الخميس 16/10/1445 هـ الموافق 25/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
يا ابنةَ الرّياض ونجيّةَ الجداول .!! (2).....بقلم يوسف ناصر
يا ابنةَ الرّياض ونجيّةَ الجداول .!! (2).....بقلم يوسف ناصر

.. لربّما سئمتِ أمسِ حديثي , وأنا أسامرك أيّتها اليمامة الوفيّة , إذ رأيتُ النّعاس ألقاك بيديه في لجّة النّوم العميق , فغرقتِ هناك في الأحلام الصّاخبة , إلى أن أقبل الصباح وأخرجك على زورق تائه من زوارقه , كان يمخر صدفةً في ذلك العباب , وانتشلك مبلّلةً برحيق التباشير وقطرات الأنوار .!

           .. لا ، قالت اليمامة : أنا ما سئمتُ حديثك كلّ أيّام إقامتي في رحابك , ويا طالما وجدتّ عزاء لي في تغريدك ، وشجو العندليب الذي فيك .! بل إنّ ما وددت أن أقوله لك , ولا تغضبْ , أنّ عُشّي هذا الذي بنيتُه بالقشّ وأعواد الهشيم اليابس , خيرٌ لسذاجته من قصرك الّذي بنيتَه بأجمل الحجر والرّخام .! ليتك تعلم أنّ قناعتي بما عندي , هي المفتاح إلى سعادتي , وأنّ في نقصان عقلي زيادةً على عقولكم معشرَ البشر .! وأنّ جهلي نعمة عندي , بقدر ما هي معرفتك مصيبة لديك لا تبرحك .! مسكين أنت ! إنّ إناءك الصّغير أصبح لا يتّسع لهذا العالم الذي يجلس فيك بهمومه الكثيرة , وما يمليه عليك دائمًا من عدْو مع النّاس وراء مغرياته .! كلّ مولود منكم , ومن ساعة أن يأتي إلى هذا العالم , يصعد إلى سفينتكم , أعني حياتكم , دون أن يدري ما في السّفينة , ودون أن يعلم أنّ السفينة ذاهبة لتلقي به في بحر العذاب الصّاخب , لتغرقوا في العداوات والمنافسات الدّائمة ..! والذي يؤلمني أنّني لم أرَ واحدًا بين أبناء البشر منذ نشأة الخليقة, من طلب النزول منها عند اقرب الشواطئ ..!!                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                           

             .. أحيا حرّة , كما تراني , لا تحكمني مثلكم تقاليد تناسلت في الأرض , وعادات استحالت ديانات مصنوعة بأيدي البشر ..! نما الدين الواحد عندكم شجرةً عظيمةً حتّى نأَتْ فروعها عن أصولها ، وتبرّأت غصونها من جذورها ,  وأصبح البشر لا يعبدون إلاّ البشر , والنّاس لا يقدّسون إلاّ شرائع النّاس , ويا حسرتا ! لم يبقَ لله نصيب من عباداتكم , وإنْ كثرت الكنائس والمساجد وبيوت الله الكثيرة في العالم ..!

            .. اُنظرْ ترَ الكون الفسيح والفضاء الرحب ملكي كلّه .! لا حدود ممنوعة , ولا حواجز مسدودة , ولا أقاتل من أجل حقّ مغتصب , ولا أسعى لسلب أو لنهب يومًا ..! لا أنازع , ولا أخاصم أحدًا , إنّ سلامي يمنحني سعادتي , وقناعتي تجلب لي حرّيّتي  .!  تشرب الجداول من نبض أوتاري , وتتأوّد الغصون لبلاغة أناشيدي .! أمّا أنتم فقد بلوتم أنفسكم معشرَ البشر بنزعة الاِسْتملاك علّة شقائكم , وعذاباتكم , وأحزانكم , وأمراضكم ! فنزع النّزاع الدّائم بينكم كلّ سعادة فيكم , وبذر كلّ الرذائل والشّرور في قلوبكم , فأصبح العالم غابةً خرجت من بين أضلعكم , وجعلكم تستعينون بآثامكم من أجل الغلبة في حربكم مع أخوة لكم من ظلم , وكذب , ورياء ,وغدر , وطمع , وحقد , وحسد , وعنصريّة , وفي ذلك كان للقويّ بشرّه بينكم , النّصرُ على الضّعيف بخيره فيكم , وللمتوحّش بينكم الحظّ الأعظم على المتألّه عندكم !! فضاعت حرّيّتكم ولن تجدوها ! وغاب سلامكم ولن تعثروا عليه يومًا ! وإنّ أطبّاءكم من أنبياء , وأدباء , وشعراء , وفلاسفة ما انفكوا منذ نشأة العالم , ينصحونكم , لكنْ لا فائدة للدّواء فيكم ، ولقد جاءكم قبل ألفي عام يسوع النّاصريّ يقول لكم : "إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلاًََ فَاذْهَبْ وَبِعْ أَمْلاَكَكَ وأَعْط ِ الْفُقَرَاءَ فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي "  ثمّ مضى , ولم تبالوا بقوله , فشقيتم إلى أبد الأبد !  قوموا اشربوا البحر , ولو كان ترياقًا , فلن يُطفئ عطشكم إلى الرّاحة .! وتجرّعوا الأنهار , ولو كانت عسلاً , فلن تزيل مرارة شقائكم  .! واملكوا الجبال , ولو كانت ذهبًا , فلن تجلب الغنى إلى نفوسكم .! واسكنوا القصور الباذخة , ولو كانت فردوسًا , فلن تجلب السّلام إلى أرواحكم .! والبسوا تيجانكم , ولو كانت مرصّعة بالكواكب والنّجوم , فلن تأتي بالأمن إلى قلوبكم .! لأنكم تعْدُون وراء المجد الأرضي الباطل , والملك الدنيويّ الزائل الذي يحمل إليكم النّدم القاتل على ما فعلت أيديكم ..! أنا طائر طليق , أمّا أنت فطائر صنع القفص لنفسه , ولن يخرج منه إلا حين يغلب هذا العالم , ولا يتحقق لك ذلك إلاّ حين تهجر العالم بالسّذاجة والقناعة والوداعة والبراءة ! حينئذ تغدو أسعد الناس بفضل السّلام السّاكن في نفسك .! صدّقني أنني بفرح اخترت منزلك الجميل , وما كنتُ لأبني عُشّي هذا فوق شرفتك , لو لم أجد فيك يمامة مثلي تحلق في أثيرها الرّحب , بعد أن خرجتَ من طبائعك , وغرائزك , ومنعتَ العالم أن يدخل إليك , رغم ندائه خلف النّوافذ والأبواب ..!

         .. قالت اليمامة قولها هذا ثمّ طارت من عشّها , فتبعتها أحلّق خلفها بأجنحتي قائلاً : صدقتِ يا شاعرةَ الأثير ! إنّ حظّك باليمامة التي فيك , خيرٌ من حظّي بالبَشَر الّذي فيّ .! لا تتعجّبي أنّني أقضي حياتي كما ترين , حربًا دائمة بيني وبين أعدائي , أحبِّ أحبّتي الّذين يسكنون فيّ : نفسي , وعقلي , والعالم الذي يطلب خلف الأبواب أن يأخذني معه .! هأنذا كما ترين , ثورة دائمة أنظّف فيها منزلي الكائن تحت صدري ممّا ألقت فيه العصور من شرور وطبائع وغرائز , عسى أن أعود ناقصًا مثلك , مِن حيث إنّ نقصان العالم فيّ , هو زيادة في الفضائل عندي ..!  أنا , وفي آن واحد أضرب أعماقي كي لا تخرج إلى العالم , وأضرب العالم كي لا يدخل إلى أعماقي .! آهٍ , لقد مللتُ حربي , وسئمت معاركي , وأرهقني أن أقضي حياتي فوق صهوة جوادي , مثلما ضجرتُ أيضًا من خرير الدّماء , ومشاهدة الضّحايا التي تسقط كلّ يوم منّي بحدّ سيفي .! فما أشقاني أن أكون أنا القاتل , وأنا المقتول في آن واحد في هذا العالم ..!

         يا شاعرة الأثير , اسمعي آخر حديثي إلى أن نلتقي هنا على سفينة الأثير مرّة أخرى : إنّ العقول , والأرواح , والعواطف , والأخلاق , والأقلام التي ليست لها أجنحة تحلّق بأصحابها معك في هذا الأثير الطّاهر , يبقى أصحابها تعساء يحيَون بين الحشرات والزّواحف في أعماق الأودية وجوف التّراب !!

  كفرسميع