ما إن سيطرت حركة طالبان على العاصمة الأفغانية حتى شغل الموضوع الرأي العام والفضائيات ووسائط التواصل الاجتماعي واعتبره البعض حدثاً تاريخياً ويشكل منعطفاً ليس فقط في السياسة الأمريكية الخارجية بل وعلى مستوى النظام الدولي وأن هذا النظام ما بعد انتصار طالبان على الأمريكان لن يعود كما كان قبل ذلك، وتبارى المحللون السياسيون في شرح وتفسير انتصار حركة طالبان و(هزيمة) أمريكا بل الهزيمة التاريخية لأمريكا التي لا تقل عن هزيمتها في فيتنام في سبعينيات القرن الماضي، كما هللت جماعات الإسلام السياسي معتبرة ما جرى انتصاراً للإسلام والمسلمين وانتصار الحق على الباطل، كما كان يحدث مع كل (انتصار) تحققه الجماعات الجهادية.
لا نقلل من قيمة الإنجاز أو الانتصار الذي حققته حركة طالبان لنفسها من خلال سيطرتها على البلاد بعد أكثر من عقدين من إقصائها عن السلطة والاحتلال الأمريكي عام 2001، كما أن انتصار طالبان اكد فشل سياسة الاستعمار المباشر والتي حاولت الولايات المتحدة إعادة إحيائها من خلال احتلالها لأفغانستان والعراق، ولكن من السابق لأوانه اعتبار الانتصار العسكري لطالبان على حكومة مدنية منتخبة ومعترف بها دولياً انتصاراً للشعب الأفغاني أو أن خروج الجيش الامريكي وحلفائه يعني نهاية الصراع في أفغانستان، فالشعب لم يقل كلمته بعد، كما ان الحرب في افغانستان مندلعة قبل الاحتلال الامريكي، أيضاً فإن خروج الجيش الأمريكي من أفغانستان قد يكون في جزء منه هزيمة، ولكن أيضاً يجب ربط هذا الانسحاب بقرار أمريكي بالخروج من أفغانستان تم اتخاذه منذ سنوات أيضاً بالتغيرات الجيوسياسية والاستراتيجية في العالم؟.
ما جرى في أفغانستان من سيطرة طالبان على العاصمة وغالبية الولايات بدون قتال تقريباً واستسلام الجيش الافغاني وخروج آمن للرئيس وبطانته وللدبلوماسيين والمستشارين العسكريين الأمريكيين ثم للقوات الأمريكية وقوات التحالف الدولي ، غير منقطع الصلة بالمفاوضات التي كانت تجري بين طالبان وواشنطن في الدوحة. ففي 29 شباط/فبراير 2020 وقعت الولايات المتحدة في الدوحة اتفاقاً مع طالبان ينص على انسحاب جميع القوات الأجنبية بحلول الأول من أيار/مايو 2021 وفي الثامن من شهر أغسطس أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أن انسحاب قواته سيُنجز في 31 من الشهر، وفي اليوم التالي أعلنت طالبان أنها تسيطر على 85 بالمئة من الأراضي، وفي 15 من نفس الشهر دخلت طالبان إلى كابول من دون أن تواجه مقاومة ، هذه المفاوضات في الدوحة إن بدأت بين أعداء فقد تحولت لمفاوضات لتحقيق مصالح مشتركة بين حلفاء مستقبليين.
وبالتالي حتى نعرف ما يجري في كابل يجب معرفة ما جرى في الدوحة ومعرفة التحول في العقيدة العسكرية والاستراتيجية الأمريكية في المنطقة والعالم وخصوصاً علاقاتها المتوترة مع روسيا والصين واستمرار الملف النووي الإيراني بدون حل، أيضا سياسة الحزب الديمقراطي الذي نظَّر ورعى سياسة الفوضى الخلاقة في منطقة الشرق الأوسط.
ومع تأكيدنا بأن ما جرى في افغانستان وما تم التفاهم عليه في مفاوضات الدوحة سيبقى في جزء كبير منه سراً لعقود قادمة ولا يعرفه إلا حركة طالبان وقطر والقيادة العليا الأمريكية، لأن الدول لا تكشف او تفصح عن كل أوراقها واستراتيجياتها وخصوصاً بالنسبة لدولة كالولايات المتحدة الأمريكية وفي منطقة متخمة بالصراعات والنزاعات سواء من بقايا الحرب الباردة أو على الحدود والهيمنة و الاقتصاد الخ، إلا أنه يمكن فهم وتفسير ما يجري في افغانستان بربطه بالتحولات في الاستراتيجية الامريكية وعلاقة واشنطن بجماعات الإسلام السياسي المعتدلة وبالدول التي تدعم هذه الجماعات، أيضاً بأمور اقتصادية لها علاقة بالغاز والنفط وخطوط التجارة الدولية .
حركة طالبان التي تفاوضت معها واشنطن وتعاملت هي ودول الغرب والشرق بهدوء وكأمر واقع مع انقلابها وسيطرتها المسلحة على سلطة منتخبة ولم تقطع علاقاتها معها أو حتى تدين سلوكها، هذه الحركة هي نفسها التي أقامت حكماً إسلامياً متشدداً ما بين 1996-2001 ومنعت تدريس الفتيات أو عمل المرأة ورفضت الديمقراطية والتعددية السياسية واعتمدت في تمويلها على تجارة المخدرات وتحالفت مع تنظيمي القاعدة وداعش الأمر الذي دفع مجلس الأمن لأن يصدر القرار رقم 1333 في 19 كانون الأول / ديسمبر 2000، الذي دعا إلى حظر المساعدة العسكرية لطالبان وإغلاق معسكراتها، ووضع حد لتوفير ملاذ آمن للحركة، وتم تصنيف حركة طالبان كحركة إرهابية .
ما جرى في أفغانستان يستدعي التساؤلات والملاحظات التالية :
وأخيراً فأن مقياس الحكم إن كان ما جرى في أفغانستان وغيرها من الحروب التي طرفها جماعات إسلام سياسي انتصار أم لا ، هو انعكاسه على حياة الناس وقدرته على تحقيق الأمن والاستقرار والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، فالشعوب لا يهمها الشعارات التي ترفعها الأحزاب والجماعات المسلحة أو ما تحققه من انتصارات، بل أن تعيش بأمن وسلامة وكرامة، ومقياس الحكم إن انهزمت أمريكا أم لا هو مدى تضرر مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة والعالم .