الخميس 18/9/1445 هـ الموافق 28/03/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
اسياد الذاكرة؛ شاعر الثورة صلاح الحسيني ابو الصادق....مهند طلال الاخرس
اسياد الذاكرة؛ شاعر الثورة صلاح الحسيني ابو الصادق....مهند طلال الاخرس

    (1)

تعرف الذاكرة الوطنية بأنها شكل من أشكال وعي أفراد المجتمع بهويتهم، وبذلك فإنها ذاكرة جمعية بالضرورة، أي لا تقتصر على فرد واحد فقط بل مرتبطة بمجموعة أو فئة اجتماعية، تتشكل وتتطور ضمنها وضمن سياق تاريخي اجتماعي محدد. ولأنها وطنية، أي تحمل اسم الوطن بما يشمله من جميع أعضاء المجتمع المنتمين إليه، فإن محتواها يجب أن يعكس تنوع ذكريات مختلف فئات وشرائح هذا المجتمع. وعليه فان كل ما يشكل المستقبل بالنسبة لشعب أو مجموعة اجتماعية هو الذي يحدد ما يتعين عليهم أن يتذكروه من الماضي، وهذا ما يضفي معنى على الحاضر الذي يلعب دور الجسر بين الاثنين وتحديد معالم المستقبل.

بمعنى ان اي مستقبل نريده هو من يحدد أي ماض سنتذكره. وبمعنى آخر وحسب تعبير الدكتور خلف المفتاح فان لكل شعب او جماعة سياسية أياً كانت، تاريخ وبطولات ورموز تاريخية، تشكل مادة دسمة في سرديتها التاريخية ومخيالها الجمعي، وهذا يمنح تلك الجماعة شعوراً بالفخر والاعتزاز والسمو، وتأخذ هذه المسألة أهمية خاصة عندما تتعرض تلك الجماعة لاستهداف ممنهج لجهة تجريف تاريخها وهويتها وانتمائها عبر حملة تشويه منظمة تروم النيل من رموزها التاريخية ومناسباتها الوطنية والقومية، ما يعني بالمحصلة محو متدرج للذاكرة الجماعية واعادة بنائها بما يخدم مصالح تلك القوى التي تستهدفها وبما ينسجم مع رؤيتها المشوِهة لتلك الرموز والعناوين الوطنية، ما يعني بالمحصلة نسف وحرق عامل تحشيد معنوي ترى فيه الجماعة أعمدة بنائها التاريخي وهويتها الجامعة .

في هذا السياق وضمن الصورة الاعم والاشمل والهادفة لبناء وعي وطني ملتزم بهويته وثقافته ومدخلاتها ومخرجاتها، يُسخر الله لكل امة او مجتمع ثلة من الاولين يقوموا بدور الطلائع التي تجري على يدها الامور، وهذه الطلائع تعطي وتعطي بلا حدود او ثمن، وتبقى على هذه الحالة من العطاء المتقد والاخاذ، حتى انها قد تشقى وتفنى وتبعد وتعذب او تستشهد في سبيل هذه الفكرة، وبقدر عظم الفكرة والتضحية من اجلها، مضافا اليها عظم روادها ومريديها الاوائل ووفاء اتباعها لاحقا تتكون الرمزية، والتي ان توفرت لها بعض اسباب البقاء تجعل من صاحبها رمزا لا يشق له غبار، ولا تقدر على شطبه سطور الايام او صفحات التاريخ. فالرمز هنا اصبح شديد التوهج ويأخذ مكانته في التاريخ، ومع تتالي الايام ومضي الحقب يغدو الرمز اشد توهجا ولمعانا.

هذه الرموز لا يمكن ان تبقى إلا اذا قدمت كل اسباب بقائها، وقد تخبوا قيمة الرمز ولمعانه في زمن الاندثار والانحطاط، لكن لابد ان تتفق الحقائق في النهاية مع مجرى التاريخ، وبحيث تأخذ الرموز دورها مجددا، وتعود لتنير عتمة الليل ولتضيء سمائنا بالعز والعنفوان، تلك حكاية الرواد والطلائع والانبياء والرسل منذ قديم الزمن وحتى هذه الايام. والشعب العربي الفلسطيني لا يشذ ولا يمكن ان يشط عن هذه القاعدة، بل على العكس هو جزء اصيل فيها منذ نشأة الخليقة وحتى كتابة هذه السطور، فهو أرض المحشر والمنشر وارض الرسالات السماوية وقبلة الارض وبوابة السماء ومهد الرسل والانبياء والاولياء والصالحين .....بالاضافة الى تراثه وهويته واساطيره وحكايا ابنائه المتوارثة جيلا بعد جيل عن هذه الارض واصحابها.

لذلك فهذه الارض مقدسة ومعمدة بالدم والحكايات والرموز، وجعبتها لم تبح بكل ما فيها، فمازالت خوابي فلسطين مليئة بحكايا الرموز الذين يولدون لحمل الراية والدفاع عن اصل الحكاية، فهم وان غابوا او غيبوا لحين سرعان ما يبدا فجرهم بالانبعاث مجددا، حاله كحال اسطورة الفينيق الذي ما ان ظن الجميع انه ذهب واصبح رمادا بعدما احترق حتى يعود ليلعن الظلام، ويؤكد مجددا على الحقيقة الثابتة: بأن التاريخ ينتصر لاصحابه ولو بعد حين . ولاننا في هذا المقام والمقال نعلم جيدا معنى ما ذكرناه في المقدمة حين قلنا "ان اي مستقبل نريده هو من يحدد أي ماض سنتذكره". ولاننا اوفياء للذاكرة والتاريخ، ولاننا ندين بالكثير لمن ساهم في صياغة وصناعة وتكوين هذه الذاكرة، ولاننا نصبوا لمستقبل يُكمل ويُراكم على ما خطه الرواد الاوائل، نجد لزاما علينا وعلى ذاكرتنا الجمعية ان تبقى وفية لسيرة هؤلاء الرواد.

(2)

من هؤلاء الرواد الاوائل الذين توهجت اسمائهم في سماء فلسطين صلاح الحسيني ابو الصادق، شاعر الثورة الفلسطينية والكلمة المقاتلة، فهذا الرجل برمزيته الحاضرة والباقية يتسيد حيزا مهما في الذاكرة الفلسطينية، حتى ان هذه الذاكرة لا يستقيم حالها دون كلماته واشعاره واناشيده والتي اصبحت تجري على لسان كل الشعب الفلسطيني بدون استثناء، فهو كأقرانه من الشعراء والكتاب والادباء والمناضلين الذين ضمنوا حصتهم في الذاكرة، بعد ان شقوا طريقم اليها بالكد والتعب والعطاء الذي لا ينضب، حتى انهم اصبحوا اسياد الذاكرة بلا منازع. صاحبنا هو الشاعر الذي ردد الجميع أشعاره، والذي تشير بطاقته الشخصية الى انه ابن غزة الصامدة، ولد في زمن الثورات الأولى عام 1935، فرضع حليب الثورة وحب الوطن أبان الاحتلال الإنكليزي للبلاد، واستمر مناضلا حاملا قلمه بيد والرصاصة بالأخرى، حتى التحق بصفوف الثورة الفلسطينية عام 1967. وكتب أول نشيد للثورة: .بسم الله بسم الفتح بسم الثورة الشعبية بسم الدم بسم الجرح إلي بينزف حرية. قام صاحبنا بتأسيس الإعلام العسكري لحركة فتح سنة 1969، ثم تولى مسؤولية الناطق العسكري لقوات الثورة الفلسطينية بجميع فصائلها سنة 1971. أصدر ديوان ثوريات، كما أنه ساهم في كتابة نصوص العديد من أناشيد الثورة الفلسطينية مثل: نشيد العاصفة، واللوز الأخضر، والمد المد، وجابوا الشهيد، وجر المدفع فدائي، والبروقي، وطل سلاحي، وغلابة يا فتح، وفوق التل، وما بنتحول، ومدي يا ثورتنا، ويا شعب كبرت ثورتي. قام بتأسيس مؤسسة المسرح والفنون الشعبية والفلسطينية في بيروت عام 1975، وبتشكيل فريق فني من أبناء وبنات الشهداء وطاف بهم أرجاء العالم لنشر الحضارة والثقافة الفلسطينية.

كتب لفرقة العاشقين وألّف أغاني مسلسل عز الدين القسام في دمشق. بعد مغادرة الثورة الفلسطينية بيروت قام بتأسيس مسرح الطفل الفلسطيني في القاهرة بدعم من دائرة الثقافة والإعلام، وقدم خلالها: مغناة الإنتفاضة(1) ومغناة الإنتفاضة(2)، ومسرحيتي"حارسة النبع"، و" طاق طاق طاقية"؛ بالإضافة لرفد إذاعة منظمة التحريرالفلسطينية بأغاني تناسب كل مرحلة. كما عمل مديراً عاماً لمسرح الطفل الفلسطيني بمدينة غزه.

وفي فجر الثلاثاء 11 /1/ 2011 فقد الشعب الفلسطيني واحدا من أبرز رواد القلم والسلاح الأوائل في منزله بالقاهرة عن عمر يناهز 76 عاماً، إثر إصابته بنزلة رئوية حادة، وقد ُشيع جثمانه من مسجد رابعة العدوية (بمدينة نصر شرق القاهرة)، ووري الثرى في أرض الكنانة. (3) عن بداياته في كتابات الاناشيد الثورية والتحاقه في صفوف الثورة وعمله في الاذاعة ثم مراسلا عسكريا، وعن اجمل حكايا وظروف ولادة تلك الاناشيد، وعن اجمل واصعب المواقف مع ابو عمار يقول صلاح الدين الحسيني ابو الصادق: التحقت بقوات العاصفة أو الجناح العسكري، كان وقتها هايل عبد الحميد ابو الهول في القاهرة، فقال لي: بدنا للإذاعة أغاني يا أبو الصادق عشان الأناشيد، فبعدها التحقت بالثورة، والإذاعة نفسها (إذاعة فتح) كانت إذاعة العاصفة، صوت فتح صوت الثورة الفلسطينية، وبدأت أنا في أول نشيد "بسم الله، باسم الفتح، باسم الثورة الشعبية" وهو النشيد المشهور والمعروف باسم نشيد العاصفة.

وعن ذكرياته مع نشيد العاصفة "باسم الله باسم الفتح" وظروف تأليفه فيقول صاحبنا: كلفوني أكتب نشيدا علشان افتتاحية إذاعة العاصفة من القاهرة وكمان كلفوا غيري يعني عدة شعراء، أعجبتهم أغنيتي، وجاء أبو هشام سعيد المزين صاحب الاغنية الشهيرة انا يا اخي والتي يقول مطلعها: "أنا يا أخي آمنت بالشعب المضيع والمكبل فحملت رشاشي لتحمل بعدنا الأجيال منجل" ويضيف صلاح الدين الحسيني بقوله: حطيت كل ما أملك من جهد، باسم الله وباسم الفتح وباسم ... (الثورة الشعبية) ابو هشام هو من اضافها لي.. وهنا تدخل ابو هشام واخذ يقول لي: أنت ما خلتش، آه باسم الدم وباسم الجرح اللي بينزف وباسمك باسمك يا فلسطين. يعني فتح وفلسطين والله وحط وكذا.. (الثورة الشعبية) ، وكان هذا النشيد الذي اقول فيه: باسم الله باسم الفتح باسم الثورة الشعبية باسم الدم باسم الجرح اللي بينزف حرية باسمك باسمك يا فلسطين أعلناها للملايين عاصفة... عاصفة الله أكبر اعصفي دمريهم انسفيهم فجري واعلنيها ثورة حرة كل حاجة حطيتها في النشيد هذا ولذلك نجح.. ومن اسباب نجاحه ايضا التلحين،حيث لحنها عبد العظيم محمد وهو من ملحني مصر الكبار.

وعبد العظيم محمد وعلي إسماعيل من ملحني مصر الكبار الذين عملوا معنا ولهم بصمتهم.

وعن الظروف المحيطة بولادة النشيد بالنسبة لاغاني واناشيد الثورة الفلسطينية، هناك حكاية وقصة تستحق ان تروى، وهي غالبا لا تنفصل عن روعة النشيد وظروف ولادته وتكوّن كلماته- يعني أنا بأتذكر مرة -والقول لابو الصادق- في صديق لي كاتب أغنية اسمها "فلتسقط المؤامرة ولتقطع اليد المتاجرة" فقال له مدير الاذاعة فؤاد ياسين، لا، استنى، تعال، بدي أنا أشيل نقطة "فلنسقط المؤامرة ولنقطع اليد المتاجرة".. قال له جملتك اتكالية كثيرا(فلتسقط)، نريدها (فلنسقط) وهي حركية وتمتلك زمام الفعل وتعبر عن مفهوم الثورة اكثر، وكذلك تم الامر مع كلمة (ولتقطع) اليد المتاجرة فأصبحت(لنقطع).

بعدين كتبت "طل سلاحي من جراحي يا ثورتنا" لأني أنا بأكتب رواسب الماضي، يعني أنا بأكتب إشي من الماضي تبعي، من إحساسي، من الجرح اللي كنا نعانيه.

طل هذا السلاح لأني لم آت عشان أقاتل، ولا كنت مجبرا على القتال، لا، الجرح كان يقاتل، فالسلاح طلع من الجرح، لولا هذا الجرح لما قاتلت.. وفي سؤال له عن ظروف ولادة نشيد طل سلاحي يقول ابو الصادق: كان فؤاد ياسين هو مسؤول الإذاعة، وكان وقتها أصدر أبو عمار قرارا بعدم إذاعة أي أغنية فيها كلمة فتح، خالص، لأنه صار عنا الكفاح الموحد الكفاح المسلح، والاعلام الموحد واعلان الوحدة الوطنية، فجائوا ونجح باستفزازي زملائي الذين كانوا في الإذاعة، قالوا لي أبو الصادق خلص بطلت تكتب، بطلت فتح؟

فكان معي الملحن مهدي سردانة، حبسنا حالنا في الأستوديو وكان في بيانو وقعدنا نشتغل. قعدت أكتب وهو يلحن، قعدنا حوالي أربع خمس ساعات لحد ما طلع معي هذا النشيد: طل سلاحي من جراحي يا ثورتنا طل سلاحي ولا يمكن قوة في الدنيا تنزع من إيدي سلاحي طل سلاحي دربي مر، دربك مر ادعس فوق ضلوعي ومر قديش هذا الشعب الثائر قدم، ضحى، تيعيش حر اللي بدمه يجود ما يهمه ولو سال دمه وغطى الأرض طول ما سلاح الثورة في إيدي يبقى وجودي مفروض فرض وطبعا وفي نفس الجلسة ابدع مهدي ابو سردانة هذا اللحن الخالد، مما اضفى لمسة خلود اضافية سمحت لهذا النشيد باضافة سبب اخر لاسباب بقائه وديمومته. (4) وعن كيفية انضمامه للثورة الفلسطينية وانخراطه في صفوف حركة فتح يقول ابو الصادق: في يوم من الأيام قدم الي أخي زين العابدين، وكان يوجد في حينها ندوة في جامعة القاهرة كلية الهندسة ودعاني اليها.. حيث كنت معروفا ككاتب أغنية في صوت فلسطين وفي صوت العرب، وكشاعر بصورة اقل. واخذ أخي يقول لمنظم الحفلة خلي أبو الصادق يقول قصيدة، واخذ بالالحاح عليه. فأجابه منظم الحفلة: طيب بس هو مش محطوط في البرنامج، فقال له اخي: بس أنت حطه وخليه يلقي قصيدة ورح يعجبك، وهذا ما كان. وصعدت الى المسرح وألقيت القصيدة التالية: ما عاد في بلادي شبل إلا وصار والأرض ثورة وعاصفة من نار إصرار يا شعب الفدا إصرار بكير ندى الفجر نواطير إلى آخره، ... وحدث ما لم يكن في الحسبان، فخلال القائي القصيدة وعند منتصفها قُطعت الكهرباء، كان الجميع يتوقع مني ان أقف، بينما استمريت بالقاء القصيدة حتى اخرها ... لقد كان صوتي يملأ القاعة، طلع صوتي أعلى من صوت المايكروفون..

وبادرني الجمهور بالتصفيق الحار، واعطاني التصفيق قوة ثانية، وادى الى أن أنفعل أكثر واكثر، فألقيت القصيدة مرة اخرى بدون كهرباء معتمدا على حنجرتي وقوة صوتي وصراحة قضيتي. وثار الجمهور عن اخره، ووقفوا خمس دقائق يصفقون لي، ولم أشعر في حياتي بمثل هذا الموقف. واخذت الدموع تنزل من عيني، ومن هنا بدأت حكايتي مع حركة فتح والثورة الفلسطينية، فبعد هذا الحفل مباشرة إجاني هايل عبد الحميد وسلم علي، وبعدها بعث لي ناس وقال: بدنا إياك في فتح، عندك مانع تلتحق بفتح؟ التحق صاحبنا صلاح الدين الحسيني أبو الصادق بفتح لتبدأ قصة حب ومسيرة نضال معمدة بالتضحية والفداء ومزينة بالشعر والاناشيد ومرصعة بالكلمة الصادقة الامينة، وأغاني السلاح والفدائي والزمن الجميل، وكلمات كانت وستبقى عنوان وعنفوان امة ومسيرة شعب اعطى وقدم كل شيء من اجل حريته وتحرير وطنه. وسرعان ما تعرف صاحبنا على الرئيس ابو عمار والذي كلفه بالإعلام العسكري، ولم تكن لصاحبنا أي خبرة في هذا المجال. وعن هذه المهمة يقول صاحبنا: كان ابو عمار هو المسؤول الإعلامي العسكري نفسه، هو اللي بيكتب البلاغ وينشره، والمقصود بالإعلام العسكري هو البلاغ العسكري اللي بيجي من المجموعة اللي جاية من غرب النهر إلى شرق النهر، بعد ما تنفذ العملية حيي تعطي تقريرا عن العملية.. وحدث مرة أن قلت لأبي عمار إيش اللي بتكتبه؟ قال لي البلاغ العسكري، بلاغ... ثم امسك بي وقال: تعال وتعلم يا ابو الصادق وخلصني من هالشغلة.. وفعلا تعلمت أن أكتب البلاغ، وقال لي هذا البلاغ مش بس بلاغ، بده ذكاء وبده خبث، بده مكر وبده استغلال الفرص.. واشياء كثير عشان حاجات اكثر، انت فاهمني يا ابو الصادق..؟ واضاف ابو عمار موضحا: مثلا لو صار حريق في مكان في إسرائيل في نفس الوقت اللي ضربنا فيه صواريخ تقول هذا إحنا اللي عملناه، على طول. ومن حينها اصبحت ناطقا عسكريا باسم قوات العاصفة وصرت فيما بعد ناطقا عسكريا باسم قوات الثورة الفلسطينية كلها. (5) وعن حكايته مع ابو عمار واجمل المواقف اختار صاحبنا ان يتحدث عن اكثر المواقف والحوادث التصاقا بالذاكرة، فتحدث صاحبنا عن مواقف بدا وكأنه استدعاها من خبايا الذاكرة التي يهزها الحنين.

* كان الموقف الاول هذا على طرافته قد جرت احداثه في مرحلة احداث ايلول الاسود في الاردن عام 1970: فقد حصل ان كنت اصحح للمقاتلين بعض المواقع القتالية ومرّ علي أبو عمار. حيث وجدني جالسا وممسك بالمنظار المكبر واقوم بتوجيه مقاتل اسمه أشرف وهو المسؤول بدوره عن مدفع الهاون 120، وبأقول له: ع إيدك اليمين شوية، لقدام شوية، لحد ما يصيب الهدف، حيث يبقى يضرب أربع خمس ست قذائف لحد ما يصيب الهدف وكان يصيب الهدف في النهاية بطريقة دقيقة، ومع كثرة التعامل بيننا في هكذا مواقف اصبح يفهم علي سريعا ويستجيب بشكل افضل، وبحيث يتمكن من اصابة الهدف من قذيفتين او ثلاثة... وحصل ان جاء أبو عمار ذات يوم لتفقد الموقع، ووجدني اقوم بتوجيه ضارب المدفع وأقول له : ع إيدك الشمال شوية ع إيدك اليمين شوية، قال لي إيه ده إيه ده يا صلاح؟ إديني المنظار.. واخذ ابو عمار ينظر ويصدر تعليماته للمقاتل المسؤول عن ضرب المدفع، واخذ يوجهه قائلا: أيوه يا أشرف، الزاوية أبصر إيه على أبصر إيه، وسرعة الهواء ابصر ايه وسرعة الهدف اد ايه، فلم يستوعب منه ضارب المدفع اي شيء، واحتار وضرب اخماس في اسداس، وفي النهاية قال ضارب المدفع لابي عمار: اسمع إديني أبو الصادق، مش فاهم عليك! *الموقف الثاني مع ابو عمار: فيضيف صاحبنا؛ كنت قد تعرفت على أبو عمار أول ما رحت لعند أبو ناصر حرب في إذاعة العاصفة، في منطقة كان اسمها التجمع. الى ان وصلت، قالوا لي هذا التجمع، دخلت ولا بالصدفة أبو عمار قاعد تحت التينة وحاطين بيأكلوا.. صلاح الدين الحسيني: آه، تحت التينة آه لأنه هذا إشي واقعي هذا عشته وانحبست في ذلك اليوم ولتلك الحبسة قصة تستحق ان تروى.. قال لي ابو عمار احبس حالك ففعلت..

حيث كنت قد ارتكبت غلطة كده، فجئته وقلت له أنا يا أبو عمار مش راضي عن حالي، انا غلط واعملت كذا كذا.. وكانت الغلطة أنه لما اجت أم الصادق عشان تزورني او تلتحق بي في عمان كانت عروسة جديدة، فرحت جبت مشروب وشربت.... فأنا لما تزوجت أم الصادق قعدت أسبوعا معها وسافرت بعدها الى الأردن. فقلت لأبي عمار والله أنا غلطت، قال لي إيه؟ قلت له الموضوع كذا وكذا، قال لي طيب وأنا مالي؟ أهه السجن موجود مفتوح الباب بتاعه، احبس نفسك شوف قد إيه وأنت حر.. وفعلا رحت حبست نفسي! *الموقف الثالث مع ابو عمار يعود الى بداية تعرفي عليه: وفي التفاصيل، جئت لقيته تحت التينة هو وأبو جهاد وأبو صبري، وقاعدين بيأكلوا حاطين معلبات فاصولياء، والله بأتذكر.. معلبات وجنبه -بأتذكر- كيس بندورة وشوال بصل ومطرة ماء او ما نسميه زمزمية، قدمت اليهم، رحبوا بي قائلين: تفضل كل معنا، وطلب ابو عمار مني التعريف بنفسي وسألني: من حضرتك؟ قلت له صلاح الحسيني، جاي من إذاعة العاصفة، قال لي تفضل اقعد، قعدنا، قال كُل يا الله، وكيف ما أكلش أنا، لاحظ أبو عمار ذلك، راح مدلي بصلة قال لي ما اديتهاش لأي حد دي، ده إكرام الضيف ... فأنا بديت اكل، وبعدين أخذت جبنة وحبة بندورة، ورحت ماسك البندورة عشان اكلها، قال لي اغسلها ما جنبك المياه(المي)، قلت له يا راجل فدائية، قال لي يعني فدائية يتسمموا يا صلاح! وبدأ ابو عمار بالقول: انت جاي تزاود علينا من أولها! ومع هذه الحادثة بدأت الصداقة. *الموقف الرابع مع ابو عمار له ظروفه الخاصة فحصل مرة ان وجدته بيكتب بلاغا عسكريا فقال لي تعال تعال أعلمك تعال، خلصني من الحكاية دي، وعَلَّمني كيف أكتب البلاغ العسكري. وصرت ناطقا عسكريا. *الموقف الخامس: حدث ان عاد ابو الصادق إلى غزة ليستقر فيها مع قوافل العائدين اثر اتفاق اوسلو، لكنه عاد وهجرها لأن حرية الثائر كادت تختنق من الوضع العام. ويروي ابو الصادق حوارا دارت تفاصيله مع ابو عمار يلخص مضمونه حكاية الثورة وما الت اليه الامور؛ فبينما ابو الصادق يتجول بأسى وبخطى مثقلة في حديقة مقابلة لمكان اقامة ابو عمار في غزة، شاهده ابو عمار، وتوجه اليه، وبعد ان تعانقا وكانت البهجة والفرح بادية على محيا ابو عمار دون صاحبنا، هزه ابو عمار قائلا: ايه يابو الصادق، انت مش حتكتبلنا غنوة، او اي حاجة عن العودة والوطن ، احنا حلمنا اللي قاتلنا لاجله بدأ يتحقق يا ابو الصادق، ايه ، فش حاجة طلعت معاك، بص يا ابو الصادق ،احنا بقينا فين، احنا في غزة العزة، احنا قدام البحر اللي غنيتله، احنا فوق الارض اللي حبيناها وعشنا وضحينا عشنها، ايه يا بو الصادق، مالك انعقد لسانك... عاوزني اقول ايه يا ابو عمار. الله، هو انا اللي حقلك تقول ايه، اهي البلد قدامك بطول وعرض، واهو البحر وادي الناس والشوارع، ودا الشجر والسوافي ودا المدى ودي السما، واحنا تحتها يا ابو الصادق وفوق ارض فلسطين.. اقلك حاجة ، اكتبلك غنوة عن السلام.. الله عاوز ايه يا اخ ابو عمار، بتقول ايه سيادتك، عاوزني انا اكتب عن السلام، هوا فين السلام دا عشان اكتب عنه. انا اللي كنت اكتب من قلبي واغني من دمي: طل سلاحي من جراحي يا ثورتنا طل سلاحي، وانا اللي كنت بقول دربي مر ودربك مر ادعس فوق ضلوعي ومر، وانا اللي كنت بقول سنو عظامي سنوها ...اكتب وقول ايه عن هالحال يا ابو عمار...سلام ايه وبتاع ايه، هم اليهود دول بتوع سلام، ولو كتبت عن السلام حقول ايه. طب لو كتبت، حودي وشي فين من عيون الشهدا...