السبت 11/10/1445 هـ الموافق 20/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
أنا .. والحاج صالح / قصة: محمد عزت الشريف
أنا .. والحاج صالح / قصة: محمد عزت الشريف

  وحدي، والليل ، وهذا الحارس العجوز الثمانينيّ، وحقلنا الثاوي على تخوم الوطن، الساهر ليلاً كناطور، و الكادح نهاراً كأجير، في خِفَارَةٍ ليلية قوامها نحن، وخليّةِ عملٍٍ نهاريةٍ قوامها الوطن ! ليلٌ شتويًّ كليلِ العاشقين طويــــــــــــل، لا يقف على مسرحه، سواي ، والحارسُ العجوزُ ومذياعٌ صغيرٌ نشيط ، يَصْحَبـُنا في كل مكانٍٍ سرنا، وأي محلٍّ حللنا على مساحة الحقل الفسيح، لا يكفّ طوال الليل عن بث أخباره المتباينة ، المتنوعة نثاً على مسامعنا، ونثرا في قلوبنا.. بعض تلك الأخبار لم تكن تتجاوز صوان الأذن الخارجي، وبعضها كان يتجاوز إلى الأذن الوسطى، قبل أن يرتد خاسئاً إلى حيث كان ، والكثير من الأخبار كانت تتعدى إلى الأُذُنِ الأُخرى، ولكن ؛ في طريقها للخروج ثانيةً عبر الأثير.. !! لم يكن يَعْلََقُ بآذاننا ـ أنا والعجوزَـ من كل تلك، سوى الأخبارُ التي تَخُصُّ أنباءَ الانتفاضة، وعددِ ـ وربما أسماءِ ـ الذين قُتِلوا، وجُرِحوا من المقاومين الفلسطينيين المجاهدين، ومن النساء والأطفال العزل المسالمين، على أيدي المحتلين الصهاينة المغتصبين ، في كل يوم، و ليلةٍ، و كلّ ساعةٍ ولحظة .. ! وكان العجوز الطيب المتحمس لا يَكـُفُّ عن السؤالِ عقب كل نشرة أخبار : محمد يا بني (أنا لا أفهم العربية سوى بلسانك أنت) قل لي ـ بالله عليك ـ : كم قتلوا من الفلسطينيين هذه الليلة؟ ــ قتلوا الليلة خمسة ياحاج صالح . س : وكم تبقى منهم أحياء حتى الآن؟! ــ الفلسطينيون يا حاج صالح عددهم الآن تقريباً أربعة ملايين (قدّرتُ للرجل رقماً جاء، على طرف لساني، فالرجل يثق بي ويظنني أعرف كل شيء!!) ولم يكن حريّاً بي أن أُدْخلَ الرجل َ معي في حِسْبةِ ومتاهةِ أيِّ فلسطينيين تقصد؟ فلسطينيي المهجر، أم فلسطينيي المخفر؟ فلسطينيي الشتات، أم فلسطينيي الموات ؟ فلسطينيي الأردن ، أم فلسطينيي فلسطين ؟ فلسطينيي الفردوس و النعيم المقيم ، أم الدَركِ الأسفل من الجحيم ؟!! يردفُ الرجلُ مستفسراً : و بعد إذاعة هذه النشرة الأخيرة كم تبقى منهم ؟! أردّ عليه (بابتسامة شفقة لا تظهر على شفتي) : بالتأكيد أصبحوا أربعة ملايين إلا 5 فلسطينيين يا عمّنا الكريم .. ! وفي الليلة التالية يبادئني .. بنفس السؤال : كم أصبح العدد المتبقي الآن يا محمد يا بني؟! أسأله بودّ : كم قتلوا منهم طوال هذا اليوم يا حاج صالح .. ؟ يرد الرجل بعد تدبر ومراجعة وتمتمة 6 + 3 قبل أذان العشاء + اثنين في نشرة الأخبار الأخيرة .. وينطق العجوز بلسان نصف أعجمي ولكنه على كل حالٍ مفهوم ٌ ـ من قِبَلِي على الأقل ـ : قتلوا 11 فلسطينيا منذ آخر مرة أحصيناهم يا محمد وحتى النشرة الأخيرة التي أذاعوها قبل قليل .. إذن: كم تبقى منهم الآن يا ابني ؟!! وينتهي دوامنا الأسبوعي ونذهب (إلى عطلة نهاية الفترة) ... فإذا ما عدنا ـ كلٌّ من بيته ـ إلى مقر عملنا، بتلك البقعة المثلثة الغنّاء المأهولة كواحةٍ في صحراء الربع الخالي ، نكون أول مانكون على الموعد ذاته وأسئلة الرجل العجولة الشغوفة ذاتها !! و كالعادة يبادرني بلسان كرديّ طلق، إن لم أقدر على فهمه كله، فمعظمه ، إلا أنَّ الرجل يُصِرُّ ـ في كل مرة ـ على الاعتذار، وعلى أن يعيد السؤال عليَّ مُترجَماً بلغة عربية ركيكة، و نفسٍ طيبةٍ، سليمة : محمد لا أعرف كم قتلوا منهم طوال هذه الأيام الثلاث، وان كنتُ فهمت قليلاً من لغة الراديو أو التلفاز، إلا أني لا أفهم في الجمع والطرح والحساب ، هلا أخبرتني ـ أكرمك الله ـ كم تبقى منهم الآن ؟!! ــ وكالعادة أبْتَسِمُ مُشفِقا على العجوز(إبتسامة معلنة هذه المرة) وأقول له : البركة في المتبقي منهم يا حاج .. لا تَشغِلْ بالَك ...! يَصْمُتُ الرجلُ ويَظلُّ يتفكـَّر ويعودُ يقولُ : أخشى أن يظل الصهاينة يقتلونهم واحداً واحدا، حتى يقضُوا عليهم ، ولا يتبقى منهم أحد ..! هكذا دائما كان حالي مع العجوز وحاله معي ... وفي صبيحة كل يوم؛ لا ينام ولا يدع عينيّ تكتحل بمنام ـ بعد ليل السهر الطويل ـ إلا إذا طمأنته على النافق و المتبقي من الفلسطينيين بعد كل حصاد جديد على يد طواغيت العصر ، شياطين الجن ، الملعونين !! حتى جاءت لحظة مفاجئة، عبقرية، واعدة ؛ أعلن فيها مذيعُ نشرة الأخبار في لندن عن عملية استشهادية نوعيّةٍ فريدة، أسقطت عدداً لا بأس به من الصهاينة، فضلا عن الخسائر المادية ، وأهم منها: النفسية، و المعنوية ! اسْتبشَرَ العجوزُ كثيراً، واطمأنّ قلبه، وأراحني في تلك الليلة من سؤاله المزمن المتكرر عن تعداد القتلى الجُدُدِ مِنْ أُخواننا الفلسطينيين وعمّا تبقّى منهم على قَيدِ الحياة، عقبَ كلِّ إذاعةٍ لنشرةِ أخبار.. ! وتمُرُّ الأيامُ والليالي على تلك الشاكلة ونفس المنوال ، حتى انتقل العجوز إلي حقل آخر غير حقلنا الذي لمّا يزل يسعني والليل والمذياع الصغير، فيما ضاق برابعنا الذي أصبحت لا أراه سوى مرة بالمصادفة كلّ أسبوعَ ، أو أُسبوعين ربما، ونحن ذاهبون أو آيبون ، بسيارة الشركة ، ـ من أو إلى ـ بيوتنا في فترات الإجازة الدورية . وكان سؤالُه المعتاد لمـّا يزل كما في كل مرة : هل لا زال متبقيا منهم كثير يا محمد ؟!! ــ لا حول ولا قوة إلا بالله !! لسه برضه يا حاج صالح شاغل بالك، بالهالك والصالح ، والنافق والمتبقي ؟ : لا تَحْمِلْ هَمّ يا عمِّي \"البركة دائما موجودة وحاصلة في اللي لسه متَبَقّـَّين ، ولا تنس أنَّه إن يكن منا مئة صابرة ، يغلبوا ألفاً \" شهورٌ طويلةٌ والرجلُ ـ لا يَكِلُّ ولا يَمِلّ ـ يُسائلنِي ذات السؤالِ وأنا أُجِيـْبُهُ نفسَ الجواب .. حتى جاء وقتٌ حاولتُ فيه جدِّيَِّّاً البحث عن إجابةٍ مثاليةٍ يرتاحُ لها العجوزُ ويَطْمَئنُّ إليها قلبُه، أُرَدِّدُها عليه، في كلِّ مَرّةٍ يُسائلني .. ! ومن وَحْي العملية الفدائية الفلسطينية المباركة الأخيرة، فكرتُ كثيراً في أن أُوَلـِّد منها عملياتٍ، وعملياتٍ فدائيةً استشهاديةً أخرى ، مستنسخة، و متخيَّلَةًً ، في مقابل العمليات الإجرامية، المتكررةِ للصهاينة .. وبالفعلِ استَطَعْتُ أنْ أحقق بعض الراحةِ، والتوازنِ النفسيّ في قلب ونفس الرجل ولو لبعض الوقت، وعلى فترات حيث كان العجوز الطيب يتسمع للأخبار من هنا وهناك عن مذابحنا في فلسطين ، وأنا بين فترة وأخرى أرتب له في مخيلتي قصة عملية فدائية جديدة، أشنف بها آذانه، وهكذا نجحت في تحقيق التوازن النفسي المعهود عند الرجل ؛عِوَضا عن التوازن الستراتيجي المفقود على الأرض ولكن ؛ هل العمليات الاستشهادية الدورية تلك مهما بلغت من تكرار ومن شدّة ، هل ستحمي الفلسطينيين الأبرياء المتبقين من انتقام الطغاة الغادرين؟! (سألني العجوز الصالح وكأنه يُسائل نفسه، قبل أن يعلو صوته ويسألني سؤاله الأزليّ، بصياغة مختلفةٍ، وبنبرةٍ جديدة ) : وهل لا زال يتبقى من هؤلاء الفدائيين الكثير يا محمد يا بني، بعد كل تلك العمليات الاستشهادية ؟ أرجوك أصدقني القول ولا تستغفل كِبَرَ سني وقلةَ فهمي للغة العربية ... !! والله يا حاج صالح والله أعِدُكَ يا عمِّي ألا أقول لكَ سوى الصدق والحقيقة ..( قلتها للرجل في لحظة شهامةٍ، وضعفٍ إنسانيًّ في آن !) وبقيت حائراً كيف يمكنني (بحقّ السماء) الوفاءَ بهذا الوعدِ؟! وأنـَّىَ يتأتـَّى لي مصارحةَُ الرجلِِ الذي لا يَكـُفُّ عن السؤالِ الحائرِ الشائك القلِق الذي لا يلائمه سِوى المراوغةُ والردودُ التكتيكيةُ وإلا اكتأب العجوز و انقهر، وقضى عليه الضغط ، و السكر أو طقَّ قلبه الكبير الغضّ .. ! شهراً كاملاً لم أصادف الرجلَ بحُكمِ افتراقِنا، كلٍّ في حقلٍ مُغايِر... قبل أن أقابله تلك المرةٍ صُدْفةًًَ با لباص \"خاصة الشركة\" الذي ينقل كل منا ـ كالعادة ـ من قلب المدينة إلى آخر نقطة على أطراف الوطن، وما أن رآني العجوز الصالح حتى بادرني في لهفة وقلق أكثر من ذي قبل، ليس بالسؤال عن أحوالي، ولا بالحديث يطمئنني به عن أحواله، ولكنه بادرني بسؤاله التقليديّ الدائم، هل لا زال يتبقى من الفلسطينيين المقاومين الكثير يا محمد يا بنيّ ؟! فكرتُ طويلاً .. !! ورَنّ في أذني وعدي للرجل بمصارحته بالحقائق دون مواربة أو تجميل ... سَرَحْتُ بفكري بعيداً قبل أن أنتبه على سؤاله يتكرر على مسامعي للمرة الـ ... وفى حِدَّةٍ لم تَخْلُ من ودٍّ قلتُ للعجوز: لا يهمّ كمْ تبقـَّى منهم يا حاج صالح .. ! حتى لو استشهد كلُّ أهلِ فلسطين ـ المقاومون ـ جميعاً وقضى الصهاينة عليهم واحداً تلو الآخر .. فلن ينتهي بالتأكيد المدافعون عن القدس و فلسطين ياعمِّنا الكريم، فلا زالت البركة باقية فيّ وفيك يا رجل يا طيب .. ! تَهَلَّلَ وَجْهُ الرجلِ وعَلَتْ مَلامِحَه السكينةُ وهو يُؤَمِّنُ على كلامي بالقول وبالإماءةِ، والابتسامةِ، وعَمَّ البِشـْرُ على كاملِ صفحةِ وجهه، أكثر بكثير مما توقعتُ لكلماتي من تأثير .. ! وهكذا و أخيراً نجحْت ُ في الردّ على العجوزِ بما تَطِيْبُ له نفسه، وبما يزرعُ في قلبه الرضا والسَكينةَ، والطمأنينةَ، إلى الأبد ..! رغم أنـِّي لم أكن أدري بالتأكيد أنّ هذا هو آخر عهدٍ لي معه قبل أن يغادرنا إلى عالمٍ آخرَ أكثرَ أمناً، وعدلاً، وسلامًا، ورحمة عالمٍ كانَ الرجلُ ـ درى ،أو لمْ يدرِ ـ على موعدٍ معه في صبيحةِ اليومِ التالي ... !! ــــــ