الجمعة 10/10/1445 هـ الموافق 19/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
مسَّني جنٌّ.....بقلم تفّاحة سابا
مسَّني جنٌّ.....بقلم تفّاحة سابا

أسندَتْني إِلى صدرِها وقالَتْ:

"ارقدي بسلامٍ يا ابنتي، يا مهجة الروحِ، اسكني إِلى قلبي، دموعُك التي تنسابُ غاليةٌ عزيزةٌ عليَّ, مع كلِّ دمعةٍ لك أَقطرُ وجعًا لأجلك ولأَجلي".

قرأَتْ بعضَ الصلواتِ فوقَ رأسي لأَهدأَ، قبَّلَت وجهي، مسحَت دموعي، مسَّدت يديَّ وقدميَّ, طبطبَت على كتفيَّ لتخففَ بعضَ تشنُّجي وتبعثَ الاطمئنانَ إِلى روحي المنتفضةِ الهائمةِ بعدَ أَن انتفضَ جسدي وخرجَ عن سيطرتي للحظاتٍ طويلةٍ كنْتُ أُطلقُ فيها الصيحاتِ مرَّاتٍ والنشيجَ مرَّاتٍ أُخرى وأَتنفَّسُ بسرعةٍ متواترةٍ وبعمقٍ شديدٍ حتَّى ينقطعَ النفسُ، كانَتْ ترتعدُ كلُّ فرائصي وكأَنَّ أَعضاءَ جسمي انفصلَتْ عن بعضِها فتمرَّدَ كلُّ عضوٍ على طريقتِه وانسحبَ إِلى حياةٍ خاصَّةٍ به، بعضُها امتدَّ إِلى آخرِ الكونِ وبعضُها قصرَ حدّ الاختفاءِ والتلاشي وبعضُها ركبَ على بعضِها وبعضُها تلوَّى في بعضِها، 

فوضى عارمةٌ اجتاحَتني!

لفَّتني في حجرِها والتفَّتْ عليَّ لتعيدَ ترتيبَ تبعثُري وتُرجعَ الأَشياءَ إِلى موضعِها، إِلى عالمِها واضحِ الملامحِ، كانَ جسمي غريبًا تمامًا عنِّي أَو ربَّما كنْتُ أَنا الغريبة عنه، ما عدْتُ أَعرفُ، لم تكنْ لديَّ أَيَّ قدرةٍ على التمييزِ، كلُّ ما تبقَّى حالةٌ منَ التلاشي، منَ الذوبانِ في الغربةِ والاغترابِ عن كلِّ ما اعتبرْتُه يومًا ما أَنا!

احتميْتُ بها، ركدْتُ عندها كما لم أَفعلْ يومًا وأَنا طفلةٌ صغيرةٌ، فأَنا لا أعي نفسي إِلَّا كالفراشِ، أَنطلقُ نحو الضوءِ، وأَبقى في حركةٍ مستديمةٍ دونَ ثباتٍ على شيءٍ، وقد حمَتْني هي كما لم تفعلْ يومًا، فقد كانَتْ امرأةً عمليَّةً، لا مكان لفيضِ المشاعرِ عندَها، إِلَّا أَنِّي ورغمَ محاولاتِها المتكرِّرةِ والمستميتةِ لاحتوائي، كنْتُ أَقرأُ القلقَ في عينيها الباحثةِ عن أَجوبةٍ في جدرانِ المكانِ، في هذا الفضاءِ الضيِّقِ الذي يخنقُنا، يجمعُنا معًا ويفصلُنا عن بعض، وكنْتُ أَسمعُ صوتَها المتهدِّجَ، يعلنُ الانكسارَ بأَلفِ طريقةٍ وطريقة.

ماذا ستفعلُ بحلمِها؟

كنْتُ أَنا حلمها، وها هو ينهارُ أَمامها، تراني أتوجَّعُ وأَتقوَّضُ كبناءٍ زلزلَت به الأَرضُ، وهي لا تفهمُ ولا تقوى على تلمُّسِ أَي خيطٍ يمدُّها إِلى المعرفةِ، وما أَصعب أَن تكوني امرأةً عمليَّةً قليلةَ الحيلةِ.

كنْتُ أَرى وجعَها في قلَّةِ حيلتِها وأَتأَلَّمُ لأجلِها، فهي لا تؤمنُ بالجنِّ الذي يركبُ الناسَ، لكنَّها تؤمنُ بالرقيةِ والصلواتِ والدعواتِ، وبالشيوخِ وزيارةِ المقاماتِ، والتضرعِ إِلى الأَولياءِ الصالحين، ولم تسأَلْ نفسَها يومًا لماذا؟

هي منَ الجيلِ الذي لا يسأَلُ الأَسئلةَ ولم يسأَلها يومًا.

هي من الجيل الذي أُجهضَت أَسئلتُه كاملةً قبلَ أن تولَدَ، ما عدا عدم إِيمانِها بالجنِّ فقد نجا من رهبةِ السؤالِ، ولا أَحد يعلمُ كيف حدثَ ذلك، ولا حتَّى هي نفسُها، ولو عرفَت، لاستغربَتْ كلَّ ما تلا ذلك مِن معتقداتٍ.

كانَتْ مستعدَّةً وهي تحتويني، أَن ترتكبَ كلَّ شيءٍ حتَّى الجنون لتفهمَ شيئًا، لترحمَني مِن نفسي، وترحمَ نفسَها مِنِّي ومن قلَّةِ حيلتِها.

وأَنا ركبَني جنٌّ عنوةً، حقيقةً، ركبَني الجنُّ!

ركبَني جنٌّ مِن النوعِ الذي تعرفُه هي وتفهمُه جيِّدًا، رأَيْتُ ذلك في نظرتِها المجنونةِ إِليَّ، وكأَنَّها أَدركَت فجأَةً شيئًا ما، ما كانَ لها أَن تدركَه، أو ما شاءَت أَن تدركَه.

نظرَت إِليَّ نظرةَ ارتيابٍ شديد، وصرْتُ للتو متَّهمةً. نظرةُ الجنونِ في عينيها اتَّسعَتْ، مشَّطَت جسدي كلَّه من رأسي حتَّى قدميَّ، لتعثرَ على أَدلَّةِ الجريمةِ، ثمَّ تحوَّلَت في ثوانٍ إِلى نظرةِ استسلامٍ تعلنُ خرابَ بيتِها وتقولُ:

- "يا شحاري إذا هالحكي صحيح".

نظرْتُ إِليها بخوفٍ كبير،ٍ لا يقلُّ عن خوفي عندما ركبَني ذاك الجنُّ عنوةً، وكانَتْ نظرتُها الجديدةُ تقول:

"اسكتي، لا تنطقي بكلمةٍ، ارقدي بسلامٍ واسكتي".

تمامًا، كما كانَتْ نظرتُه القذرةُ المتوحِّشةُ تصرخُ وهي تكتمُ أَنفاسي:

"اسكتي، وارقدي بسلامٍ حتَّى أَنتهي منكِ وبعد أَن أَنتهي منكِ"!

رأَيْتُها بعينِ روحي تعقدُ رايةَ صلحٍ معه، اتّفاقًا على جثَّتي!

صفقةٌ رابحةٌ، قبضَ كلاهما فيها الثمنَ، وصانَ ماءَ وجههِ!

ما لم تعلمْه هي أَنَّه مسَّني جنٌ آخر، مِنَ النوعِ الذي لم تسمعْ عنه هذه المرأةُ التي لا تعرفُ منَ الحياةِ إِلَّا الخضوعَ والصلاةَ. ركبَني جنٌّ فكَّ عقالي من رباطِها، بعد أَن فضَّ ذلك الجنُّ الذي ركبَني عنوةً، غشاءَ بكارتي!

ما لم تعلمْه هي أَنَّه لا يمكنُ بعدَ اليومِ، بعدَ أَن تمرَّدتْ أَعضائي، وذهبَ كلٌّ منها في اتّجاهِ، وبعدَ أَن بكيتُ حتَّى انقطاعِ النفسِ، ورأَيتُ رايةَ الصلحِ والصفقةِ تُعقدانِ على جثَّتي!

ما لم تعلمْه هيَ، أَنَّه لا يمكنُ بعدَ اليومِ لملمتي مِن جديد، أَو إِعادتي إِلى مرابطِ الحظيرةِ!