتبارها محرّكا و قاطرة للتّنمية يمكن أن تساهم بصفة فعّالة في تعزيز تمكين النّساء و المساواة بين الجنسين . و يحتلّ تحقيق المساواة بين الجنسين مكانة محوريّة في التّصدّي للفقر المدقع و بلوغ تنمية عادلة وشاملة للجميع .

تتّخذ السّلوكيّات التّمييزيّة أشكالا متعدّدة . كما يتحمّل المجتمع بأسره تكاليفها الباهضة . لكن العكس صحيح ، فكلّ أفراد المجتمع يستفيدون من المساواة الجنسانيّة بما في ذلك الذّكور .

و يؤدّي تشجيع المشاركة الثّقافيّة و مراعاة البيئة الثّقافيّة إلى تعزيز المساة بين الجنسين و تمكين المرأة . فالثّقافات ، بوصفها محرّكات قويّة و عوامل تغيير إجتماعي ، يجب أن تكون في صميم المجهودات المبذولة من أجل تحقيق المساواة بين الجنسين و التّصدّي لكلّ أشكال التّمييز . تضطلع وسائل الإعلام و السّينمـــــــا و الموسيقى بدور محوري في هذا الصّدد ، من خلال اللغة الّتي تستعملها و الوصف الّذي تقدّمه للعلاقات بين الجنسين و الدّيناميّات الجنسانيّة السّائدة في الواقع .

يجب النّظر إلى الثّقافة و الجنسانيّة كعنصرين مترابطين . الثّقافة غير معزولة عن الدّيناميّات الجنسانيّــــــة و هذه الأخيرة لا تنفصل عن التّجربة السّوسيوثقافيّة . و لتحقيق أكبر قدر من المساواة بين الجنسين يجب أن تنخرط كل الأطراف في بيئة ثقافيّة معيّنة ، باعتبارها محدّدة لتجربة الوضعيّات الجنسانيّة الهشّة . من الأهمّية بمكان أيضا أيضا تشريك صناع الرّأي و رجال الدّين و القادة الاجتماعيين مثلا و توظيف أشكال مختلفة من التّعبيرات الثّقافيّة كالموسيقى و الرّقص و المسرح .

تساعد معرفة الدّيناميّة و الحساسيّة الثّقافيّة على فهم سلوك الأفراد في بيئتهم الثّقافيّة . فالمقاربات الجنسانيّة الّتي تراعي الخصوصيّات الثّقافيّة يمكنها أن تعزّز شمول الجميع إجتماعيّا و تسهم في تحقيق المساواة بين الجنسين . حيث تخوّل التّعرّف على الوضعيات الهشّة للنّساء و البنات و اتخاذ تدابير لمعالجتها . كما تؤدّي هذه المقاربات إلى حملات تحسيس أكثر نجاعة و تتسبّب في تغييرات إيجابيّة في السّلوك دون أن تمثّل عوامل توتّر .

من ناحية أخرى تعتبر المساواة بين الجنسين على مستوى النّفاذ إلى الحياة الثّقافيّة و المشاركة فيها شرطا ضروريا لبناء مجتمعات عادلة . فالنّساء ، كمواطنات ناشطات صلب الحياة الثّقافيّة ، تلعبن دورا فعّالا في تنمية المجتمعات و شمول الجميع اجتماعيّا . هنّ يساهمن بقوّة في التّصدّي للعنف القائم على الاعتبارات الجنسانيّة من خلال الأنشطة الثقافيّة و المبادرات المبتكرة و الملائمة ثقافيّا .

على صعيد آخر تلعب المؤسّسات الثّقافيّة ، باعتبارها أقطابا للتّعليم اللانظامي مدى الحياة ، دورا هامّا في فهم الدّيناميّات الجنسانيّة . يجب أن تعمل هذه المؤسّسات ، من متاحف و مراكز ثقافيّة و قاعات سينمــــــــا و غيرها ، على تكريس صورة متوازنة للجنسين . حيث يمكنها أن توفّر محتوى يساعد على تعديل اختلال التّوازن بين الجنسين و يعزّز تمكين المرأة .

يجب أيضا ضمان المساواة بين الجنسين في حريّة الانتماء إلى تراث معيّن و تأويله . ذلك أنّ مشاركة الأفراد و المجتمعات في القرارات المتعلّقة بتراثهم و في المحافظة عليه و إدارته تتميّز غالبا بقراءة قائمة على الاعتبارات الجنسانيّة . و بالتّالي فإنّ الفجوة بين الجنسين على مستوى الاختيار و التّعبير في مجال التّراث تعيق دورالمرأة في المجتمع . لذا يجب ضمان مشاركة المرأة و اتّخاذها قرارات في مسائل التّراث .

على المستوى الاقتصادي تساعد الثّقافة على تحقيق المساواة بين الجنسين و تمكين المرأة من خلال الفرص الاقتصاديّة الّتي توفّرها لها . في ظلّ الفارق الملموس بين الجنسين على صعيد التّمكين الاقتصادي توفّر الثّقافة للنّساء فرص عديدة لكسب الدّخل . و هو ما يكسبهنّ استقلاليّة هامّة تنعكس بدورها على العلاقات بين الجنسين في إطار المجتمع و العائلة . تمثّل هذه الاستقلاليّة الماليّة و الاقتصاديّة أيضا أداة ناجعة لبناء مجتمعات نشيطة و قادرة على الصّمود .

في القطاع الثّقافي تفتح النّماذج الاقتصاديّة الملائمة للبيئة الاجتماعيّة و الثّقافيّة و الجنسانيّة للنّساء آفاقا واسعة للشّغل و إحداث المؤسّسات . حيث تضمن أنظمة الدّفع المعتمدة بالنّسبة لبعض المبادرات التّنمويّة ، كالأسواق و المراكز التّقليديّة ، للنّساء دخلا منتظما خلال فترات إنتاج أطول بما يتماشى مع مسؤوليّاتهن العائليّة و المنزليّة .

من ناحية أخرى تساهم الثّقافة في التّصدّي للعنف القائم على الاعتبارات الجنسانيّة . و تشير دراسة دوليّة أنجزت سنة 2013 إلى أنّ العنف القائم على الاعتبارات الجنسانيّة يمسّ حوالي 35% من النّساء في العالم . أمّا في عديد مناطق النّزاع و التّوتّريمثّل العنف ضدّ المرأة و الاغتصاب الّذي تتعرّض له تكتيكات عدوانيّة .

إنّ مشاركة النّساء في الحياة الثّقافيّة و المقاربات المراعية للقيم الثّقافيّة تؤدّي إلى توازن أكبر في العلاقة بين الجنسين و تتصدّى للعنف ضدّ المرأة . حيث تستعمل التّعبيرات الثّقافيّة أحيانا من قبل النّساء و البنات كوسيلة تعبير . و هذا هامّ جدّا في الوضعيّات الّتي لا تتمتّع فيها المرأة بالحقّ في التّعبير في الفضاء العامّ . بالتّالي تمكّن الثّقافة والأشكال الثّقافيّة من إحداث تغييرات إيجابيّة في السّلوك و تعزيزالمساواة بين الجنسين . فالأنشطة الثّقافيّة تمثّل وسيلة تحسيس محلّيّ في مواجهة العنف ضدّ المرأة و الممارسات السّيّئة و أشكال التّمييز الأخرى . بفض المشاركة في هذه الأنشطة ، تعزّز النّساء و الفتيات قدراتهنّ و تشاركن بقوّة في المجتمع المدني و دعم السّلام .