الخميس 18/9/1445 هـ الموافق 28/03/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
هذا ورقي ورحيقي..! ( ..أين تجد سعادتك..!).....بقلم يوسف ناصر
هذا ورقي ورحيقي..! ( ..أين تجد سعادتك..!).....بقلم يوسف ناصر

هذا  ورقي ورحيقي.. فتعالَ متِّعْ ناظريكَ وروحكَ، يا من تنشُد  سعادتك في غير موضعها من هذا العالم ولا تجدها،.. تعالَ خذها.! إنّك في ورقي ورحيقي تعثر على سعادتك الضائعة في التيه ،فتاتك الحسناء الّتي قضيتَ عمرك تبحث عنها، لكنّـك لم تحظ منها بقبلة واحدة، إذ جهلت في أيّ موضع تقيم من هذا العالم..! فليبتعدْ من هنا كلّ أعمى، لأنّه لا يمكنه أن يبصر جمال الورد الفتّان في يديّ.. وليغادرِ الموضع كلّ مزكوم لأنّه لا يستطيع أنْ يتنشّق عبق الرّحيق السّلسل في قارورتي..!   

           ركضتَ وراءها يا أخي في المال..! حتّى ملأتَ منه يديك، أمّا روحك فبقيَتْ فارغة إلا ّمنَ القلق والهواجس.. فألقاكَ المال من قمّة الجبل الشّاهق في أعماق الوادي، بعد أن كسّرتْ عظامَك المتاعبُ، ونثرتْ لحمَك الهموم ..!

           ركضتَ وراءها في الموائد الشّهيّة..! فقتلتْكَ صِحافها بنَهَمِكَ وجوّعَتْكَ بشبَعِكَ، وحملَتْ إليك الأمراضَ من كلّ ناحية.. لتبقى جائعًا بروحكَ، وليس في الأرض طعام  يُشبعها من شدّة السّغَب..!

           ركضتَ وراءها في الشّراب..! فمتَّ بعطشِكَ، وسقاك الشّراب من كؤوسه كلّ علّة ووَصَب..!

           ركضتَ وراءها في جسد المرأة..! فوجدتَها لذّة عابرة لا  تُقيم فيك، بل يُقيم مكانها من قلبك ذلك النّدمُ المميت..! ولقد سمعتُها مرّة تقول لك بعد أن أطفأتَ ظمأ شبَقِك:  ويل لك وما أشقاك.!  إنّ اللّذات الرّوحانيّة هي الأبقى في هذا العالم..!  إنّ السّعادة الّتي ترجو أنْ تنالها لا تكون يومًا في شهوات الجسد، ولا تكون في امتهان كرامة أنبل ما خلقه الله على الأرض..!

           ركضتَ وراءها في الأبنية الشّاهقة..! وصرفتَ سحابة عمرك في رفع أعمدتها، حتّى سقطتْ عليك المتاعبُ سقوطًا عظيمًا بكلّ سقوفها، وحيطانها، وحجارتها الثّقيلة، لتبقى تئنّ كلّ حياتك تحت أكوام الرّكام..! ولقد سمعتُها تقول لك ثانية: مسكين أنت!! عُدْ إلى أهلك ! رأيتكَ من شرفاتي أين كنت تبحث عنها عبثًا طوال عمرك..! إنّ ما جئتَ لأجله ليس لديّ.. هذا ما قلتُه قبلك للملوك والسّلاطين الّذين أقاموا هنا تحت سقفي دهورًا ثمّ ولّوا، وبقيتُ وحدي دونهم في هذا العالم..! أيّها الشّقيّ ! إنْ جئتَ تطلب مَنيَّتَك، فعُدْ إلى حيث كنتَ، وإنْ جئتَ تطلب مُنْيَتَك فهي ذي السّعادة  الّتي جئت تطلبها تقول لك:

           اِمشِ وراء الله واتبعه دائمًا حيث يريد لك أن تمضي في هذه الحياة..! إنه المُعين الأقوى الّذي يَقبلك ويحرسك ويملأك من الروح القدس ويُلبسك بين النّاس أبهى الحُلل، وتكون لك الغلبة في كلّ شيء، ثمّ يقودك إلى عرشه حيث يسكن مع أنبيائه ورسله الأطهار والشّهداء القدّيسين.!  

           اُطلبِ الكمال في القيم العظيمة.. لأنها خير ما  تُزيّن بها نفسك، ووطّن حياتك على جهاد النّفس، ومرّنها على الاحتمال في الرّوح والجسد، ثمّ اعمل كلّ ما هو نافع وضروريّ لبيتك، وتَمِّم واجباتك نحو وطنك وما له عليك من حقوق، حينئذٍ تحصل على المقام الأرفع والمجد الأسنى ...!

           اِصفحْ للنّاس عن ذنوبهم، إنّك إنْ لم تطرح غيظك فإنّك لن تُنزل العقاب بأحد إلاّ بنفسك، وإنْ لم تسامح يبقَ خصمك قاعدًا في قلبك يبثّ في صدرك كلّ بؤس وألم ..!

             ..اِفرحْ دائما، واستقبلْ صباحك كلّ يوم بالبسمة مبتهجًا.. وإنْ لم تفعل فأنت الخاسر وحدك، وأصغر فراشة في الأرض لن تسأل عنك، ولن تبالي بما دهاك من أمرك.. إنّ إحسانات الله وإنعاماته كثيرة عندك لو فكّرتَ، لا تنسَ أنّ الحياة نزهة قصيرة ولذيذة لا تتكرّر، وإن حملتْ إليك بما لا تودّ  وتشتهي يومًا.. فمتّـِعْ نفسك بها قبل أن يداهمك موعد العودة إلى موطنك الأوّل..!

           كُنْ قلعة راسية في كلّ ظرف.. وإيّاك أن تتزعزع أو تيأس لحظة واحدة.. إنّ حظّ القلاع والقمم الشّامخة دون الأودية الوطيئة، أنْ تعصف بها الزّوابع ولا تنحني.. فلا تعجب يومًا أن يكون نجاحك في هذا العالم ذنبًا لك لدى الأوغاد.. ولربّما يأتي إلى حقولك أيّام الحصاد شرذمة من اللّصوص، وفي أيديهم مناجل ليحصدوا زرعك، ويأكلوا تعبك، وتكون في نظرهم معتدّيًا حين تمنعهم أن يستبيحوا حقك.. فلا يزيدنّك ذلك إلا عزمًا وإباءً.. وتعلَّمْ أنّ الصّخرة العظيمة تزداد ثباتًا على قدر ما يكون حملها ثقيلاً من الصّخور الجاثمة  فوقها  في السّفوح العالية..!        

           تُبْ عن خطاياك ولا تتوانَ.. واعلم أنّه ليس كالخطيئة مِنخس يدمي ضميرك ويُلقي في روعك الرّعب والهلع الدّائم.. وإنّ مِنَ الخطايا ما له جزاء رهيب هنا على الأرض وهناك في السّماء.. إنّ التّوبة رجوع من الطّريق الّتي تؤدي بك إلى الهلاك.. فانظرْ إلى خلاصك "ما دام النّهار" لئلاّ يدركك ظلام الموت، ولا "تستطيع فيه عملاً"، وطوبى لك إن كنت نقيًّا، وسرت في طريق الحقّ على رجاء الحياة الأبديّة..!

                 .. أحِبّ الّناس جميعهم.. ليس في الدّنيا شيء تمنحه للنّاس أعظم من المحبّة.. وليس في الأرض مثل المحبّة شفاءً لأمراضك الكثيرة.. المحبّة تمحو بيديها حسدك.. وتقتل كبرياءك.. وتنفي يأسك.. وتزيل خوفك.. وتنقّيك من كلّ خبث واضطراب وقلق.. وتريحك من كلّ عداوة.. إنّها تطهّرك من كلّ أوجاعك الرّوحانيّة، وتعيدك طفلاً بريئًا كما كنتَ قبل أن تمرض.. وتنزع بيديها كلّ آلامك من صدرك وتُلقيها من النّافذة إلى ركام الأقذار.!

           اِرحمِ النّاس كلّهم.. فليس واحد من النّاس في هذه الدّنيا إلاّ مُصابًا، وفي قلبه سهم من سهام الدّنيا، يئنّ منه ويتوجّع..!! فأعِنْهم ما استطعت على ما عندهم من ضَنْك وألم..!!                

                 سالمِ  النّاس، وإن صنع الحسدُ بيديه لـك منهم عدوًّا ولم تشفع إحساناتك الكثيرة عنده، فاعلم أنّه أولى النّاس منك بالشّفقة والـدّعاء له بالشّفاء من دائه العَياء، وأوجاعه التي يتلوّى تحتها في النـّهار، ولا تَدَعُه ينام آناء اللّيل..!!

           اِمنعْ لسانك عنِ النّاس، لأنّ عيوبك أولى به من عيوبهم.. اِقبضْ عليه دائمًا، واحترس أن يكشف لك عورتك أمام أعينهم، لأنّه وحده القادر أن يفضح عيوبك ويقود عقلك وقلبك عاريين بغير حياء وخجل..!

           أحسِنْ إلى النّاس من نعمة الله عليك دون فرق في الدّين والعرق والجنس.. لأنّه ليس كالمعروف يردّ إليك أضعافًا من محبّتهم ..واعمل كلّ صالح من الأعمال لتبقى في هذا العالم حيًّا بأعمالك، وإن حملوك في النّعش يومًا إلى القبر العميق..! و لا تنسَ أن تحسن إلى الفقراء والمحتاجين بينهم، وحذارِ أن تضيّع هذه الفرصة يومًا .. واعلم أنّ ما في يديك هو لله عندك وليس لك، وقد أعطاك لكي تعطي منه عطاءً حسنًا.. وإنْ أنتَ لم تعط فإنّه يُؤخذ منك.. تذكّرْ أنّ الله موجود في كلّ فقير، وقد بعثه إليك ليكون لك في الإحسان إليه أجر عظيم، وإنْ أنتَ أحسنتَ إليه فقد أحسنت إلى الله في واحد من أولاده من بني البشر..!!  

           لا تبالِ بما يعيش الأشرار من الآثام والخطايا، ولا تَقِسْ نفسك بمثالهم، ولا تُردّد في ذهنك أنّك تسير على غير طريقة سائر الّناس، لأنّ هلاكهم لا يخلّصك.. وإن قابلوك بالهزء والسّخرية فاعلم أنّ ذلك هزء المجنون من حَصافة العاقل، وسخرية الخنزير النّتن من شذا الوردة النّديّة..!

           حذارِ حذارِ أن تظلم أحدًا، ولا تنسَ ساعة واحدة أنّ عين الله في السّماء لا تنام أبدًا عمّا يفعله الظّالمون في الأرض...!

           اِقبلْ حياتك على علاّتها كما هي، وكُنْ منها حيث أنتَ راضيًا، ولا تكن كَنُودًا جاحدًا لإنعامات الله عليك وإحساناته الكثيرة، واصبر على مكاره الزّمن ولا تتأفّف، وإن شكوتَ فلا يكوننّ ذلك إلا لخالقك الّذي يعينك  ولا يشمت بك، لا تعجب أن تقيم يومًا في قصر مُنيف، لكنْ تكون حياتك مع ذلك حياة من  يُقيمون في الأكواخ..! وقد يحيطك الرّبيع الزّاهر من كلّ ناحية، لكنّك مِن أمرك تكون في خريف حارق..!! ولُربّ منزل لك يكون في ربوة فيحاء، لكنّ عيشك في بريّة نائية تحرقها الشّمس..! أو أنّك تكون في صيف صافٍ،  لكنّك من العيش في ثلج ورياح ومطر، تودّ معه لو أنّك قرب الموقد تنشد الدّفء في لهب الحطب..!

           اِحذرْ أن تكون فريسة لأحد يومًا.. كُنْ يقظًا دائمًا حتّى في سباتك العميق.. إنّ من النّاس في هذه الدّنيا من له أنياب الذئاب ، ومنهم من له حُمَة العقرب.. ومنهم من له أرجل الفيلة.. أولئك أيّ صنيع عظيم أجزلْته لهم يومًا لا يمنع أنيابهم أن تقطّعك.. وحُمَتهم أن تلسعك..  وأرجلهم أن تدوسك.. لأنّهم كهوف يسكنها الشّيطان ولا رجاء لهم في هذا العالم...!

           أيّها الشّقيّ !! بعد أنْ عرفتَ أين كنوز السّعادة في هذا العالم، قُمِ احمل قيثارتك غنِّ وردِّد ما تقوله الحياة:

 هذا ورقي ورحيقي..

 فزيّنوا جمالي بابتسامتكم ..!

ودعُوا الحبّ يمرح معي في مضجعي، ولا تنزعوه من ذراعيّ..!

قصيرة أنا وقبض ريح في أيديكم، كلّ واحد منكم عابر سبيل، وضيف غير مقيم في منازلي..! عطّروا ليلي بالحبّ والقبل..

وانقشوا على نهاري ذكريات المحبّة والصّفاء ..!

 لكي أقول عنكم :

حملوا الله في قلوبهم، فحملهم الله إلى قمم السّعادة..!

كانوا في الفردوس، وكان الفردوس فيهم إلى أن رحلوا عن هذا العالم...!

 كفرسميع