الخميس 16/10/1445 هـ الموافق 25/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
'اللحظة الراهنة'...تفاحة سابا
'اللحظة الراهنة'...تفاحة سابا

الصّور تأتي وتغيبُ

لا بدّ أَن لها علاقة بشيءٍ ما يخصُّني، لكنّني لا أَستطيعُ تحديدَ أَيِّ زمانٍ أَو مكانٍ لها، لا ترابط فيما بينها، يبدو أَنَّها من أزمنةٍ وأَمكنةٍ مختلفة، عندما تعلو أكونُ كمَن في هلوساتِ مخدِّرٍ أَو هذيانِ حُمَّى، إِنّها أَشبهُ بالكوابيسِ أَو أَضغاثِ أَحلامٍ، لا لقسوتِها أَو غرابتِها، إنّما لفعلِها عليّ، ولوقعِها في الرّوح.

عندما تحلُّ تسيطرُ على كلِّ شيءٍ، فلا يبقى في الرّوح مُتّسع لأَيِّ حركة، فجسدي ثقيلٌ يغوصُ في الفرشةِ ولا قدرة لي على تحريكِ أَطرافي، ولا أَذكرُ بالضّبط ما الّذي أَتى بي إِلى هُنا، إِنَّها فرشتي! المكانُ يبدو غريبًا، لكنّه بيتي!

يقولونَ لي: "لديكِ قدرةٌ مذهلةٌ على النّهوض بعدَ كلِّ سقطةٍ، وعلى الوقوفِ بعدَ كلِّ انزلاقٍ، عمقُ الهاويةِ أَو اتّساعها لم يكنْ يومًا ذا شأنٍ بالنّسبة لكِ".

يعتقدون أَنَّهم بذلكَ يمدُّونَ يدَ العونِ لي. يعتقدونَ أَنَّ ما أحتاجهُ هو مزيدٌ منَ التّشجيع والدّعم، يريدونَ حَقني بوجبةٍ منَ التّفاؤل، وهم لا يعلمونَ أَنَّ مفعولَها كمفعولِ بعضِ المساحيقِ على الوجهِ، لا يمكنُها أَن تُخفي تجاعيدَه، ولا أَن تمحو الهالاتِ السّوداءَ تحتَ العيونِ المُحمرَّةَ من شدَّةِ القلقِ والأَرقِ!

ما الّذي يعلمُه هؤلاء الّذينَ ينحصرُ عالمُهم بالزّحف مدى الحياةِ، كالدودةِ في بعدٍ واحدٍ، في خطٍ واحدٍ جيئةً وذهابًا، طولًا وعرضًا؟

ما الّذي يعلمونَه عن الصّور الّتي تهاجمُني في أَيِّ وقتٍ ، دونَ أَيِّ سابقِ إِنذارٍ أو إِشعار؟!

ما الّذي يعلمُه هؤلاء عن العوالمِ الّتي تنقلبُ رأسًا على عقب، وتدفنُ تحتَ أَنقاضِها كلَّ شيء، كلَّ شيء؟؟!!

ما الّذي يعرفُه هؤلاء عن عالمِ الانهيارِ والخلقِ من جديد، عن عالمِ الفوضى وإِعادةِ التّرتيب؟

ما الّذي يعرفُه هؤلاء، عن عالمِ الأَبعادِ الثلاث والأَربع وأَكثر من ذلك بكثير؟؟!! 

ما الّذي يعرفُه هؤلاء، عن عالمِ ما بعدَ الأَبعادِ وعن العالم الّذي تتلاشى فيه الأَبعادُ؟؟ّ!!

ما الّذي يعرفُه هؤلاء، أَصحابُ العالمِ واضحِ المعالمِ، واضحِ القوالبِ؟

عالمٌ مساحةُ الحياةِ فيه ضيقةٌ، ضيقةٌ جدًا, لا تتيحُ للدّهشةِ مكانًا، ولا لفعلِ الحياةِ فرصة، ولا لملامسةِ النارِ والنورِ مجالًا، ولا لمعانقةِ الموتِ احتفالًا، 

الشمعةُ في أسفلِ الكأسِ المعبأِ بالماءِ وعطرِ الفانيليا الّتي كان يجبُ أن تبثَ النورَ ورائحةَ الحبِّ والحليبِ في الغرفةِ، كانت تذوي أَمامي، تشحبُ وتتضاءلُ مرَّة تلوَ المرة وهي تتلوّى وتقطرُ، من يعرفُ ربّما أَلمًا، ربّما حبًّا.

الشمعةُ في غرفتي كانت عاجزة عن أداءِ دورِها، ومحاولاتي المتكرّرة لإنعاشها لم تؤثرْ فيها، هي أَيضًا مثلي ربّما تداهمُها الصّور، ربّما هي تتلوّى هذيانًا على وقعِها، هي مثلي أيضًا لا تكفيها عملياتُ الحقنِ المستحضرةِ من عالمِ البعدِ الواحدِ؟

الصّور تداهمُني من كلِّ الأَبعادِ، تخلطُ الماضي السحيقَ بالقريبِ، بالحاضرِ، بالمستقبلِ القريبِ والبعيدِ جدًّا،  تختلطُ الأزمانُ وأُصبحُ لا شيء في هذا المدِّ غيرِ المحدودِ وغير المتناهي، 

لماذا تداهمني الصّور؟؟

لم أحلمْ يومًا بالجنةِ البعيدةِ المشتهاةِ المستحيلةِ، ولم تُرهبْني جهنم بكلِّ تهويلاتِها. هذا المستقبلُ الموعودُ أَو المسدودُ لم يشغلْني يومًا، لم أَحلمْ بحياةٍ ورديَّةٍ، ولم أَنكمشْ أَمامَ التحدياتِ وخذلانِ الصعابِ، كلُّ ما حلمْتُ به هو تيهٌ في اللّحظة الرّاهنةِ بكلِّ أطيافِها وتحدياتِها، وذوبانٌ وانصهارٌ حتَّى النفسِ الأَخيرِ.

ما الّذي أَتى بي إِلى هنا؟ وما هذهِ الصّور الّتي لا تتوقفُ؟

من أَيِّ العوالمِ تأتي؟ وإِلى أَيِّ العوالمِ تأخذُني؟

هُنا، الآن في عمقِ اللّحظة الرّاهنةِ, أَنا، في فوضى الصّور، أَخوضُ في عمقِ الحياةِ ولا نهائيَّةِ الاغترابِ، في الّتيهِ الّذي أَردْتُه.

هُنا، الأمورُ حارةٌ حرارة جهنم، ولطيفةٌ باردةٌ برودة النعيمِ.