الجمعة 19/9/1445 هـ الموافق 29/03/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
حكاية أم غيرت مجرى التاريخ (قصة واقعية بمناسبة عيد الأم)...بقلم الباحث ز.سانا
حكاية أم غيرت مجرى التاريخ (قصة واقعية بمناسبة عيد الأم)...بقلم الباحث ز.سانا


(قصة واقعية بمناسبة عيد الأم)
كانت تلك الليلة هي الليلة الثالثة بعد زواجها السري من بييرو إبن أغنى عائلة في بلدة فينشي في إيطاليا ، وبمجرد أن رأت زوجها يذهب في نوم عميق ، قلق شديد طرد النعاس من عينيها، صورة والد زوجها (سير أنطونيو) بدأت ترتسم في الظلام أمام عينيها وهو ينظر إليها بملامحه الصارمة تلك الملامح التي كان يفهم معناها معظم أهالي بلدة فينشي ، وكأنه يقول لهم بأنه هناك فرق شاسع بينه وبينهم، فهم من طبقة وضيعة أما هو فينتمي إلى طبقة النبلاء . نبرة صوته، إسلوبه في الكلام ، سلوكه ، كل شيء فيه كان له هذا المعنى، فهي رغم أنها رأته يمر بعربته مرات عديدة ، لم ينظر نحوها ولو مرة واحدة، كان دوما ينظر إلى اﻷمام بنظرته الصارمة وكأن جميع الناس من حوله لا يستحقون منه حتى تحريك عينيه نحوهم. بعضهم كانوا يلتفتون إليه ليرمون عليه السلام ولكن سلوكه الجاف ونظراته الثابتة كانت تجعلهم يطأطئون رأسهم في اﻷرض حتى يختفي من أمامهم. شعور واحد كان ينتابهم في تلك اللحظات ، الشعور بالذل واﻹستحقار .
سلوك السير انطونيو وطريقة تعامله مع اﻵخرين أراد توريثه إلى إبنه بييرو أيضا ، ففي المرات اﻷولى التي رأته بها عندما أتت لتعمل في الحانة التي يعمل بها زوج عمتها بعد وفاة أبيها ، كان بييرو يحاول تقليد والده ولكن قلبه الطيب كان يجعله يفشل في الكثير من اﻷحيان ، فإحدى المرات وبينما كان في طريقه إلى بيته رأى رجل عجوز من الطبقة الفقيرة يسقط أرضا ، شاهدته يسرع نحوه لمساعدته وكأن قلبه الطيب لم يستحمل ألم العجوز ، هذه كانت المرة اﻷولى التي شعرت بها بأن هذا الشاب الوسيم في داخله يختلف كثيرا عن أبيه ، وهذا ما جعلها تشعر نحوه بإعجاب شديد ، فشيء عظيم أن تكون غني جدا أو صاحب سلطة وبنفس الوقت تشعر بألم إنسان فقير لا يهتم به أحد، ورغم أن بييرو كان يغيب في أكثر أيام اﻷسبوع عن البلدة ﻷنه كان يعمل في مدينة فلورنسا ، ولكن شيئا ما في داخلها كان يجعلها تشعر بسعادة غريبة عندما تسمع أنه قد عاد إلى البلدة.
إعجابها ببييرو كان يزداد بشدة كلما عرفته أكثر فأكثر ومع مرور الزمن بدأ إعجابها به يتحول إلى نوعية أخرى وخاصة عندما أتى مرة إلى الحانة بصحبة بعض أصدقائه ، وعندما أتت هي لتمسح الطاولة التي جلسوا حولها ، رأته يتوقف عن الكلام وإسلوب توقفه عن الكلام جعلها تشعر أنه كان كنوع من اﻹحترام لها وعندما إنتهت من المسح سمعته يقول لها بلهجة رقيقة جدا ( شكرا ) . فزبائن الحانة الذين ينتمون إلى طبقة النبلاء كانوا عادة لا يعطون أي أهمية لها ولا يتكلمون معها أبدا . شيئا أخر لاحظته في ذلك اليوم وهو أن بييرو أعجب كثيرا بملامح وجهها فكانت كلما مرت من أمامه تشعر بأنه يرفع بصره نحوها ، ونظراته كانت تثبت في وجها وكأنه قد إكتشف شيئا غريبا وجميلا في ملامحها فأراد أن يعرف أين مصدره فراح يبحث فيه بنوع من الخجل.
كان بييرو يكبرها بثمانية أعوام. وعندما أتت هي لتقيم مع عمتها في بلدة فينشي ، كانت هي بعمر /١٤/ عام وكان هو بعمر /٢٢/ عاما. ورغم مرور بضعة أشهر على معرفتها هي به عن بعد كانت هي بالنسبة له وكأنها غير موجودة، ولكن بعد تلك المرة التي شاهد بها ملامح وجهها ، أصبح في كل مرة يأتي فيها إلى البلدة كان يدخل الحانة بمفرده أحيانا وأحيانا أخرى بصحبة أصدقائه ليأكل فيها شيئا ، فكان طوال وجوده في الحانة يحاول أن يسترق النظر إليها بدون أن يشعر أحد في الحانة أن وجوده لم يكن بسبب تلك المأكولات التي تُقدم هناك ولكن تلك الفتاة التي تعمل في الحانة والتي إسمها ( كاترينا ) . وكانت هي أيضا عندما تراه يدخل الحانة تشعر وكأن روحها من فرحتها تريد الخروج من جسدها لتطير نحوه ، رغم أنها لم تفكر حتى ولو مرة واحدة بأن شعورها هذا هو (حب ) وأنه سينتهي يوما ما بالزواج منه.
مرة في ساعة متأخرة من المساء كانت قد إنتهت من تنظيف الحانة وخرجت للعودة إلى البيت ، وما أن إبتعدت قليلا حتى سمعت خطوات شخص يلاحقها من الخلف ، شيئا ما جعلها تشعر بأن هذه الخطوات هي خطواته هو، فراح قلبها ينبض بشدة ، وتابعت طريقها دون أن تلتفت نحوه ولكن تلك الخطوات بدأت تتسارع و تقترب منها أكثر فأكثر ، وسمعت صوته بنبرته الرقيقة المعروفة يقول لها ( مساء الخير كاترينا ) . نظرت إليه نظرة خاطفة، وهزت له رأسها خجلة دون أن تنظر إليه وكأنها تقول له ( مساء النور ) ، سارا معا جنبا إلى جنب تحت ضوء القمر وراح هو يسألها أسئلة عامة تتعلق بحياتها هي ، لم يخبرها شيئا عن حبه أو مشاعره نحوها ، ولكن حديثه وصوته وطريقة نظراته إليها وكل شيء فيه كانت تقول لها بشكل واضح تماما ( أنا أحبك كاترينا).
زواج بين طبقات إجتماعية مختلفة كان شيئا من المستحيل حدوثه ، وهذا كان بالنسبة لكاترينا شيء طبيعي تعلم به منذ وعيها على الحياة ، لذلك لم تفكر أبدا أن تحلم بأن بييرو يمكن أن يتزوجها في يوم من اﻷيام ، ولكن في الفترة اﻷخيرة وبسبب عملها في الحانة حيث كان يأتي الكثير من الطبقة النبلاء وكان بعضهم وأكثرهم من الجيل الجديد يتكلمون بأسلوب مختلف ، ومن خلال ما كانت تسمعه منهم بأن قوانين المجتمع بدأت تتغير وأن عصر القرون الوسطى الذي جعل الظلام يحل في جميع الشعوب اﻷوربية بسبب التعصب الديني وإبتعاد رجال الدين عن التعاليم الحقيقية للكنيسة، كان قد خلق فجوة كبيرة بين طبقات الشعب، ولكن هذه الفجوة سوف تتحطم في المستقبل القريب العاجل ، وأن الناس مهما كانوا فقراء أو أغنياء جميعهم ستفتح أمامهم الفرص ليتابعوا تعليمهم ليساهم كل منهم حسب مواهبه في إعادة بناء مجتمع جديد تسوده العدالة والحرية والمساواة.
في البداية عندما كانت كاترينا تسمع منهم مثل تلك اﻷراء ، تشعر وكأن هؤلاء الشباب يحلمون بشيء من المستحيل تحقيقه ، فكانت مباشرة تضع في فكرها كمثال والد بييرو سير انطونيو ، فمثل هذا الشخص حسب إعتقادها لا توجد قوة أو عقل على سطح اﻷرض يمكن أن يقنعه بأن يحطم تلك الجدران التي تفصل بين طبقات المجتمع في فكره وفي سلوكه. فشخص كهذا سيبقى إلى اﻷبد يحيا في ظروف مماثلة تماما لتلك التي يعيشها عقول أصحاب القرون الوسطى. ولكن عندما رأت كاترينا سلوك إبنه بييرو معها وشدة حبه لها، بدأت شيئا فشيء تقتنع هي اﻷخرى بكلام أولئك الشبان الذين يحلمون بتغيير المجتمع بأكمله ، فربما لا يمكن تغيير سلوك وطريقة تفكير أشخاص أمثال السير أنطونيو ولكن يمكن تغيير سلوك وطريقة تفكير أبنائهم وأحفادهم كما حدث مع بييرو. فكثيرا من اﻷحيان كان بييرو عندما يأتي بصحبة أصدقائه إلى الحانة كانوا يتكلموا عن هذه المواضيع فكانت تشعر وهي تسمعهم وكأنهم قد أتوا إلى الحانة ليستطيعوا التكلم بحرية مطلقة بعيدا عن والد بييرو ﻷنه لو علم بآرائهم هذه ، فإنه ليس فقط لن يوافق على أي شيء منها ولكن سيمنع أيضا إبنه من مصاحبة أشخاص لهم هذا النوع من اﻷفكار. لذلك عندما عرض عليها بييرو أن يتزوجها في السر ﻷن والده لن يقبل بهذا الزواج ، ترددت في البداية قليلا ولكن عندما أخبرها بييرو بأنه بهذه الطريقة سيفرض على والده هذا الزواج وسيجعله يرضخ ﻷمر الواقع في اﻷخير ، ﻷن الطلاق في دينهم ممنوع وكما قال لها بييرو بأن والده مهما كان صارما وحاد الطباع فهو شخص متدين. وأمه أيضا والتي تتبع تعاليم الكنيسة بحذافيرها ستساعده هي اﻷخرى لتقنع والده بمباركة هذا الزواج. حبها الكبير لبييرو وربما شدة ثقة بييرو بنفسه ، وربما أيضا - وهو الذي كان اﻷهم بالنسبة لها - هو أنها إذا تزوجت من شاب مثله ستضمن أن تنجب أطفالا أحرار يستطيعون أن يتابعوا تعليمهم وأن ينظروا إلى كل إنسان في عينه دون أي شعور بالذل أو النقص. وهذا كان أهم حلم بالنسبة لها فخوفها لمصير أطفالها كان قد جعلها قبل أن تتعرف على ببيرو أن تفكر بعدم الزواج من أي شخص لكي لا ترى يوما ما أبنائها يشعرون بالظلم من كل شيء يجري حولهم.
كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل ، كل شيء هادئ ، سكون مطلق يهيم على أرجاء الغرفة ، لا يقطعه سوى صوت تنفس زوجها المنتظم والذي كان يبدو لها وكأنه موسيقى عذبة تشير على أن زوجها يعيش في تلك اللحظات في حلم سعيد، للحظات نسيت صورة وجه سير أنطونيو الصارم ، وشعرت بفرحة تغمرها فجأة لتلك السعادة التي يعيشها زوجها ، فضمت نفسها أكثر إلى صدره وأغلقت عيناها لتذهب هي اﻷخرى في نوم عميق ينسيها قلقها ومخاوفها ،ينسيها كل شيء يمكن له أن يحطم سعادتها. بعد لحظات كادت هي أيضا أن تغط في نوم عميق ولكن طرقات على الباب طردت النوم من عينيها ، وراح قلبها ينبض بقوة من شدة خوفها. فهي كانت متأكدة أن والد زوجها سيظهر أمامها فجأة ليعبر عن غضبه من إبنه لما فعل. ولكن نوعية الطرقات على الباب التي سمعتها لم تكن تدل على أن الطارق كان هو نفسه والد بييرو ولكن شخص آخر ، ورغم ذلك كانت نبضات قلبها تزداد خفقان بشدة أكثر فأكثر.. هزت كتف زوجها بيدها وهمست إسمه. ولكن بييرو كان يعيش حلما لذيذا ولم يرد أن يستيقظ منه فظل يتابع حلمه ، فهزته مرة أخرى بشدة أكثر وهمست في إذنه بأسمه ، فاستيقظ وقبل أن يسألها عما يحدث سمع هو أيضا طرقات الباب، فسأل مستغربا عمن يكون في هذه الساعة المتأخرة من الليل، ثم نهض وخرج من الغرفة وذهب وفتح الباب . كان الطارق أخيه ، حيث أخبره أن والده علم بزواجه وغضب جدا وطلب منه العودة وبمفرده فورا إلى البيت. ومن إسلوب كلام اخيه علم بييرو أن اﻷمور في بيته كانت مضطربة جدا ، و طلب أخيه منه أيضا أن يعطي بعض المال لزوجته لتعود إلى منزلها لوحدها ،وأن يرتدي ثيابه ليذهب معه اﻵن إلى البيت . عاد بييرو إلى كاترينا وأخبرها بما حصل وأعطاها شيئا من المال وطلب منها ألا تقلق وبأنه سيقنع والده وحتى إذا لم يستطع ذلك،سيهجر والده و سوف يأخذها معه إلى مدينة فلورنسا لتعيش معه هناك إلى الأبد.
عادت كاترينا إلى بيت عمتها دون أن تعلمهم شيئا عن زواجها وعما حصل ، فهي كانت قد أخبرتهم أنها ستذهب لزيارة قبر والديها ورؤية بعض اﻷقارب هناك. لذلك لم يسألها أحد عن سبب عودتها الفجائية. وعادت إلى عملها في الحانة وكأن شيئا لم يحصل، وراحت تنتظر قدوم زوجها ليخبرها عما حصل مع والده. ولكن مرت عدة أيام وزوجها لم يظهر ، كل الذي كانت تعرفه أن زوجها ليس في البلدة ولكن في فلورنسا. ولكن ما كان يقلقها هو أنها لم تعلم لماذا زوجها ترك القرية قبل أن يلتقي بها ليعلمها عما حصل . وبعد أكثر من ثلاثة أسابيع من اﻹنتظار والقلق، سمعت من أحد الرجال في الحانة بأن إبن السير أنطونيو سيتزوج قريبا وأنهم يحضرون لهذا الزواج. فظنت هي أن المقصود هو اﻹبن الثاني وليس بييرو ، ولكن بعد عدة أيام علمت أن الذي سيتزوج هو نفسه زوجها بييرو وليس أخاه. هذا الخبر وقع في نفسها وكأنه صاعقة سقطت عليها في تلك اللحظة ، وكادت الصحون الفارغة أن تسقط من يديها ولكنها تملكت نفسها لكي لا يشعر أحد من الحانة بأن شيئا ما حدث لها.
خبر ( زواج بييرو ) جعل كاترينا لا تستطيع النوم لعدة أيام ، ولم يكفي هذا فقد بدأت تشعر أيضا شيئا فشيء بأعراض الحمل تنتابها ، في البداية ظنتها بأنها بسبب اﻹرهاق نتيجة القلق وقلة النوم ، ولكن مع مرور اﻷيام أصبحت متيقنة تماما بأنها حامل ، وهذا ما جعلها تبحث وتبحث باستمرار عن حل ، فهي تستطيع تحمل كل شيء من أجل نفسها ، ولكن اﻵن أصبح اﻷمر لا يتعلق بها هي وحدها ولكن يتعلق أيضا بالطفل الذي تحمله في أحشائها ، وراحت تفكر بقلق ، ماذا سيقول عنه أهل البلدة ، فجميعهم لا علم لهم عن زواجها من بييرو. ... وفكرة أن يقال عن طفلها بأنه ثمرة الخطيئة ، أو إبن حرام ، كان يجعلها تشعر وكأن رأسها سينفجر ، فأول ما كانت تتصوره هو ذلك الذل الذي ستراه في عين طفلها ، هذه الفكرة كانت تجعلها تنهض من فراشها فجأة لتصلي إلى الله ، إلى مريم العذراء لتحمي طفلها من هذه السمعة الفظيعة التي سترافق طفلها طوال حياته ، وكانت صلواتها الطويلة تنتهي ببكاء صامت لا يسمعه أحد سوى الله عز وجل.
رغم أن كاترينا في ذلك الوقت كانت صغيرة في السادسة عشر من عمرها ، ورغم أنها كانت أمية وتبدو وكأنها فتاة قروية بسيطة ولكنها في الحقيقة كانت فتاة ذكية ووجودها في تلك الحانة لمدة سنتين كان قد سمح لها بسماع أشياء كثيرة من ناس كبار في السن ومن شباب مثقفين جعلها تكتسب معلومات ثقافية متنوعة يسمح لها بالتفكير والتحليل وإتخاذ قرارات جريئة جدا . لذلك أول ما خطر على بالها عندما عرفت أنها حامل ، فكرت بأن تبحث عن زوجها بييرو لتخبره عن حملها ولكن من خلال ما سمعت بأن بييرو في تلك اﻷيام قد توقف عن العمل في فلورنسا ولا يعلم أحد من أصدقائه شيئا عنه. ففكرت أنه طالما زوجها لم يعد يسأل عنها وجب عليها هي أن تجد طريقة بأي شكل من اﻷشكال للدفاع عن حق طفلها بأن يولد بشكل شرعي أمام الناس جميعهم ، فهي أمه وهي المسؤولة عنه اﻵن . لذلك أول شيء فكرت به هو أن تذهب إلى تلك الكنيسة التي تزوجت بها لتقص على القسيس حالتها و لتأتي بوثيقة زواجها لتريها إلى جميع أهل بلدة فينشي ليعلموا أن الجنين التي تحمله في أحشائها ليس نتيجة خطيئة ولكن نتيجة زواج أمام الله والكنيسة.
المسكينة لم تعلم أن والد بييرو بقوة أمواله كان قد أخفى كل شيء يثبت زواج إبنه . فقد تبرع بأموال كثيرة للمطران الكبير في المنطقة لترحيل القسيس الذي قام بمراسيم الزواج إلى كنيسة أخرى في جنوب إيطاليا. وعندما وصلت كاترينا إلى الكنيسة ورأت قسيسا آخر ، وأن إثبات زواجها قد إختفى ،علمت شيئا فشيء بأنها أصغر بكثير من أن تستطيع أن تواجه السير أنطونيو فرغم أنها قصت مشكلتها للقسيس الجديد لكنه أخبرها أنه لا يستطيع أن يفعل من أجلها أي شيء.
وكادت كاترينا أن تنهار نفسيا بشكل كامل ولولا إيمانها الشديد بالله لربما كان شدة يأسها وحزنها أن يجعلها تضع حدا لهذا العذاب باﻹنتحار لتنقذ طفلها من ذلك الشقاء الذي سيعانيه خلال حياته إذا ولد . ولكن صلواتها الطويلة في الليل كان ينقي فكرها دوما فتجد نفسها تشعر وكأن مريم العذراء كانت بقربها تنظر إليها وتشعر بمعاناتها وأنها ستساعدها ، ومرة أثناء صلاتها أتى إلى فكرها صورة السيدة لوسيا أم بييرو ، فشعرت بأن هذه الصورة قد أتت إليها من مريم العذراء ، وأن هذه السيدة تستطيع أن تساعدها، فقد كان زوجها قد أخبرها عن أمه بأنها طيبة القلب وتخشى الله كثيرا وتذهب إلى الكنيسة يوميا ، فقررت أن تذهب إليها وتخبرها بأن إبنها قد تزوج منها في الكنيسة أمام الله وأمام شهود وأن تعاليم الدين لن تسمح له بالزواج مرة أخرى ، وأن ما يفعله والد بييرو هو كفر عظيم معارض لتعاليم الكنيسة. هذه الفكرة أعطتها بعض اﻷمل لترتاح نفسيا بعض الشيء.
بعد عدة أيام سنحت لها الفرصةبأن تتكلم مع لوسيا أم بييرو فقد رأتها من بعيد تتجه لوحدها إلى بيتها ،فخرجت من الحانة وبخطوات سريعة ركضت نحوها وعندما وصلت إليها إلتفت نحوها السيدة لوسيا لترى من يلاحقها ، وما أن رأتها حتى تغيرت ملامح وجهها وكأنها تعرفها حق المعرفة وأنها تعلم تماما ما فعله إبنها معها . ارادت السيدة لوسيا في البداية أن تتهرب منها وتتابع سيرها ولكن كاترينا أوقفتها وتوسلت لها أن تسمعها ، فأخبرتها كاترينا مباشرة أنها زوجة إبنها بييرو ولكن قبل أن تتابع كلامها ، أجابتها السيدة لوسيا بلهجة مرتبكة ( أنا لا أعلم شيئا ) وإبتعدت عنها فجأة وكأنها ترفض أي مناقشة في هذا الموضوع ، وما أن قامت ببضع خطوات حتى سمعت كاترينا تقول لها بصوت على وشك البكاء ( أنا حامل) .
هذه العبارة وكذلك نبرة صوت كاترينا جعلت السيدة لوسيا تتجمد في مكانها ، للحظات بقيت ثابتة في مكانها بدون أي حراك ثم إلتفتت وراحت تنظر إليها وتتمعن ﻷول مرة في ملامح وجهها لترى عن قرب تلك الفتاة التي تحمل في أحشائها حفيدها من أبنها بييرو . إسلوب نظراتها جعلت كاترينا تشعر بنوع من الطمأنينة بأن هذه المرأة التي أمامها اﻵن هي فعلا كما وصفها إبنها. وأنها فعلا تخاف الله وأنها ستفعل شيئا لها لتنقذها من تلك المحنة التي تمر بها.
إقتربت لوسيا من كاترينا وهي لا تزال تتمعن في وجهها ، في تلك اللحظة رأت دمعة تتساقط من عين كاترينا، لم تتحمل فامتلأت عيناها بالدموع هي اﻷخرى، ثم رفعت يدها ومسحت على رأسها بحنان وقالت لها ( كان الله في عونك ياإبنتي، أنا أعلم ما تمرين به من عذاب ، سأفعل كل ما أستطيعه من أجلك ) . وطلبت منها أن تعتني بنفسها ثم تركتها وذهبت إلى بيتها.
في اليوم التالي أتت الخادمة التي تعمل في بيت سير أنطونيو إلى الحانة وأخبرت صاحبها بأن السيدة لوسيا تريد من كاترينا أن تذهب إليها ، إستغرب صاحب الحانة عن السبب فلم يكن يعلم أي شيء عن أي علاقة بين كاترينا وعائلة السير انطونيو ، فطلب من كاترينا أن تذهب مع الخادمة لترى ماتريده منها السيدة لوسيا. فرحت كاترينا فقد علمت مباشرة بأن السيدة لوسيا قد تكلمت مع زوجها وأنهما قد تناقشا في موضوعها ووصلوا إلى قرار ما ، وكانت طوال الطريق إلى بيت بييرو تدعوا في داخلها إلى الله أن يكون قرارهم خيرا للطفل الذي تحمله في أحشائها.
هناك كان والد بييرو وأمه ينتظرونها ، وعندما رأها السير انطونيو تدخل الصالون نظر إليها بنظرة قاطبة ثم أقترب منها بطوله الفارع جعلها تشعر وكأن وحش ضخم يقترب منها ، وبعد أن تأملها للحظة أخبرها بصوته الرخيم بأن لا تحلم نهائيا أن تكون يوما ما زوجة ﻹبنه ، وأنه لا يوجد أي شيء يمكن أن يثبت بأن إبنه قد تزوجها أو أن الجنين الذي تحمله في أحشائها هو من إبنه، لذلك من اﻷفضل لها أن تقبل بالشروط التي سيعرضها عليها. ثم إلتفت إلى زوجته وطلب منها أن تخبرها بتلك الشروط ، وبدون أن يلتفت إلى كاترينا غادر البيت. طلبت السيدة لوسيا من كاترينا أن تجلس بقربها وراحت تخبرها بأنها حاولت إقناع زوجها بأن يقبل بصحة زواج إبنها منها، ولكنه رفض ، وأخبرتها أيضا أن زوجها عندما يتخذ قرار لا يمكن لأحد أن يغير رأيه ، وأخبرتها أنه يقبل فقط أن تأتي لتتزوج أحد عمال مزرعته لتعيش هي وإبنها بعيدا عن اﻵخرين ليمنع أي شخص يسيء إليها ولتستطيع هي حضانة ورعاية إبنها.
في البداية رفضت كاترينا رفض قاطع لتلك الشروط فهي لن تتزوج مرة أخرى مهما كانت اﻷسباب فحسب رأيها بأنها لم تطلق وأن زواجها الثاني سيعتبر معارضة تعاليم الكنيسة وأنها أمام الله زوجة بييرو ولن تسمح ﻷي رجل آخر أن يلمسها ، ولكن السيدة لوسيا أخبرتها بأن زواجها سيكون فقط من أجل تبرير الحمل، وأنها قد إتفقت مع الرجل الذي ستتزوجه بأنه لن يلمسها ولن ينام معها في غرفتها وأنه سيكون زوجها أمام الناس فقط ، ورغم أن الشروط كانت قاسية جدا على كاترينا وعلى الطفل في أحشائها ، لكنها عندما سمعت من السيدة لوسيا بأن زواجها الثاني سيكون على ورق فقط وأن زوجها لن يلمسها وافقت ، فقد كان أهم شيء بالنسبة لها هو أن يعيش طفلها بشكل طبيعي بين الناس، وخاصة أنه سيعيش تحت حماية عائلة لها سلطة كعائلة السير أنطونيو.
وهكذا تزوجت كاترينا وتركت الحانة وذهبت لتعيش في بيت صغير بعيد عن عيون الناس يقع على أطراف الأراضي التي يملكها السير أنطونيو، مع رجل - زوج - يكبرها بأكثر من ثلاثين عام، الذي سيعاملها كأنها إبنته، فقد رضي بالزواج منها فقط ليساعدها لتستر فضيحتها فلم يكن يعلم شيئا عن زواجها ، فقد ظن أن بييرو قد خدعها ، فكان يذهب إلى العمل من الصباح إلى المساء ، وكانت كاترينا تبقى بمفردها تقوم بتنظيف البيت وتجهيز الطعام وهذا ما كان يجعله سعيدا بقدوم كاترينا لتعيش معه.
بعد فترة قليلة سمعت كاترينا أن السير انطونيو والسيدة لوسيا قد ذهبا إلى فلورنسا لحضور زواج إبنهما بييرو من فتاة تنتمي إلى عائلة ثرية جدا معروفة في المنطقة. وهكذا إنتهى أمل كاترينا في أن تعيش مع بييرو ثانية يوما ما. فراحت تصب كل إهتمامها بطفلها الذي كان يكبر في إحشائها ،والذي منذ بدأ تكوينه كانت روحه الصغيرة تشعر بأن شيئا ما يقلق روح هذه اﻷم التي تحمله في أحشائها ، وصلواتها الليلية المستمرة وصوتها وهي تدعو لله من أجل أن يحن على طفلها القادم إلى هذا العالم الذي لا يعرف معنى الحنان ، أن يحميه من كافة أنواع الظلم والذي تشارك به الكنيسة نفسها. وأن يجعله عندما يخرج إلى النور يشعر بأنه حر ، حر بكل ما تملك هذه الكلمة من معنى ليواجه بقوة جميع من ظلموه.
في هذه البيئة القاسية التي كانت تعيشها كاترينا والتي يسيطر عليها قانون الغاب حيث القوي يأكل الضعيف ، الله سيستجيب لدعوات هذه اﻷم المسكينة ،وفي يوم ١٥ نيسان من عام ١٤٥٢ سيجعلها تلد طفلا سيجعل التاريخ يكتب إسمه بخطوط عريضة في صفحاته ، خطوط عريضة جدا يراها الجميع " ليوناردو دافينشي " .....كلمة ليوناردو باللغة الايطالية معناها ( أسد) وكلمة فينشي معناه ( نصر ) .ليكون إسمه رمزا يعبر عما عانته أمه من عذاب وظلم ، والتي بدلا من أن تحقد وتنتقم ،سلمت أمرها لله فلم تطلب منه شيئا لنفسها ولكن دعائها كان فقط من أجل أبنها. لذلك فمنها هي التي إسمها كاترينا هذا اﻹسم الذي يحمل لفظ له معنى ( قطة السلام ) ، هذه القطة الضعيفة جسديا جعلها الله تنجب ( اﻷسد المنتصر )..
رغم جميع محاولات السير أنطونيو في إخفاء علاقة إبنه بييرو مع كاترينا الفتاة الفقيرة كانت اﻷقدار له بالمرصاد ، فتوقف كاترينا المفاجئ عن العمل في الحانة لتذهب لتعيش في أحد منازل العمال في أراضي السير أنطونيو ، وكذلك إختفاء بييرو إبن أنطونيو وعدم ظهوره في الحانة أو في بلدة فينشي كما كان يفعل يومي السبت واﻷحد من كل أسبوع ، وكذلك أعراض الحمل التي بدأت تظهر بسرعة على كاترينا ، وأشياء أخرى غيرها ، جميعها جعلت أهل بلدة فينشي يفكرون بأن الجنين الذي تحمله كاترينا هو من بييرو إبن سير أنطونيو ، وهذا ما دعى البعض - وخاصة أولئك الفقراء الذين كانوا يعرفون كاترينا حق المعرفة - اﻹستياء من سلوك العائلة الثرية ﻷنهم إستغلوا نفوذهم في خداع كاترينا الفتاة الضعيفة ، ولكن البعض اﻵخر -وخاصة أولئك الذين ينتمون إلى الطبقة الغنية - فكانوا يتهامسون بسخرية من تلك الفتاة الفقيرة التي عشقت شابا من غير طبقتها وظنت بأنها ستستطيع أن تتزوجه.
الظروف القاسية التي عاشتها كاترينا دفعتها إلى اﻹبتعاد عن أعين الناس لتعيش في عزلتها وحيدة ، تبكي بصمت تشكو أمرها لله من تلك الخطيئة التي يتهمها أهل البلدة ظلما، وكانت طوال الوقت تأمل بأن زوجها بييرو والد الجنين الذي تحمله في أحشائها سيأتي يوما ليشرح لها ما حدث، على اﻷقل ليبرر سبب اختفائه ، فهي كانت تعلم بأنها لن تستطيع أن تعيش معه كزوجة ، ولكن كان أملها أن تسمع منه بأنه لن يترك طفله ليصبح سخرية جميع أهل البلدة وأنه سيدافع عنه كأب وسيضعه تحت رعايته وحمايته . هذا ما كانت فقط تأمله حماية طفلها من جميع ألسنة اﻵخرين الذين يريدون اﻹساءة إليه.
لم تعلم كاترينا بأن الله عز وجل قد إختارها هي من بين النساء ، الفتاة البسيطة اﻷمية ذات التفكير الفطري لتكون المعلمة اﻷولى ﻹبنها الذي سيصبح أسطورة جديدة تحل محل أسطورة إسكندر اﻷكبر ملك مقدونيا، ولكن بدلا من أن يحمل السلاح ليغزو بلدان العالم لتحقيق الوحدة العالمية كما فعل إسكندر ، سيحمل إبنها ليوناردو القلم ليبدد به ظلمات الشعوب اﻷوربية لتصل إلى عصرها الذهبي ، ولتشق الإنسانية بأكملها مرحلة جديدة في التطور ، هذا العصر الذي سيطلق عليه اﻷوربيون عصر " حضارة الولادة المجددة " أما المفكرون العرب فسيسمونه بإسم يعبر تماما عن معناه الروحي وهو " عصر النهضة " . فبعد نزول آخر ديانة و إكتمال الديانات السماوية والذي له معنى إكتمال عناصر تأمين الحاجات الروحية ،سيأتي عصر النهضة ليشبع تطور اﻹنسانية بالعلوم المادية التي هدفها تأمين الحاجات المادية ، ليتم تجهيز اﻹنسانية روحيا وماديا لتدخل في مرحلة جديدة من التطور تختلف نهائيا عن المراحل السابقة ، والتي تسمى مرحلة الرشد ، والتي أشار إليها القرآن الكريم كرمز في اﻵية /٢٧/ من سورة سورة الكهف ( ...ولن تجد من دونه ملتحدا ) ، اﻹنسانية اليوم هي على أبواب هذه المرحلة الجديدة وتنتظر أمر الله تعالى ليعلن بدايتها.
ففي تلك الفترة التي جرت بها أحداث حكايتنا كانت الشعوب اﻷوربية تعيش صراعات في عدة مجالات ، سياسية ودينية وإجتماعية وعلمية وفكرية، فعلى الصعيد السياسي كانت الشعوب اﻷوربية تعاني من إنشقاقات متعددة، في إيطاليا مثلا كان لكل مدينة لها حكم ذاتي لا يربطها أي رابط مع المقاطعات اﻷخرى لذلك كانت هذه المقاطعات في عداوة مستمرة بين بعضها البعض ، والحال نفسه كان أيضا في الجانب الديني فقد أدى اﻹنشقاق في الكنيسة إلى ظهور العديد من المذاهب المسيحية والتي خلقت نوع من العداوة بين تلك المذاهب، وإحدى أهم نتائج هذا اﻹنشقاق كان خسارة مدينة القسطنطينية هيبتها في نظر العالم المسيحي مما جعلها ضعيفة غير قادرة على الصمود أمام الجيوش العثمانية وشاءت اﻷقدار أن يكون حصار وسقوط مدينة القسطنطينة (١٤٥١-١٤٥٣) متزامنا تماما مع ولادة ليوناردو دافينشي (١٤٥٢) ليكون عام ولادته علامة إلهية تؤكد للعلماء بأن هذه الشخصية التاريخية التي تسمى ( ليوناردو دافينشي ) ليست شخصية عابرة ولكن لها أهمية كبيرة في تاريخ اﻹنسانية ومصيرها وأنه يجب دراستها بعمق لفهم المخطط اﻹلهي في تطور اﻹنسانية.
أما على الصعيد اﻹجتماعي فقد بدأت تظهر آراء فلسفية - بدأها إبن رشد - تدعو إلى وحدة الروح العالمية والتي تعتمد بشكل رئيسي على إحترام حقوق اﻹنسان ، فاﻹنسان مهما كان عرقه أو لغته أو دينه هو كائن راقي يختلف عن جميع الكائنات اﻷخرى لذلك من واجب جميع الجهات العليا ،السلطة والكنيسة أن تؤمن حقوقه ليعيش بمستوى إجتماعي يسمح له أن يتابع تعليمه ليكون عضواً فعالاً في تطوير المجتمع ، هذه التيارات ركزت أيضا بشكل كبير على حقوق المرأة ودورها الطبيعي في تطور اﻹنسانية.
وبينما فكرياً كان الصراع يحدث بين أصحاب الفكر الجديد الذي يحاول فرض وجوده ليقضي على أصحاب الفكر الرجعي الذي كان تحت سيطرة رجال الكنيسة ﻷكثر من ثمانية قرون والذي كان يحارب جميع أنواع النشاطات الفكرية بحجة أن العلوم والمعارف هي أصل شجرة المعرفة المذكورة في الكتب المقدسة والتي كانت سببا في طرد اﻹنسان من الجنة. وكانت نتائج هذا الصراع مع مرور الزمن تسير لصالح أصحاب الفكر الجديد حيث مؤيدي هذا الفكر كان معظمهم من الطبقة الغنية الذين سخَّروا ثرواتها في خدمة تغيير البلاد وكان عددهم يزداد مع الزمن ليشمل شيئا فشيء أفراد الطبقة الحاكمة نفسها.
في هذه الظروف المتوترة التي كانت تعيشها المجتمعات اﻷوربية وخاصة المجتمعات اﻹيطالية ، إختار الله كاترينا تلك الفتاة التي تبدو وكأنها فتاة أمية ،فقيرة ،ضعيفة وبسيطة ولكن في الحقيقة كانت تحمل صفات مشابهة تماما لصفات تلاميذ المسيح ، فهي كانت تملك ما هو أهم من كل شيء وهو الوعي الروحي الفطري الذي سيسمح لها أن تجعل إبنها ليوناردو يولد ويعيش في بداية حياته في بيئة روحية مناسبة لهذا التغيير ، بعيدة عن جميع الشوائب التي حملتها المجتمعات اﻷوربية ﻷكثر من ثمانية قرون. لذلك عندما ولد طفلها أطلقت عليه إسم ليوناردو ومعناه ( أسد ) في اللغة اﻹيطالية ، فهذا اﻹسم لم يكن صدفة ولكن إلهام من الله عز وجل ، فكما هو معروف أن الشعب اﻷيطالي كان معروفا باسم (الروم)، نسبة إلى مدينة روما، وكما تذكر اﻷسطورة أن إسم هذه المدينة يعود إلى إسم رومولوس الملك الذي قتل شقيقه ريموس الذي ساعده في بناء مدينة روما ليستولي على العرش ، وطبقا لهذه اﻷسطورة ، رومولوس وريموس هم أبناء ريا سلفيا الكاهنة التي وجب عليها أن تبقى عذراء ، ولكن إله الحرب (مارس) أغواها فحملت وأنجبت منه أبنائها التوأم رومولوس وريموس ، فكان عقابها اﻹعدام ، أما أبنائها فتم وضعهما في سلة لترمى في نهر تيبر، ولكن السلة بعد مسير طويل رست على ضفاف النهر وهناك سمعت ذئبة بكاء الطفلين فذهبت إليهما وقامت برضاعتهما ورعايتهما.
هذه الأسطورة لم تكن من خيال إنسان ولكن من وحي الله عز وجل وسفر التكوين قد أشار إليها بطريقة رمزية ولكن حتى اﻵن لم ينتبه أحد إلى وجودها ليفهم معناها ، لذلك لم يحاول أحد ربط أحداثها مع شخصية ليوناردو دافينشي ، وكذلك أعطى الله علامة أخرى على هذه العلاقة ، فإذا قلبنا صورة خريطة إيطاليا رأسا على عقب لوجدنا أن شكل الخريطة يشبه شكل كلب ( الصورة ) هذا الكلب هو رمز لتلك الذئبة التي قامت بتربية الطفلين رومولوس وريموس ، هذه الذئبة هي رمز لزوجة إله الحرب والذي يأخذ هنا رمز الشيطان الذي أغوى حواء وآدم ﻹرتكاب الخطيئة ( خطيئة الزنى ) والتي كانت سببا لطرد اﻹنسان من الجنة.
كاترينا أخذت في هذه الحكاية رمز حواء التائبة لذلك بدلا أن تكون ( ذئبة ) تنجب رومولوس الذي سيقتل أخاه ريموس ( قابيل وهابيل )،ستكون تماما كما يحمل إسمها من معنى فإسم كاترينا لفظيا يبدو وكأنه يتألف من مقطعين ( كات - إرينا ) حيث كلمة (كات) معناها ( قطة ) في معظم اللغات اﻷوربية ، وكلمة (إرينا) معناها في اللغة اليونانية ( سلام ) ، فكاترينا الفتاة اﻷمية التي ستلد الطفل ( الأسد ) سيأخذ رمز قابيل الجديد والذي بدلا من أن يستخدم قوته في قتل اﻵخرين كما فعل رومولوس أيضا ، سيحاول بجميع جهوده وعبقريته وضع أسس جديدة في تنمية العلوم المادية لتساعد العلوم الروحية في تأمين كافة حاجات اﻹنسان ، وكذلك سيحاول أن يضع فكرة توبة حواء في جميع عقول المفكرين عبر اﻷجيال المتتالية ليساعدوا هم بدورهم في تهيئة الظروف اﻹجتماعية التي ستسمح للمرأة الدخول إلى المدارس ومتابعة تعليمها لتأخذ دورها الحقيقي في تطوير المجتمع. لذلك نجد خريطة إيطاليا بوضعها الطبيعي لها شكل قدم ، وهو رمز له معنى بأن ليوناردو دافينشي سيجعل إيطاليا القدم ( رمز القوة المادية ) التي سترتكز عليها اﻹنسانية في تطورها أو بمعنى آخر ستكون رمز العلوم المادية التي ستساعد العلوم الروحية في تأمين تطور اﻹنسانية بشكله الشامل نحو الكمال المطلق.
إذا لم نربط هذه الرموز التي شاءت اﻷقدار أن تضعها في حياة وشخصية ليوناردو دافينشي ،ستبقى عبقريته وأعماله فقط أشياء مدهشة مسلية وشيقة ولكن بدون أي معنى يفيدنا في فهم مخطط تطور اﻹنسانية. تماما كما يحصل اليوم فالكل يكتب عن ليوناردو دافينشي ولكن معظمهم يستخدمون قصة حياته وأعماله في إبعاد الناس عن الدين و إضعاف الشعور بالوجود اﻹلهي في نفوس الناس تماما بعكس ما حاول ليوناردو دافينشي نفسه أن يحققه من خلال أعماله وحياته والتي جميعها لم تكن إلا نوع من أنواع تجديد المفاهيم الدينية لتصبح ملائمة للفكر الحديث كما عبر عنه الحديث الشريف (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها).
كان المنزل التي تسكن به كاترينا وإبنها المولود ليوناردو قريبا من تلة عالية تدعى ( مونتي ألبانو ) ومعناها الجبل اﻷبيض ، وشاءت اﻷقدار أن تكون الظروف حول كاترينا قاسية بشكل يجعلها تهرب يوميا إلى هذا الجبل لتجلس هناك ساعات طويلة هي وابنها الصغير ليوناردو ، فقد كانت تشعر في تلك اللحظات وهي موجودة في هذا الجبل وكأنها في حماية الله نفسه ، وشاءت الحكمة اﻹلهية أن تجعل هذه البقعة من اﻷرض وكأنها قطعة من الجنة نفسها فمن المعروف أن في جميع أنحاء العالم تحدث طفرات في مختلف أنواع الكائنات الحية تؤدي إلى فقدان اللون المميز لهذه الكائنات فتولد بيضاء اللون ، وهذا النوع من الكائنات الحية التي تولد بلون أبيض يختلف عن ألوان بقية أفراد نوعها معروفة بأسم ( البينو) ومعناها اﻷبيض، فقد يصدف أن يولد نمر أبيض ( البينو ) من آباء لهم الوانهم الطبيعية (خطوط برتقالية وبيضاء وسوداء ) أو قد يولد جمل أبيض ، أو فيل أبيض أو أسد ابيض، فيمكن أن تظهر هذه الطفرة في أي نوع من أنواع الكائنات الحية ليولد كائن له لون أبيض يختلف عن ألوان آبائه وأفراد نوعه ، ولكن هذه الطفرة نادرة جدا حدوثها . أما في تلك البقعة من العالم التي ولد فيها ليوناردو ، كانت هذه الطفرة تحدث بشكل دائم لذلك كانت جميع الكائنات الحية هناك فيها نسبة كبيرة من الكائنات اﻷلبينو ، لذلك سميت المنطقة بجبل ألبينو أي الجبل اﻷبيض من كثرة كائناته الحية البيضاء ، فهناك تجد بكثرة عصافير بيضاء رغم أن نوعها الحقيقي في المناطق اﻷخرى لها ألوان مختلفة رمادي أو بني ، وقد تجد فراشات بيضاء رغم أن نوعها الحقيقي في المناطق اﻷخرى يحمل ألوان أخرى برتقالي أو أسود أو غيره من الالوان ، كثير من اﻷنواع النباتية أيضا في تلك المنطقة لها لون أبيض ، رغم أن نفس أنواع هذه النباتات في المناطق المجاورة لها ألوان أخرى.
إختلاف البيئة الحية وأنواعها في هذه المنطقة وسيطرة اللون اﻷبيض على جميع هذه الكائنات الحية ، كانت وكأنها كلمات من عند لله عز وجل تهمس في إذن كاترينا في كل لحظة ، وكأنها كانت تقول لها " لا تحزني ﻷن الله معك، فإبنك الصغير هذا ليس إبن عائلة سير أنطونيو ، إنه إبن هذا الجبل ، هذا الجبل الذي كل شيء فيه يعبر عن طهارتك وصفاء روحك، لذلك فصله الله عن تلك العائلة ليترعرع في بيئة روحية طاهرة، خالية من تلك الشوائب التي جعلت أوربا تعيش في الظلام والجهل لقرون طويلة. فإبنك بحاجة لهذه اﻹنعزالية ليكون بحماية الله ليتعلم منه هو قوانين الطبيعة التي وضعها الله في خلقه ، ليواجه أصحاب العقول المظلمة الذين لا يريدون التجديد.
وبالفعل كان ليوناردو الصغير هو أيضا طفرة مثل طفرات (ألبينو ) فقد كان شكله غريبا وكأنه يختلف عن بقية مخلوقات اﻷرض ، مثل كائنات ذلك الجبل. فعائلة أباه كانوا جميعهم بشعر أسود ، أما أمه كاترينا فكان شعرها بلون بني فاتح وتحت أشعة الشمس كان يبدو وكأنه شبه أشقر ، أما ليوناردو الصغير فكان شعر رأسه أشقر جدا وكأنه أبيض اللون ، مع بشرة بيضاء جدا ، فكان يبدو وكأنه كائن ثلجي أتى من قمم الجبال البيضاء، وكانت ملامح وجهه رقيقة جميلة تشبه ملامح وجه أمه كثيرا ، وربما لهذا السبب أيضا كانت كاترينا تحاول أن تخفيه عن جميع أنظار الناس حتى لا يتكلمون عن غرابة شكل طفلها فيحاول الجميع مشاهدته عن قرب.
على سفح الجبل اﻷبيض كانت كاترينا تجلس على صخرة وتأخذ ليوناردو الصغير في حضنها وتضمه إلى صدرها وكأنه قطعة منها ، وكانا ينظران إلى تلك الكائنات الحية الجميلة من حولهما ، وكانت كلما رأت شيء، جميل زهرة جميلة مثلا ، أو عصفور حط على مقربة منهما أو فراشة ،...تقول له انظر ، وكان الصغير ليوناردو طيب القلب يحب أمه ويثق بها كل الثقة ، فكان ينظر حيث تشير أمه وكأن شيئا مهما جدا تحاول أمه أن تعلمه من خلال ذلك الشيء التي أشارت نحوه ، فكان يتمعن به بكامل أحاسيسه وعواطفه. هذا الجبل "مونتي البانو " بمكوناته المادية والروحية سيكون المدرسة اﻷولى في حياة ليوناردو والتي فيها سيتم تكوين القاعدة العلمية لجميع نشاطاته الفكرية. فأهم مميزات أعمال ليوناردو أنه كان أول من إستخدم عناصر الطبيعة لتتحد مع أشخاص اللوحة التي يرسمها لتعطي تعبير روحي عميق يجعل المشاهد يشعر بأحاسيس جميلة غير مألوفة من قبل ، وكأنها تهمس في روح المشاهد من خلال هذه الأحاسيس بأنه لا يمكن الفصل بين اﻹنسان والطبيعة ﻷن الطبيعة نفسها هي جزء لا يتجزء من تكوين اﻹنسان نفسه.
عندما كبر ليوناردو وأصبح عمره أربع سنوات ، كانت أمه تجلس على صخرة، بينما هو كان يركض أمامها هنا و هناك ، تارة يطارد العصافير وتارة الفراشات وتارة أخرى يأتي إلى أمه بزهرة جميلة من أزهار الجبل، وكانت أمه تراقبه وتضحك فرحة على حركاته ، وكان هو سعيدا لكل ما يحدث معه في هذا الجبل ، ولكن في بعض اﻷحيان كانت أمه فجأة تتذكر حبيبها بييرو والد ليوناردو الصغير ، فتتصور لو أن والده السير أنطونيو لم يفصل بينهما لكان اﻵن بقربها يضمها إلى حضنه وينظر معها إلى إبنهما الصغير وهو يركض فرحا خلف العصافير والفراشات ،فكانت تتصور كم كانت الحياة ستكون جميلة وسعيدة . في مثل تلك اللحظات التي كانت تعيشها كاترينا وهي تتصور نفسها في أحضان حبيبها كان الحزن يندمج مع الفرح بطريقة غريبة ، وكان ليونارد الصغير يلتفت إلى أمه فجأة ويرى في وجهها تلك العواطف المتداخلة ، فكان يتمعن في تعابير وجهها وهي تعيش تلك اللحظات دون أن تعلم أن إبنها الصغير ينظر إليها وروحه في داخله تحاول أن تعرف لماذا أمه حزينة . وكانت فجأة عندما تستيقظ من سهوتها وترى أن ابنها ينظر إليها ، تبتسم له وكأنها تحاول أن تخفي حزنها ، فترى عين الطفل الصغير تلك اﻹبتسامة الغريبة على وجه أمه التي كانت تجعله وكأنه يرى روحها نفسها ، هذه اﻹبتسامة المحيرة ستظهر على وجوه معظم النساء في لوحاته والتي ستصبح فيما بعد لغزا من ألغاز الفن العالمي والتي ستكتب عنها آلاف الصفحات ، هذه اﻹبتسامة الغامضة المعروفة اليوم بإسم (إبتسامة الجوكندا أو إبتسامة موناليزا ).
طوال فترة وجود ليوناردو الصغير في رعاية أمه ، كان الجبل اﻷبيض ملعبا ومدرسة يقضي بها ليوناردو معظم أوقاته ، وكانت الجدة لوسيا تحب ليوناردو وأمه كثيرا ، فكانت كلما رأت زوجها أنطونيو قد ذهب خارج البلدة ، تذهب هي اﻷخرى إلى الجبل اﻷبيض لتلتقي هناك بكاترينا وحفيدها الصغير. وكانت تجلب معها ألذ انواع اﻷطعمة والحلوى وتجلس بقرب كاترينا وكأنها تجلس بقرب إبنتها التي تحبها حبا جما ، صورة أمه كاترينا مع جدته لوسيا ستنطبع في خيال ليوناردو الصغير إلى اﻷبد ، وسينقلها إلى لوحاته مرات عديدة ، حيث لوسيا ستأخذ دور القديسة آنا (والدة مريم العذراء ) أما كاترينا أمه فستأخذ دور مريم العذراء نفسها. كما في لوحة مريم الصخور وغيرها حيث نجد أمرأة مع إبنتها وحفيدها الصغير. جميع هذه اللوحات لم تكن سوى أحداث هامة طبعت في مخيلة ليوناردو وهو طفل صغير ، لذلك نجد جميع النساء في لوحات ليوناردو التي رسمها بعد وفاة أمه لهن نفس اﻹبتسامة ونفس الملامح وكأنهن إمرأة واحدة ، هذه المرأة هي في الحقيقة كاترينا أم ليوناردو دافينشي.
سير أنطونيو كان ينتظر من البييرا زوجة ابنه بييرو التي اختارها بنفسه ﻹبنه أن تنجب له حفيدا ، ولكن مضى عام بعد عام دون أن تحمل ، فعرف عندها أن زوجة إبنه لا تستطيع إنجاب أطفال ، وأن إبنه سيبقى بدون أطفال ، وبعد جدال بينه وبين ابنه في هذا اﻷمر ، عرض بييرو على أبيه أن يقبل بإبنه ليوناردو ليأتي به إلى بيته ليعيش معه ﻷنه حفيده الوحيد ، في البداية عارض الجد ولكن عندما رأى بأنه سيبقى بدون حفيد وكذلك لما سمع عن حفيده ليوناردو بأنه جميل جدا وأن شكله وكأنه طفل ينتمي إلى عائلة ملكية، رضخ للأمر وطلب من زوجته لوسيا أن تحاول إقناع كاترينا بالتخلي عن إبنها لمصلحته لينشأ في بيئة غنية تسمح له بمتابعة تعليمه والإختلاط بالطبقة العليا من المجتمع.
رغم حزن كاترينا على فراق إبنها ، رضيت بالواقع المرير فإبنها فعلا بحاجة إلى عائلة غنية تستطيع تأمين حاجاته المالية واﻹجتماعية ليتابع تعليمه ، فالتعليم في ذلك الوقت كان متاحا فقط لأفراد الطبقة الغنية . في عام ١٤٥٧ عندما كان ليوناردو بعمر خمس سنوات إنتقل إلى بيت جده ليعيش هناك بعيدا عن أمه ، هذا التغيير المفاجئ في حياة الطفل الصغير خلق في داخله نوع من الرفض لكل شيء جديد يأتي من هذه العائلة الجديدة التي يمثلها جده أنطونيو بملامحه القاسية ، ورغم أن الطفل كان في قمة الذكاء ولكن سلوكه كان يدل على عكس ذلك ، فكان جده وعمه فرانشيسكو والكاهن بييرو الذي قام بتعميده يلاقون صعوبة بالغة في تعليمه ، فقد كان ليوناردو بطيء جدا في إستيعاب جميع المواد وخاصة اللغة اللاتينية والتي كانت تعتبر رمزا للمثقفين في تلك الفترة ، فظن جده أن حفيده لا يملك المستوى العقلي ليصبح في المستقبل كاتب عدل ليمارس هذه المهنة ،مهنة عائلة السير أنطونيو . فلم يعلم الجميع أن ليوناردو لم يولد ليتابع علومه على نمط المنهج القديم ولكن ليأتي بقاعدة جديدة يبني عليها قوانين علمية جديدة تهتم بدراسة علاقة تجانس المضمون مع الشكل في اﻷشياء.
كان ليوناردو الطفل دوما يبحث عن مفر من هذه الظروف المتناقضة التي وضع فيها غصبا عنه ، فكان عندما يرى جده قد غادر البلدة لسبب ما كان يهرب من بيت جده إلى بيت أمه ليرتمي في أحضانها ليعوض كل حرمانه منها ، ورغم حبها الشديد له كانت هي دوما تحاول إقناعه بأن بقائه في بيت جده سيؤمن له مستقبل أفضل ، ولكن ومع ذلك كانت تفرح دوما وهي ترى إبنها يأتي خلسة إليها ، وكان جده كثيرا ما يؤنبه أو بعض اﻷحيان كان يضربه ﻷنه علم بذهابه إلى أمه ، وكان ليوناردو الصغير عندما يرى جده غاضبا منه يجري ويختبئ خلف جدته لوسيا لتحميه منه.
بسبب كون ليوناردو دافينشي طفلا غير شرعي في نظر الناس لم يستطع الذهاب إلى المدرسة ليتعلم فيها ، وجده أيضا لم يحاول أن يفعل شيئا في هذا الموضوع ربما ﻷنه ظن أن حفيده غير قادر على إستيعاب الدروس كبقية اﻷطفال ،وبسبب هذه الظروف طلب بييرو من أبيه أن يأخذ الطفل ليقيم معه في مدينة فلورنسا فلعله هناك يستطيع أن يتعلم شيئا يساعده في تأمين مستقبله.
عندما علمت كاترينا أن إبنها سيغادر بلدة فينشي ليعيش مع والده في فلورنسا وأنها لن تراه لفترات طويلة ، حزنت كثيرا ولكن سلمت أمرها لله فأهم شيء عندها كان مستقبل إبنها ، وقبل أن يسافر ابنها راحت وحاكت بيديها بلوزة على مقاس إبنها الصغير ليأخذها معه هناك وليبقى شيء منها يذكره بها. فشيئا ما في داخلها كان يجعلها تشعر بإستمرار أن سير أنطونيو كان يحاول بشتى الوسائل أن يفرض على إبنها الصغير أن ينسى أمه ليبتعد عن كل شيء له علاقة بتلك الطبقة الفقيرة ، وأنه طالما زوجة بييرو لا تستطيع اﻹنجاب سيحاول أن يجعلها تحل محلها لتصبح وكأنها هي اﻷم الحقيقية لليوناردو الصغير.
من أجل تلك البلوزة راحت كاترينا تعمل في حياكتها ليلا ونهارا لتنتهي منها و لتكون جاهزة ليأخذها معه قبل أن يسافر ، وعندما إنتهت من حياكتها، فرحت كثيرا وراحت تنتظر إبنها ليأتي إليها ليودعها لتعطيه البلوزة، ولكن مرت اﻷيام وإبنها لم يظهر بعد ، فذهبت تحاول أن تستفهم عما يحدث ، فعلمت أن سير أنطونيو أخذ حفيده معه بشكل مفاجئ وسافر إلى مدينة فلورنسا. لذلك لم يستطع إبنها الصغير أن يأتي ليودعها.
عادت كاترينا إلى بيتها حزينة ونظرت إلى بلوزة إبنها التي ظلت تعمل من أجلها أيام وليال ولكن اﻵن أيقنت تماما بأن إبنها لن يرتديها أبدا ، فضمت البلوزة إلى صدرها وكأنها تضم إبنها الصغير وأجهشت بالبكاء ، ولكن شدة إيمانها بالله كان سرعان ما يزيدها صبرا وقوة في تحمل قساوة الظروف من حولها ، وبدلا من أن تبكي من ظلم الناس لها راحت تدعو لإبنها الصغير بأن يكون في رعاية الله وحمايته ، وحاولت أن تقنع نفسها بأشياء وأشياء تبعد من قلبها التفكير بالسوء نحو اﻵخرين ، فربما ما حصل قد يكون خيرا لابنها ، وربما بقاء هذه البلوزة عندها قد يكون هو أيضا خير لابنها ولها ، فأهم شيء لها هو مستقبل إبنها ، فربما هذه البلوزة قد تفضح أمره فيعلم الجميع أن هذا الطفل من أم تنتمي إلى الطبقة الفقيرة ، أو ربما بقاء هذه البلوزة لديها هو من عند الله لتحل محل إبنها الصغير الذي أخذوه بعيدا عنها ، أو ربما......أو ربما....ما أصعب أن تعلم اﻷم بأن طفلها قد ذهب وقد لا يعود إليها أبدا ليس ﻷنه توفي ولكن ﻷنها هي لا تستحق أن تكون أمه في نظر أهل والد طفلها .
بعد عام من ذهاب ليوناردو ليقيم مع والده ، توفيت البييرا زوجة والده ، هذا الخبر كان حدثا هاما بالنسبة لسير أنطونيو فقد وجدها فرصة ليتزوج إبنه من فتاة أخرى من عائلة عريقة تنجب له أحفادا بدلا من البييرا التي لم تستطع تحقيق ذلك ، وخلال أسابيع قليلة كان الجد قد وجد فتاة بعمر ١٥ عشر عاما تدعى فرنشيسكا سير جوليانو لانفريديني، وبعد أسابيع قليلة أخرى تم هذا الزواج .
انتظر الجد أنطونيو بشوق ليسمع من إبنه أن زوجته حامل وأنها ستنجب له حفيد من أم تنتمي إلى عائلة عريقة. ... ولكن كان القدر له بالمرصاد هذه المرة أيضا ، فمرت اﻷعوام عاما تلو اﻵخر ، بدون أي خبر عن أي حمل ، عندها علم الجد تماما أن غضب الله قد أحاط به على فعلته عندما أخفى عن الناس زواج إبنه من كاترينا ، فليس من المعقول أن تستطيع كاترينا تلك الفتاة الفقيرة أن تحمل من إبنه خلال ثلاثة أيام فقط ، بينما زوجاته لهن سنوات معه دون أن يستطعن الحمل منه .هذه اﻷفكار جعلت قواه وصحته تنهار بشكل فجائي ، وسقط في الفراش وراح يطلب من الله العفو على ما فعله. وفي عام ١٤٦٨ توفي دون أن يرى أي حفيد آخر سوى حفيده ليوناردو الذي لم يرغب به قط.
أخبار ليوناردو كانت تصل ﻷمه كاترينا من خلال جدته لوسيا ، فكانت لوسيا كلما عادت من فلورنسا تذهب إلى كاترينا وتقص عليها أخبار ليوناردو، فمرة أخبرتها بأن إبنها الصغير يملك مواهب متعددة قد أدهشت الجميع وحتى أن الفنان المشهور أندريا فروكيو قد أعجب به جدا وطلب منه اﻹنضمام للعمل معه في مشغله الفني لينمي تلك المواهب. وبعد فترة أخبرتها أن ليوناردو أصبح إسمه في قائمة أهم الفنانين في فلورنسا. وكانت كاترينا تسمع أخبار إبنها وتبكي من فرحتها ﻷن إبنها هي الفقيرة قد إستطاع أن يصنع لنفسه قيمة بين أفراد المجتمع تسمح له أن يعمل ليحقق أهدافه وكأنه إنسان حر لا يختلف نهائيا عن أبناء العائلات الغنية.
عندما أصبح ليوناردو بعمر ٢٢ عام ذهب في زيارة إلى أمه ، وعندما وصل إلى بلدة فينشي ، راح أهل البلدة ينظرون إليه بدهشة كبيرة ولم يعرفوا أن هذا الشاب الشديد الوسامة هو إبن كاترينا الفتاة الفقيرة ، فقد بدا لهم من شكله ولباسه وتلك العربة التي أتى بها وكأنه أمير إبن أحد الملوك العظام ، فقد كانت ثيابه غريبة عن المألوف ولكنها جميلة جدا ، فقد كانت من تفصيل ليوناردو نفسه الذي صممها لهذا الغرض بالذات ليعلم أهل البلدة الذين اتهموا أمه بالخطيئة بأنها بريئة مما إتهموها لذلك وهبها الله هذا اﻹبن الذي عدا شكله الذي يفوق شكل إبناء الملوك جمالا فقد وهبه الله أيضا مواهب أخرى عديدة.
كاترينا نفسها لم تصدق أن هذا اﻷمير الوسيم الفارع الطول وذو الجسم المتناسق بكل شيء ، هو إبنها الصغير ليوناردو الذي كان جده يتهمه بالغباء ، ولم تصدق أن إبنها سيأتي إليها خصيصا بهذه الطريقة ليجعل أهالي بلدة فينشي جميعهم يحسبوا له ألف حساب ليغلق فمهم وليتوقف الجميع عن السخرية من أمه إلى اﻷبد . هذه الزيارة جعلت كاترينا تنسى أحزانها وشقائها وأدركت أن الله قد إستجاب لصلواتها ودعائها فقد كانت قبل هذه الزيارة تخشى أن يكون أسلوب حياة مدينة فلورنسا قد غيرت من طباع إبنها فنساها. ولكن ها هي اﻵن تراه أمامها وفي ملامح وجهه الوسيم لا تزال ترى تلك المحبة التي كانت تراها فيه وهو صغير.
في هذه الزيارة أخبر ليوناردو أمه بأنه من عمله يحصل على راتب عالي يسمح له باستئجار منزل جميل ، فحاول إقناعها بأن تأتي لتعيش معه بشكل دائم لترتاح من تلك الحياة القاسية التي تعيشها . في البداية فرحت كاترينا جدا بهذه الفكرة ولكن بعد أن فكرت بالموضوع جيدا أخبرته بأنها إذا أتت لتسكن معه سينظر الجميع إليه وكأنه إبن الخطيئة ، ﻷن وجودها معه سيذكر الناس بما يتهامس به أهل بلدة فينشي وسيحاول جميع أولئك الذين يريدون السوء به، أن يستغلوا هذا الموضوع ليمنعوه من النجاح في أعماله، وقالت له أيضا بأنها سعيدة جدا وتتابع أخباره بإستمرار ، وطلبت منه أن لا يقلق عليها وأن ينتبه إلى عمله ليستطيع النجاح والتوفيق في كل شيء يفعله. ورغم إلحاح ليوناردو في إقناع امه لتسكن معه ولكن محاولاته باءت بالفشل . ولكنه علم في تلك اﻷيام أن طريقة أمه في التفكير بما يجري حولها أرقى بكثير مما يفكر به اﻵخرين ، وأنها على حق ، فهناك فرق كبير بين أن يفكر اﻹنسان بنفسه وبمصالحه الشخصية وبين أن يفكر بالمصلحة العامة للإنسانية بأكملها ، هذا السلوك الذي رآه ليوناردو في أمه سيجعله مبدأ حياته اﻷول ، وهذا المبدأ سيدفع ليوناردو في البحث ودراسة كل شيء وسيجعله يعمل ليلا ونهارا ليكتشف أشياء جديدة أو ليصحح أخطاء اﻷقدمين ، وستصبح حياة ليوناردو بأكملها عملا شاقا مستمرا لتحقيق إنجازات جبارة من أجل تقديم كل ما هو مفيد للإنسانية. هذا المبدأ الذي تعلم ليوناردو من أمه سيجعله في نظر الكثير من المفكرين بأنه واحد من أولئك العباقرة الذين إستخدموا مخيلتهم الواسعة وعبقريتهم العالمية وإصرارهم الشديد لتحقيق المستحيل ، فكل سنوات حياة ليوناردو كانت تحت ضوء البحث واﻹكتشاف، لا شيء يمكن أن يوقفه من متابعة أبحاثه سوى الموت نفسه. لذلك كان ينتقل من مكان إلى آخر ومن علم إلى علم ومن إختراع إلى إختراع ومن فكرة إلى فكرة أخرى ، كان همه اﻷكبر أن يثبت لنفسه بأن اﻹنسان كائن عظيم ، عظيم جدا يستطيع الوصول إلى أعالي السماء وأنه أرقى بكثير مما كانوا يعتقدون به أولئك الذين ينتمون إلى الفكر الرجعي الذي جعل الشعوب اﻷوربية تعيش في الظلام والجهل لمدة أكثر من ثمانية قرون.
في تلك الزيارة قصت كاترينا على إبنها حادثة البلوزة التي حاكتها له ، وطلبت منه أن يأخذها معه لتبقى كذكرى منها ، ولكن ليوناردو طلب منها أن تحتفظ بها لتكون قطعة منه كلما حنت إليه واشتاقت له أن تضمها إلى صدرها وسيشعر هو وكأنه في أحضان أمه.
عندما كان ليوناردو بعمر ٤٢ عام ، كان يعيش في مدينة ميلانو يعمل في خدمة الدوق لوذوفيكو سفوراتسا ، في ذلك العام أتت أمه كاترينا لزيارته ، وكانت تلك المرة اﻷولى التي تأتي هي لزيارته ، أخبرته بأنها قد أتت مع بعض اهالي البلدة لزيارة إحدى اﻷماكن المقدسة في مدينة ميلانو ، وأنها ستبقى أيام قليلة ثم ستعود إلى بيتها ثانية ، ولكن عندما رآها تقدم له تلك البلوزة التي حاكتها له عندما كان طفلا ليحتفظ بها ، علم أن أمه أتت لتودعه وداعها اﻷخير ،فطلب منها أن تبقى لتعيش معه لكنها أصرت كعادتها أن تبقى بعيدة عنه. ولكن هذه المرة لم يتركها ليوناردو تذهب بعيدا عنه و أصر هو بأن تبقى معه ليرعاها ويعتني بها ،وﻷن ليوناردو كانت حياته عمل متواصل لهذا السبب كان بيته لا يشبه بقية المنازل ولكن كان بيته أشبه بورشة عمل يقيم بها هو وتلاميذه ، لذلك ذهب وإستأجر لها غرفة في دير الرهبات " سانتا كيارا " لتعيش هناك قريبا منه ، وهكذا شاءت القدر اﻹلهي قبل أن تفارق كاترينا الحياة أن تعيش بقرب إبنها في دير راهبات لتكون إقامتها هناك رمزا يعبر عن طهارتها التي إحتفظت بها طوال حياتها، وكان ليوناردو يأتي إليها يوميا ويبقى معها ساعات طويلة يقص عليها انجازاته التي أدهشت كل من رآها أو سمع عنها ، وكانت كاترينا تستمع إلى إبنها وتنظر إلى وجهه وتشعر وكأنها لا تزال ترى أمامها ليوناردو الصغير وهو يلعب على سفح (مونتي البانو ) الجبل اﻷبيض ، يركض هنا وهناك يلحق العصافير البيضاء ويجلب لها اﻷزهار البيضاء.
وكأن روح كاترينا قد علمت بأن دورها في الحياة قد إنتهى فإبنها اﻵن قد أصبح مشهورا في جميع مناطق إيطاليا وخارج إيطاليا ، وجميع المسؤولين الكبار هناك يحاولون أن يطلبوه ليعمل لديهم ليحل لهم ما عجز عنه اﻵخرين، ولم يعد أحد يهمه فيما إذا كان إبنها إبن فلاحة أو إبن عائلة سير أنطونيو ، فإبنها اﻵن أعظم بكثير من تلك اﻷشياء التافهة التي تفرق بين أفراد المجتمع. وكما سمعت من الراهبات بأن إبنها محبوب جدا من جميع نساء إيطاليا ﻷنه يختلف عن جميع الرجال فهو إنسان عفيف يكن للمرأة إحتراما شديدا وهو الفنان الوحيد الذي عندما ينظر إلى المرأة يرى روحها وليس جسدها كما يفعل بقية الفنانين . ...بعد أسابيع قليلة توفيت كاترينا.
ليوناردو دافينشي ضمن مذكراته عن أبحاثه وأعماله ، ذكر تكاليف جنازة إمرأة إسمها كاترينا, وكأنه أراد أن يترك تلك اﻷرقام ليعلم الجميع في المستقبل أن أمه ولدت فقيرة ولكنها توفيت وكأنها أغنى نساء العالم. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال في حديثه الشريف " الجنة تحت أقدام الأمهات " . إلى جميع نساء العالم بمناسبة عيد الأم " كل عام وأنتن بخير" .
ز.سانا