الجمعة 19/9/1445 هـ الموافق 29/03/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
من أرشيف الذاكرة أنا وغولدا مائير تحت المطر ...شوقية عروق منصور
 من أرشيف الذاكرة  أنا وغولدا مائير تحت المطر ...شوقية عروق منصور

داخل الإطار الأسود ، رأيت ملامحه البعيدة ، لم أر ضحكته اللزجة التي تسيل من بين شفتيه وتبعث على الهروب، داخل الإطار الذي يحيط بصورته ترتكب الكلمات خطيئة الوداع، وتحاول جر الدموع إلى منافذ وهم البقاء .

ضبطت نفسي على رصيف الشفقة، لقد رحل معلم الكشاف .. ! تنهدت .. سنوات غرقت في الذاكرة ، لكن موته أنقذ صورته التي ورطتني يوماً ي مشهد بائس ما زال يتأرجح فوق عمري.

دخل إلى الصف الرابع، أشار بيده وقال بسرعة : طلاب الكشاف عليهم الخروج من الصف والتواجد في قاعة الرياضة لإمر ضروري !!

في القاعة كان المدير مع معلم الكشاف في حالة ذعر خفي، يحاولان لملمة الذعر ونثره فوق رؤوسنا الصغيرة التي تنتظر الأوامر ، بعض الحروف تسللت الينا حين أخذ المدير يتكلم مع الرجل الغريب، فانتبهنا له : هس ... ولا كلمة ..!! صمتنا .. قال المدير :

يوم الخميس القادم ستقوم رئيسة الحكومة غولدا مائير بزيارة لمدينة الناصرة وستقوم جميع الفرق الكشفية المدرسية باستقبالها، وقد تم اختيار فرقة كشاف مدرستنا للعزف أمامها وتقديم باقة الزهور لها .

خيم الصمت على القاعة .. تقدم الرجل الغريب اخذ يتكلم باللغة العبرية، لم نفهم ولم يحاول احد الترجمة...  المدير يهز راسه مستمعا ومستمتعا، ومعلم الكشاف يتأمل وجوهنا التي ظهر عليها الزهق من هذا الضيف ثقيل الظل .

انهى  الرجل الغريب كلمته ، سلم على المدير ومعلم الكشاف ، ثم ترك القاعة ، تنفسنا الصعداء .. شعرنا أن حملاً ثقيلاً قد انزاح عن صدورنا لكن معلم الكشاف قفز أمامنا بسرعة وقال :

 انتبهوا ... ! بقصف اعماركم إذا ما بتتمرنوا منيح ..!! اليوم ما تروحوا بعد انتهاء دوام المدرسة !!! أنت .. أشار إلي ... تمرنتي على ضرب الطبل !!! نعم .. قلتها وأنا أعرف أن سيكشف كذبتي بعد قليل ، هل أعترف وأقول له اني نسيت .!!

بعد انتهاء دوام المدرسة اجتمعنا في قاعة الرياضة مرة أخرى ، حيث كانت الأدوات الكشفية من الصاجات والطبول وغيرها مكومة في منتصف القاعة !!

كل واحد يوخذ الأداة اللي تعلم عليها ..  تناولت الطبل .. أخذت أضرب عليه .. صرخ المعلم بأعلى صوته وقال : هيك راح تخزقي طبلة دان غولدا مائير ... أخذت أضرب بصوت منخفض .. صرخ مرة أخرى .. أعلى شوي !! أعلى ... أعلى .

في اليوم الموعود لزيارة " غولدا مائير " حاول أبي منعي من الذهاب بسبب الأمطار الغزيرة التي لم تتوقف عن الهطول – وكمان شوفة غولدا مائير مش محرزي – لكن تهديد معلم الكشاف الذي انهالت تهديداته فوق رؤوسنا كالحجارة ، حولتنا إلى قطع من الشطرنج أصيبت بمرض الزحف نحو الاستسلام الطفولي أمام طوفان من الخوف .. ها ... ارفعوا اسم المدرسة ... ! ها .. إذا كنتم أحسن الفرق راح  آخذكوا  رحلة على جبل الشيخ .

دخل المدير غرفته ، معلم الكشاف يرتعد خوفاً أو برداً لا أدري .. لقد رأيته يشد أكمام سترته وينفخ بين كفيه ، جاء الباص ، كل واحد منا يحمل أداته التي سيعزف عليها .

في مدخل مدينة الناصرة ، أمام فندق " أم واصف "  أنزلنا الباص .. لا مكان لنا .. المئات يحتلون الأرصفة والشارع المقابل للفندق .. رجال دين ورؤساء مجالس وبلديات ، ووجوه رجالية ترسم الابتسامات البلاستيكية المسروقة من لمسات دفء عابر ، وكاميرا تلفزيون يحاول حاملها نقل الوجوه المشرقة ، معلم الكشاف يحاول حشرنا بين الجميع ، يشير إليّ ، أحاول تركيز ووضع الطبل على وسطي ، لا أستطيع فإنا بين قامات أطول مني بكثير ، و تحاشر هذه القامات أيضاً باحثة عن موضع قدم ، معلم الكشاف يشير إلي بغيظ ثم يتقدم نحوي ، يساعدني بربط الطبل جيداً ، ويطلب مني الوقوف مع باقي الفرقة التي جهزت نفسها ووقفت تنتظر وصول رئيسة الحكومة غولدا مائير على الدرج المؤدي إلى باب الفندق .

طال الانتظار والرئيسة غولدا لم تظهر ، المعلم يستعرض وقوفنا جيداً ، يطالبنا بالالتزام ، الدرج الرخامي امتلأ بالماء ، فالمزراب المربوط بسقف الفندق يصب على الدرج ، شعرت بالماء يتسرب إلى حذائي ، لم أتكلم ، وبقيت أتحمل المياه وهي تخب في حذائي .

الوجوه مشرئبة ، منتظرة ، متحملة الأمطار الغزيرة ، ولم تعد المظلات تكفي حين تخاذلت وبدأت تتطاير أو بدأت قطرات المطر تصنع القنوات المائية فوق القماش لتنزل بسرعة على البدلات الرسمية .

شددت الطبل محاولة نزعه ، فحمله بدأ يضايق خصري الصغير ، عين المعلم رصدت محاولة النزع فجاء مهرولاً !! امسكي الطبل منيح ... وقفي منيح ... عدت ووقفت منتصبة ، المياه ما زالت تتسرب داخل حذائي ، وزاد عليها المياه التي تنقط من الجدار الذي أقف إلى جانبه ، حيث تكبر بقع الماء وتنتشر فوق قميصي الكشفي .

شعرت بالبرودة تشق صدري ، وتتكوم في قلبي الذي يرتجف ويتصاعد ارتجافه كلما ازدادت بقع الماء فوق القميص ، وندمت لأنني رميت السترة الصوفية التي ناولتني إياها امي .

فجأة تحركت الأجساد التي كانت متصلبة، جامدة ، هرع بعضها نحو السيارة القادمة ، وانطوت مظلات البعض استعداداً للاستقبال ...  " أجت الرئيسة " بقينا نحن أعضاء الفرقة الكشفية واقفين على الدرج في حالة تجمد ، لكن المعلم صرخ فينا بقسوة ، ثم شتمنا : يلا ... يلآ .. ابدأوا بالعزف ، أخذت أضرب على الطبل ، لكن أصابعي هربت مني .. لا أشعر بها .. انها مجرد قضبان صغيرة مملوءة الثلج ، لكن الأستاذ هجم علينا مرة أخرى بصورة وحشية ، صارمة ، اعزفوا .. نزلت  غولدا مائير  من السيارة السوداء الفارهة ، من شدة البرودة أخذت أبكي ، في ذات الوقت ممسكة بالعصي وأدق على جلدة الطبل ، وكلما قمت بالدق كان صداها يدخل مساماتي المغمورة بالبرد والماء ، فترتخي وتنسل منها قوة اللحظة الخانقة من المعلم .

اقتربت " غولدا " من مطلع الدرج الذي نقف عليه ، أصوات عزف الفرق الكشفية الأخرى مع فرقتنا تشكل موسيقى فوضوية غير متناسقة ، وكنت أنا جزءاً من هذه الموسيقى التي بدأت تتلاشى ويحل محلها كلمات المجاملة والترحيب .

مرت الرئيسة غولدا امامنا لم تلتفت وتنتبه لأحد منا ، حتى ابتسامتها كانت مقتضبة ، دخلت من باب الفندق هي ومجموعة من رجال المدينة ، وبقينا نحن على حالنا ، لم نستطع التحرك خوفاً من المعلم الذي هددنا ، وبقي المزراب ينزف مطراً ويصب في حذائي .

أخذنا نفتش عن المعلم الذي اختفى وذاب بين الوجوه ولم نجده ، حمل كل واحد منا اداته ورجعنا الى بيوتنا ركضاً ، زخات المطر تطاردنا والرياح تلفح وجوهنا ، أما أقدامنا فكانت تحت رحمة الحفر والسيارات التي تمر وتقوم برشقنا .

جنت أمي عندما رأت ملابسي منقوعة بالماء ، وأخذت تشتم المعلم وغولدا مائير وجميع المنافقين الذين استغلوا براءتنا .

في الليل كانت درجة حرارتي فوق الأربعين ، انتظر أبي حتى الصباح حيث أخذني عند الطبيب الذي حولني بسرعة إلى المستشفى لأنني مصابة بالتهاب حاد في الرئتين ، ورقدت في المستشفى عدة أيام.

بعد أسبوع رجعت الى المدرسة ، لم يسأل عني المدير ولا معلم الكشاف لأنهم غضبوا من الفرقة الكشفية ، لأنها لم تلفت نظر واهتمام رئيسة الحكومة " غولدا مائير " وفشلنا في الحصول على الجائزة .

وفي اجتماع الآباء في نهاية الفصل الدراسي ، أجبر مدير المدرسة أبي على دفع ثمن الطبل ، لأن جلدة الطبل قد تمزقت .. ! وهناك الكثير من الخدوش على جوانب الطبل .