الخميس 16/10/1445 هـ الموافق 25/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
تأملات ومواقف فلسفية في رواية 'البدايات' للروائي التونسي 'حسن سالمي'....بقلم يحيى الكفراوي
 تأملات ومواقف فلسفية  في رواية 'البدايات' للروائي التونسي 'حسن سالمي'....بقلم يحيى الكفراوي

 تمهيد

فور استلامي للنسخة الإلكترونية لكتاب "البدايات" للروائي التونسي "حسن سالمي" دفعني حبي للروايات إلى تصفحها بسرعة، وأول ما لفت نظري في صفحاتها الأولى عبارتين فلسفيتين، الأولى للإمام علي "ر" يقول فيها:

"النّاس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا".

والثانية للكاتب الأرجنتيني لويس بورخس يخط فيها:

"بينما نكون نائمين في هذا العالم، نستيقظ في عالم آخر، وبهذا المعنى فإنّ كلّ إنسان ما هو إلاّ إنسانان، اثنان من البشر على الأقلّ".

بعد تأملي لهاتين العبارتين لدقائق طويلة، قدّرت أن الرواية تتضمن أفكاراً عميقة لنظرات فلسفية كبرى شغلت العقل البشري عبر سنين طويلة، وقلت لنفسي يبدو أن الرواية دسمة، ثم تابعت التصفح مأخوذاً بالقدرات الإبداعية المفتوحة على الأزمنة والأمكنة والأحداث والشخصيات والمواقف والمشاهد واللقطات التي زرعها الروائي "حسن سالمي" في هذه الرواية إلى أن أتيت على آخر كلمة من كلماتها المليئة بالبلاغة والعبر.

في اليوم التالي، وفور انتهائي من القراءة المتأنية للكتاب، تذكرت عبارة لم أعد أذكر اسم قائلها مختصرها يقول: "إذا عرفت كيف تقرأ رواية قراءة جيدة دون توقف عن تذوق فصولها، فذلك يعني هو فن النقد".

فسألت نفسي، ماذا يمكنني أن أنقد في رواية تنطق بجزئيات من سيرة أبناء شعبي في البوادي التونسية؟ا..

قد لا أستطيع أن أعطي صورة واضحة عن هذه الرواية، وعن أشخاصها الرئيسين الذين وقف الروائي خلفهم بشكل خفي أحياناً، وبشكل علني عندما تدعو الحاجة؟ا...فمن يقرأ الرواية لا يخفى عليه حماس الكاتب لمعظم شخصيّات الرواية من خلال تشجيعه وتأييده لمواقفها من الوجود حتى لكاد يشعر بأن الروائي شخصيّاً يتكلم عن لسانهم.

فالدراسات العلمية في هذا المجال أثبت أن الروائي مهما تجرد، يبقى إنساناً تتفاعل فيه مكنوناته الفكرية، التربوية والاجتماعية وتصبح ميداناً خصباً لخياله وتخميناته، وبناءً على هذه القاعدة سأحاول التركيز على تلك المكنونات الوراثية لأنني أعتقد بأنها مستمدة بشكل أو بآخر من مشاهداته الشخصية، إنما لن أكون قاسياً كما طلب مني في إحدى رسائله.

"ولا تأخذك بي رأفة أو رحمة فالتجربة لا تنضج إلا بالنقد البناء،"

بل سأسير في رفقة النص لفهم أبعاده الأدبية، وسأتجنب الأحكام العامة السريعة الغير مبنية على الأبعاد الأدبية للنقد البنّاء.

الألوان التي تبتهج لها عيون التونسيون

خلفية الغلافين لكتاب "البدايات" تتكوّن من اللون الأزرق الذي يرمز إلى الحرية والحيوية عند بعض الأعراق التي سكنت تونس ومحيطها الجغرافي، الطوارق على سبيل المثال لا الحصر، وهو أزرق يتراوح بين ازرقاق لون السماء وأمواج البحر معاً.

تتوسط لوحة الغلاف الأول صورة مغارة تشكلت من الألوان التي تبتهج لها عيون التونسيون، سكان البوادي وهي تحدق فيها، مثل الأزرق، الأسود، الأبيض والبني المحروق، حيث أظهر الفنان تفاعلاً جميلاً ما بين تلك الألوان، خاصة، الأزرق الغامق الموشح باللون الأبيض الذي يفصل بين الشقوق الصخرية في أعلى اللوحة، والتي يتسلل منها النور إلى داخل المغارة عاكساً معه ظلالاً متحركة تضئ أرضها وفناءها، حيث: "الظّلمة الحالكة تتبدّد شيئاً فشيئاً، وتنزاح متهاوية كضباب مزّقه النّور" ص. .

 ويزيّن اللوحة في أعلاها وأسفلها اللون الأسود الحالك الذي تقشعر له الأبدان، ففي أسفل اللوحة تبدو أرضية المغارة عبارة عن مزيج من الصخور الصغيرة، وبعض الأشكال من النباتات والحيوانات، كذلك بعض الأشباح السوداء المستطيلة، والمنحنية التي تتواجد في وسطها وأعلاها، والتي تبدو كأنها أشباح لأجساد بشرية بالكاد نميزها إن كانت لرجال ملثمين يحملون عصي طويلة، أم لنساء يرتدن ملابس سوداء اللـون، مفتوحة الجوانب من جهة الوجه واليدين، كشبح قامة المرأة الواقفة بكبرياء على يسار اللوحة، والتي عكست المواصفات الحميدة لما أورده الكاتب عن مربية "مدين" العاقر وملهمته التي كانت تعطف عليه وتشجعه على مواجهة المتاعب مع أترابه من أبناء القرية الذين كانوا يعيرونه ببشاعة وجهه: "والله، إنّ أصلابهم لتعجز أن تقذف بمثل جمالك يا ولدي " ص. .  

كما تتضمن اللوحة خيالات مبهمة لبعض الأطفال والحيوانات الأليفة الذين يتخذون من هذه المغارة إلى جانب الرجال والنساء مسكناً لهم.

حاولت أن أبحث عن اسم الفنان الذي رسم هذه اللوحة فما نجحت، إلا أني أستطيع الجزم أنها تميّزت بقدرته الإبداعية على رسم معالم مغارة بالشكل الذي يتخيله، سواء من الواقع أو من الخيال في شكل جديد تماماً قد يتشابه أو لا يتشابه مع الشكل الأصلي للمغاور، ولكنه، استطاع بسهولة إعادة صياغتها برؤية فنية تجلت فيها حسه وخياله باللونين الأزرق والأسود، وبنسب التعرجات الجانبية التي وظفّها في رسمها كي تحمل الناظر إلى تأملها، وكأنّها منحوتات بيد إلهية يعجز عنها البشر، وأعتقد أن الفنان قد لجأ إلى المواضيع الروائية التي أثارها الروائي "حسن سالمي" على خلفية تساؤله إذا كانت هذه المغارة: "من صنيع كائنات أخرى: الجنّ والأشباح" ص. .

اما الغلاف الأخير فيتضمن صورة شخصيّة للروائي "حسن سالمي" مع نبذة قصيرة، وقصيرة جداً، عن مؤهلاته وانتاجاته الأدبية، ونصاً "قصيراً جداً" من نصوصه المنشورة داخل الرواية.

أتابع القراءة فأجد أن الروائي التونسي "حسن سالمي" قد أستهل روايته "البدايات" بإهدائها إلى:

"القابضين على جمر الكلمات في زمن الغربة..

إلى الحالمين بأن لا تذهب كلماتهم جُفاء..

إلى كلّ قارئ ذكيّ، ينفخ في كلماتنا روح الحياة".

ما لفت انتباهي في هذا الإهداء هو تخصيص "القارئ الذكي" بقسم منه، وهذا التخصيص لهو دليل قاطع على احترام الروائي لنفسه ككاتب، وللقارئ كمتلقي لروايته، فهو يدعو بهذا التخصيص إلى التفاعل بين النص وبين القارئ، كما يدعو القادرين من القراء أن ينتقدوا روايته، شرط أن يكون نقدهم حافزاً له على إثراء إبداعاته، لكي "ينفخ في "كلماته" روح الحياة"، ص. . بالإضافة لما يحمله النقد من أثرٍ يُشعر الكاتب بأن نصوصه تركت أثراً فعلياً عند القارئ، وبالتالي، فتح آفاق أكبر للروائي في كتاباته اللاحقة.

وهذا الإهداء ذكّرني بفقرات وردت في رسالة بعثها لي، يقول فيها:

"... وكم تشرفني ملاحظاتك... فيها أستضيء الطريق... والملاحظات الصادقة بعيداً عن المجاملات التي لا تخلق في الغالب إلا فقاعات زائلة".

كما تأكدت من هذه الفقرة اهتمام الروائي "حسن سالمي" بالنقد اهتماماً كبيراً تجاوز اهتمام "الإمام الشافعي" حين أنشد أبياتاً شعرية قال فيها:

"تَعَمَّدني بِنُصْحِكَ في انْفِـرَادِي

جَنِّبني النصيحة َ في الجماعة

فَـإِنَّ الـنُّصْحَ بَـيْنَ النَّاسِ نَـوْعٌ

مـن التـوبيخِ لا أرضى استماعه"

فالروائي "حسن سالمي" على العكس من الإمام الشافعي، والكثير من الكتّاب التونسيين المعاصرين، لم يرفض نقد كتاباته أمام الناس، وعلى صفحات الوسائل الإعلامية المختلفة، بل تمنى فقط أن يكون النقد بنّاءً يوسع مداركه التقنية، وينمي شخصيته الإبداعية، ويصقل خبراته للاستمرار في عالم الكتابة.

كما أدرج الروائي "حسن سالمي" في الصفحات التالية لإهدائه عبارتين فلسفيتين:

الأولى للإمام علي "ر" يقول فيها:

"النّاس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا".

والثانية للكاتب الأرجنتيني لويس بورخس يقول فيها:

"بينما نكون نائمين في هذا العالم، نستيقظ في عالم آخر، وبهذا المعنى فإنّ كلّ إنسان ما هو إلاّ إنسانان، اثنان من البشر على الأقلّ".

هاتان العبارتان تشيران إلى فلسفة قديمة تعود إلى بداية انشغال العقل البشري بأسرار الكون باحثاً عن أسرار المظاهر الكونية التي تحيا وتموت، دارساً أسرارها المتجسّدة بالحياة والموت، مثل: أسرار العناصر الطبيعية وأسرار الجفاف والقحط والأشجار والنبات، وأسرار الحب والجنس، وأسرار البعث والحياة الأبدية، وأسرار أخرى عديدة تتعلق كلها بالخلق من إنسان وحيوان ونبات وجماد.

وخلال هذه الرحلة الكونية عبر العصور تبيّن لعقول الفلاسفة من أهل العلوم الدينية والعلمية، أن هناك علامات خاصة في أجساد الأطفال عند ولادتهم، وبعض التفاصيل تتعلق بالحياة السابقة للأشخاص المتوفيين الذين يعتقدون بتناسخ الأرواح؟ا...

قد يبدو هذا الأمر في الحقيقة وكأنّه أمراً خيالياً، ولكن بعض المتصوفين المتدينين يعتقدون بمفهوم تناسخ الأرواح، ويعتبرون أن هذا التناسخ ظاهرة حقيقية ومثبتة علمياً، فيما يعتبر عدد كبير من العلماء العلميين أن هذه الظاهرة من الخرافات.

ومن يقرأ بتأنٍ جميع فصول رواية "البدايات" يلاحظ بشدة وجود هذا المفهوم بين مجموعة من السرديات التي تجبر القارئ لفهمها إلى تركيز ذهني مترابط الأجزاء يستطيع من خلاله قراءة وصلات منتمية إلى الواقع الذي يدركه، ومن ثم إلى المتخيل الروائي، وبعد ذلك العودة إلى الواقع مرّة أخرى.

لو انطلق القارئ من هاتين العبارتين الفلسفيتين وتدرج منهما إلى قول الراوي:

"وثيابه ثيابي...قميص أخضر نصفيّ الأكمام، وسروال أسود".

ثم استنفر بآفاقه الثقافية ما يقرأ من دلالات تتجاذب هذا المفهوم بأشكال متنوعة، وأحداث متباينة متداخلة في الأزمنة والأماكن لوجد مفهوم "تناسخ الأرواح" ساطعاً في الانسياق الروائي، كمثل قوله:

"إنّ ملامح الفتى كملامحي... تراه من يكون؟!.

وسيجد القارئ نفسه مستدرجاً من قبل الروائي ليخاطبه في موضوع فلسفي شائك عبر مرويّات شغوفة ترضي فضوله كقارئ، وتبرر للروائي انتهاجه الشكل المميز بإدخال رواية داخل رواية، وتمرير ما يريد تمريره لمفهوم تناسخ الأرواح الذي ما زال يحير عقول الفلاسفة والعلماء المتدينين والعلميين معاً.

وشخصيّاً، أعتقد أن الراوي "حسن سالمي" صاغ مفهومه لهاتين العبارتين، والربط بينهما وبين النصوص إلى نهاية الرواية بأسلوبه المتردد بين الواقعي والمتخيل انطلاقا من قناعاته الشخصية، أو من تساؤلاته الفلسفية، ومن خلال رؤيته وحياته وموقفه الذاتي الشخصي من العالم والأشياء وهذه الظاهرة، وقد نجح بمهارة في ربط بين العبارتين، وتنامي الأحداث إلى نهاية الرواية حيث يقول:

يشتدّ الظّلام من حولي، والدّوامة تأخذني بين طيّاتها كعاصفة هوجاء... وتستمرّ في رحلتها البعيدة كأنّها تشقّ الدّهر...

فجأة تنفلق الظّلمة. وأجدني في بحر من النّور ما رأيت صفاء كصفائه، ولا بياضا كبياضه، كأنّما آلاف الشّموس والأقمار تنفجر في وجهي دفعة واحدة".

الشطآن

اشتمل الكتاب على ثلاثة عناوين تم سردها بتسلسل منطقي ومنهجي يخبرنا فيها الروائي "حسن سالمي" في الفصل الأول "الشطآن" عن فتي في ربيع العمر يعيش مع ماشيته في كوخ صغير متهالك البنيان تكسوه النباتات والحشائش، أثاثه قديم ممزق تحيط بزواياه خيوط العنكبوت، أرضه من الرمال،كوخٌ هجرته السعادة وبعثرته الأحزان، كوخٌ أخشاب نوافذه محطمة "إذا صفّق بها ولدت ريح مجنونة، لا تكفّ عن عنادها إلا إذا قطفت أرواحاً، ودمّرت أنفساً، وخلّفت خراباً".

كوخٌ رٌسمت معالمه بدموع وآهات فتى يلتهب في قلبه وعقله شوق عارم ليعرف والديه الحقيقيين، والألم يعتصره بسبب شعوره بالمرارة من أبناء بلدته الذين ينظرون إليه نظرات غريبة ومريبة، وينادونه ب "ابن الحرام" .ص. .

الحياة لم ترحمه، يعيش في الدنيا وحيداً، منبوذاً ومنسياً من أبناء بلدته، فقد حنان الأم والأب، تساؤلاته عن والديه كانت بمثابة قطرات دمع حارق لا تـنقطع من عينيه، مع أن المرأة التي رعته كانت حاضرة دائماً في حياته تحتضنه وتعتني به وتستجمع قواها لتكون قوية من اجله، وبقيت بطلة خالدة في ذهنه طيلة فصول الرواية.

ذات ليلة ليلاء حضر ضيف "مضيء الوجه" .ص. . دون سابق إنذار، عرف بأن الفتى يعاني، ويتعذب يومياً، فيشعر بالذنب... يمر بينهما هدوء مؤلم يتخلله أصوات خافتة، وفجأة يعلو صراخ التساؤلات الحياتية التي كانت تهزّ أعصاب الفتى الذي كان يعيش:" كعيشة البهائم". ص. .

وبعد جلسات وأحاديث مليئة بالحزن والأسى والدمار النفسي، اختفى الضيف فجأة.

قوس الزّوال

لقد نجح الروائي التونسي "حسن سالمي" في الفصل الثاني من الرواية "قوس الزوال" في نقل القارئ إلى طبيعة تونس الجميلة، فيخبره أن تونس وإن تباينت جغرافيتها ما بين جبال ووديان وسهول وهضاب وصحراء وسواحل بحرية، إلا أن رقعتها تمتاز بسطوع شمسها وبصفاء سمائها وتلألؤ كواكبها وطلاقة هوائها ورحابة فضائها، ويشير بشكل "بانورامي" إلى انتقال الفتى وكلبه وحمامته وماشيته إلى وادٍ سحيق: "تحجبه أشجار الصّنوبر والقيقب والكلبتوس، وتواريه هضاب خضراء". ص. . بعيداً عن أبناء بلدته الذين أذاقوه مرارة العيش.

 ثم يتحدّث عن وصول بطل الرواية وكلبه إلى منطقة تقع على صخور متماسكة وسط أشجار باسقة ونباتات تغطي سطحها فيصاب الكلب المرافق له ب "لوثة هياج مفاجئة... وأخذ يعوي عواء كئيباً" .ص. . ويدور بشكل هستيري حول فجوة صغيرة سرعان ما أكتشف بطل الرواية أنها مدخلاً لمغارة تحت الأرض، وبعد فترة قصيرة في التردد لدخولها، عزم على معرفة ما في داخلها فتسلل منها إلى عمقها، ورأى أماكن موحشة في كل زاوية منها، وأعاجيب من الصعب  وصفها بسبب جمالها الرائع والمخيف في نفس الوقت، كما لاح له من خلال ظلال الأنوار والعتم المخيف: "سواد إنسان نائم" .ص. .

كما شاهد أشباحاً لأناس سكنوا ذاكرته واشغلوا باله فتساءل:"هل العالم الذي صرت إليه هو مرآة تنعكس عليه صور العالم الذي كنت فيه؟". 

هنا، قد يفترق القارئ عن الكاتب، ليمشي وحيداً في تشابك الأحداث والوقائع والشخصيّات التي تواجدت بسرديات وأسئلة لا نهاية لها.

الفصل الثالث

برع الروائي "حسن سالمي" في الفصل الثالث "الطرف الآخر" من روايته "البدايات" في مصالحة شخصيّات الرواية مع ذواتها، ومع الآخرين عبر حوارات وجودية مهمة، شاقة وعسيرة مستمدة من الفكر الصوفي الذي يتناول مسائل الحياة والموت والروح والجسد والحب والعزلة والنسيان.

كما استطاع أن يعيد تركيب الأحداث، وتوضيح  دور كل شخصيّة على حدى عبر مرويّات القصد منها القبض على بعض تجليات الذات الإنسانية، والغوص في أغوارها بهدف معانقة جنّة السلام الداخلي الذي يفيض على النفس والروح حينما تكونان في حالة تصالح داخلي وتعايش مع تناقضات تلك الذات وصولا إلى تقليصها إلى حدها الأدنى.

شلال من الصور المتتالية تبرر حالات العذاب النفسي لبطل الرواية بسبب وفاة والدته وغياب والده، وقسوة العيش وخسارته للحب والاحترام بين أبناء بلدته...لقد أعاد "أبو مدين" لأبنه كرامته عندما أخبره حقيقة حياته القاسية بأسلوب غير تقليدي، صاغ فيه أفكاره الدينية حول الحياة والموت مما سمح للفتى باسترجاع ثقته بنفسه ككائن مستقل ذات قيمة إنسانية.

"تلك أمّك. وذاك أنت في صورة غابرة.".ص. .

وقد أقنعه أن شعوره المحزن بالخسارة العائلية، والصدمات التي مرّت عليه هما بمثابة قفزة إلى ألأمام، وممر إلى تقديرٍ أكبر لقيمة حياته كفرد.

وقد حفل الفصل الثالث "الطرف الآخر" بالمظاهر الروحية والاجتماعية للطرق الصوفية التي تنتشر في البوادي والقرى التونسية بكونها ظاهرة دينيّة، روحيّة ترتكز على الذكر، والاعتكاف وفق أساليب تربويّة مرهقة للنفس لحملها على الطاعة حتى ترتقي إلى مراتب عليا من الإيمان:

"حلقة كبيرة مترامية، يُكوّنها رجال بثياب بيض فضفاضة، وعمائم خضر.. أيديهم تسلسل بعضها بعضا، وحناجرهم تنصهر في حنجرة واحدة، وأجسادهم تهتزّ وتتمايل كأنّها الزّرع في مهبّ الرّيح". ص.

 لدرجة أنه أورد في بعض الفقرات قصة أحد أبطال الرواية الرئيسيين "أبو مدين" الذي جاهد لفطام نفسه عن رغباته الدنيوية كما الأنبياء الأوائل من أجل نصرة قيمه الروحية مشبهاً إياه برسول الله "ص" عندما ذهب للطائف لدعوة أهلها إلى الإسلام فواجهوه بالشتائم وسلطوا عليه أوباشهم وسفهاءهم فضربوه بالحجارة حتى سألت منه الدماء.

"في طرقات المدينة يهرول أبو مدين، متعثّرا في خطاه..تقع حجارة الصّبية على رأسه وظهره وكلّ مكان من بدنه..الدّم يسيل من جبينه وركبتيه العاريتين.. يصرخ:اكسروا هذا الرّأس،اكسروا هذا الرّأس، أخرجوا ما فيه".

كنت أتمنى لو أن الروائي قد توسع أكثر في الإضاءة على دور الصوفيين التونسيين الذين كابدوا النفس لمجابهة نير الاحتلال والغزاة ليقوموا بعمل صالح ينفع العباد ويرقى بالبلاد بدلاً من إظهار طرقهم في الرقص والتصفيق وبث أفكار الزّهد والتواكل والانقطاع لخدمة الأولياء الأموات، ومشايخ زوايا الأحياء الذين ينشغلون في استخراج الكنوز ومعالجة الجان، وهم من الدجالين والمحتالين الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويستفيدون من الإعانات والنذور والأوقاف والوصايا والهبات.

مسك الختام

سأكتفي بعرض هذه الملاحظات السريعة مع الاعتذار عن التعمق في التفاصيل، آملاً أن يتقبل القراء الأعزاء اعتذاري متمنياً عليهم أن يقتنوا هذه الرواية التحفة التي جسّد فيها الروائي "حسن سالمي" تجربته الروائية التي عبّر عنها في صورٍ عديدة تبرز موقفه من كل مرحلة بكل أبعادها الفنية والإنسانية, وذلك لارتباطها الوثيق بمعاناة فئة من أبناء تونس، وقد تمثلت هذه المعاناة في ذلك الحشد اللافت للصور الفنية التي أملتها عليه نظرته الفلسفية والوجودية.