الجمعة 19/9/1445 هـ الموافق 29/03/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
خميرة بقرشين ... أسمهان خلايلة
خميرة بقرشين ... أسمهان خلايلة

تضم أصابعها على نقود ،:  هاكِ قولي للعم  "أبو خالد" أعطني خميرة بقرشين ، المبلغ يجعلني أفهم انها ستعجن ع الليل  لأن العجين في النهار يعني أن اشتري خميرة بشلن ،  اكثر من قرشين.،حين سمعت العبارة أول مرة لم أفهم ماذا تعني أمي  ب ع الليل . 

لكنني اُستنتجت التفسير وحدي حين وضعت أمي طحينا وملحا وخميرة في اللجن الواسع ثم أخذت تصب الماء الفاتر ، ممنوع أن يكون ساخنا لئلا يسلق الخميرة ويزيل مفعولها في تخمير العجين ، ثم تخلط والعرق يتصبب من وجهها ،فتمسحه بكم ثوبها الذي شمَّرته حتى أعلى زنديها ، أتدخل أحيانا فأساهم بالفوطة بيدي لكنها تصر على أنه ما مسح عرقك مثل يدك كما لا يمكن أن يحك جلدك سوى ظفرك وهذا لا يعني إعفائي من مهام أخرى مثل رشق الماء المتبقي في الاناء بعد العجين بعد ان تحذرني من سكبه في حوض المطبخ المستعمل للجلي، لأنها مياه عجين وحرام أن تختلط في حفرة المياه الدنسة الواردة من الحمامات .

تعجن أمي في ساعات   منتصف الليل بكمية خميرة قليلة حتى لا يختمر العجين سريعا وتذهب لتنام حتى أذان  الفجر فتصلي وتباشر تكوير قطع العجين ، فيما يبدا نداءها التدريجي : يما حبيبتي ، إنهضي ،  وأكون ساهرة لأنها تعجن مساء الخميس أي عطلة في اليوم التالي، لكنها كانت تكسر الروتين وتوقيت يوم الجمعة اذا ما نفذ الخبز سريعا وعليها تأمينه للزواويد، ( جمع زوادة) ،   ينتابني القلق من حكم الاستيقاظ في الصباح الباكر لأنني سأُحرم من التمدد لساعة إضافية .

.صباح ليلة العجين ع الليل عليَّ الإستعداد  كما في معسكر  أو حالة طوارئ،  حيث يتعالى صوت اصطدام المرقاق بطبلية العجين أثناء رق القطع ،ممّا يخبرني بأن ذهاب أمي  لتحمي الموقد.قد اقترب .

على مضض أسارع  إلى نثر الماء على وجهي، وأشرع بنقل العجين المرقوق على طبق القش الذي حاكته ستي حظية، ألحَقُ بها إلى الوقادة وهي تنّور تبنيه النساء من الطين المجبول بالقش، تبدا قطع حطب الزيتون بالتوهج فتلفح وجهي  الحرارة، اتعاطف مع أمي وانا  أناولها الطبق لأعود أدراجي مسرعة أرتب المزيد من قطع العجين ، ولا أكاد أناولها الطبق حتى  تناديني :شدي  همتك يا بنيتي الوقّادة حامية ، أجلب صحن الزّعتر المخلوط بزيت الزيتون ، أقرفص إلى جانبها وأناولها العجين المدهون بالزعتر ، ..وفي حوالي الساعة تكون عشرات الأرغفة المقمرة على الوجهين تفحفح رائحتها الشهية تصطف على الطبقين .

ريثما تبرد نجلس انا وإخوتي  وأمي لتناول الشاي والزيتون والزعتر ..افطار قبل الثامنة صباحا .

في ذلك اليوم لم تعجن أمي رغم أنني  أحضرت لها الخميرة كما طلبت مني مع حلول المساء ،خرجت أمي على عجل تلف إيشاربها وتعقده عند ذقنها فيما تحشو قدميها في الزنوبة البلاستيكية وتهرول دامعة العينين  ..

ما الذي حدث يا أمي ؟

: لا تلحقي بي عودي إلى البيت وانتبهي لإخوتك ،ضعي لهم العشاء وأقفلي الباب ،

لا تشعلي اللوكس ولا تضيئي القنديل لانهم أعلنوا منع التجول .

أتظاهر بالرضوخ لطلب أمي وأقفل الباب لبرهة  انظر الى بسطار ابي المتسخ وقد رماه وهو يعدو راكضا يسارع إلى  حيث تبعته دون ان يشعر بي ، إلى بيت أحد سكان القرية حيث بقي وأمي حتى الصباح هناك ،  العويل والبكاء يشقان الجو إلى أجزاء ...صراخ يمزق نياط القلب ، نسوة  يمرغن وجوههن ويعفرنها بالتراب .. صبايا يلوِّحن بملابس رجال أو شبان وشابات ويتمايلن في رقص مريع مخيف ،تنفجر إحداهن : يا حسرتنا على شبابنا ، شهداء لقمة العيش ، شهداء الوطن .

عدت أدراجي ..انفجرتُ بالبكاء دون ان استوعب ما رأيت في دقائق اختلستها من وراء ظهر أمي .

يقولون أن اكثر من أربعين عاملا وعاملة تم رشقهم بالرصاص على أيدي جنود الإحتلال ..

مساكين عائدون من عملهم في الحقول وقد قضوا نهارهم تحت الشمس وسياط صاحب الأرض ، المستوطن الذي تمَلّكَها( استولى عليها) غصبا عنهم .

  استغرقت سنوات لأفهم تلك القصة الرهيبة ، واتضحت لي القصة الأشد إيلاما وقهرا : أن الحاكم الظالم حكم على القتلة بقرش  واحد، غرامة على ما اقترفوه من جرائم وقتل أبرياء ...

قرش ..تعويض ..

القرش يشتري كمية خميرة !

اتعرفون كم؟

ما يملا ملعقة صغيرة كالتي نضع بها السكر في الشاي !

روح شاب عربية قتلوه بدم بارد تساوي ما يملأ مقدار ملعقة الشاي خميرة .،انه قرش  شدمي (قائدالجنود)...

ومن يومها  ورغم الغلاء والتضخم ما زال دمنا أرخص ما في الدنيا من (سلع ) ..

 

الجليل الفلسطيني