الخميس 18/9/1445 هـ الموافق 28/03/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
التَّفكير النَّاقد وأشهر عُلماء المُسلمين.....عطاف منَّاع صغيَّر
التَّفكير النَّاقد وأشهر عُلماء المُسلمين.....عطاف منَّاع صغيَّر

يُعتبر مَوضوع التَّفكير النَّاقد وليدًا للعصر الحديث كما أنه يُعتبر موضوعًا مثيرًا للجدل، تدورُ حوله نقاشات عديدة . لقد مرَّ تطور التفكير النَّاقد  في مراحل تاريخية أسهمت في انتشاره في القرن العشرين بشكل واضح . فالجذور الفكرية له قديمة ، فهي تستند  على رؤية سقراط منذ 2500 عام ، لقد وضع سقراط الحقيقة ، "أنه لا يمكن للمرء أن يعتمدَ على من هم في "السلطة" للحصول على المعرفة السليمة والبصيرة"(باول والدر ،2006). كما أشار سقراط إلى  أن الأشخاص قد يكون لديهم قوة ومكانة عالية ومع ذلك يكونون مرتبكين وغير عقلانيين. لقد أثبت سقراط  أهمية طرح الأسئلة العميقة لنبحثَ بعمقٍ في التَّفكير  قبل أن تٌقبل نتائجهُ كأفكار،  وفي أسلوبه في الاسْتجواب ، سلط  سقراط الضُّوءَ على الحاجةِ في التَّفكير الواضح الذي يتسقُ ويتميزُ  بالمنطق، فأثبت  أهمية البحث عن أدلةٍ  وفحص الاسْتدلال والافتراضات عن كثب ، فأشار إلى أهمية تَحليل المفاهيم الأساسية ، وتَتبع الآثار ليس فقط لما يُقال ولكن لما تم فعْله أي تتبع مرحلة التَّفكير ومعرفة حيثياتها.

 تُعرَف طريقة  سقراط في طرح الأسئلة الآن باسم "التساؤل السُّقراطي" وهي أشهر اسْتراتيجية تدريس للتفكير النَّاقد(كراوت ،2018)                                                                                       

 وضعَ سُقراط أجندة لتقليد وممارسة التَّفكير النَّاقد  كالتشكيك في المُعتقدات والتَّفسيرات الشَّائعة بشكل انْعكاسي ، والتَّمييز بعناية بين تلك المُعتقدات المعقولة والمنطقية من تلك التي  تَفتقر إلى الأدلة الكافية أو الأساس العقلاني لتبرير اعتقاد الفرد. 

في أعقاب سُقراط  كان افلاطون تلميذه الذي دوَّنَ أفكارَه وتبِعه في مُمارسة التَّفكير النَّاقد ثمَّ تبعه أرسطو والمُشككون اليونان . لقد  أكدَّ هؤلاء  جميعًا، على "أن الأشياء غالبًا ما تكون مُختلفة تمامًا عما تبدو عليه "، لذلك فهناك حاجة  لتدريب العقل من أجل فهم الحقائق   بصورة أعمق وليس بصورة ظاهرية. من هذا النَّهج العلمي اليوناني ظَهرت الحاجة  لإعدادِ المُفكر النَّاقد ، الذي  يَطمح إلى فهم الحقائق الأعمق ، والتَّفكير المُمنهج ، وتَتبِع مراحل التَّفكير والوصول للإجابة  واسْتعمال  التَّفكير الشَّامل ، والمنطق الجيد  القادر على رد الفعل وفهم  ما وراء الظاهر المُضلل للأُمور(  بارنيت،1997). 

 إسْهامات علماء المُسلمين  في تَطوير نَهج التَّفكير النَّاقد

لقد  أسهمَ علماءُ المُسلمين بشكل ٍ  عام في وضعِ اللبنات الأولى للتَّطور العلمي الحديث، أهم هؤلاء العلماء:

 الخوارزمي –

 لُقب الخوارزمي(164 هـ 236 \ 781 -847 م) بأستاذ الغرب في الرِّياضيات  وهو أحد‏ ‏أعظم‏ ‏الرِّياضيين‏ ‏في‏ ‏كل‏ ‏العصور. لقد أطلق‏ ‏جورج‏ ‏سارتون (1884م-1956م)  ‏في‏ ‏كتابه‏ "‏مقدمة‏ ‏في‏ ‏تاريخ‏ ‏العلوم"،‏ على‏النِّصف‏ ‏الأول‏ ‏من‏ ‏القرن‏ ‏التاسع‏ ‏الميلادي‏ "عصر الخوارزمي" . يُجمع‏ ‏مؤرخو‏ ‏العلم‏ ‏وعلماء‏ ‏الرِّياضيات‏ ‏في‏ ‏العالم‏ ‏على ‏أن‏ ‏الخوارزمي‏ ‏هو‏ ‏مُؤسس‏ الجبر ،  وهو algebra ‏كعلم‏ ‏مستقل‏ ‏عن‏ ‏الحساب، ‏وهو الذي ‏ ‏أطلْقَ‏ ‏على ‏ ‏هذا‏ ‏العِلم  الإسم‏ ‏الذي‏ ‏يُعَرفُ‏ ‏به‏ ‏في‏ ‏جميع‏ ‏اللغات‏ ‏تقريباً‏. ‏ومن‏ ‏المَعروف‏ ‏أن‏ ‏ هذا‏ ‏العلم‏ ‏ أحدثَ‏ ثورةً‏ ‏كبيرة‏ ‏في‏ العلوم ‏كافة‏، فأدى  الى               قيام ‏الثورة‏ ‏التكنولوجية‏ ‏في‏ ‏الحاسبات‏ ‏الإلكترونية‏ ‏في‏ ‏العصر‏ ‏الحديث، ‏ويُعرف‏ ‏بالخوارزمية‏ (الرقمية‏).‏  نُقل‏ ‏هذا‏ ‏العلم‏ ‏عن‏ ‏الخوارزمي‏ ‏إلى‏ ‏اللاتينية‏ ‏في‏ ‏القرن‏ ‏الثاني‏ ‏عشر‏ ‏الميلادي، ‏ثم‏ ‏انتشر‏ ‏ ‏في‏

. ‏أنحاء‏ ‏العالم  

كما ابْتكر‏الخوارزمي ‏علم‏ ‏حساب‏ ‏اللوغاريتمات‏، ‏وهو‏ ‏مُصطلح‏ ‏محرف‏ ‏لإسم‏ ‏الخوارزمي، ويقوم على تحويل‏ ‏عمليات‏ ‏الضَّرب‏ ‏إلى ‏جمع،‏ ‏و‏القسمة‏ ‏إلى ‏طرح .وضع‏ ‏الخوارزمي أُسس‏ ‏البحث‏ ‏العلمي‏ ‏التَّجريبي‏ ‏الحديث، ‏وذلك‏ ‏باسْتخدام‏ ‏النَّماذج‏ ‏الرياضية‏.‏ 

 كما الف  كتاب  "الجبر‏ ‏والمقابلة"، ‏  وهو‏ ‏أعظم‏ ‏كُتبه ‏انتشاراً‏ ‏في‏ ‏الغرب، ‏وقد ‏تأثر‏ ‏بهذا  ‏الكتاب‏ ‏كثيرٌ‏ ‏من‏ ‏المُتعلمين‏ ‏والعلماء،

 ‏سواء‏ ‏من‏ ‏المُسلمين‏ ‏أو‏ ‏من‏ ‏غيرهم، ‏ويُذكر‏ ‏أن‏ ‏العالم‏ ‏ليوناردو‏ ‏البيزي‏(الموسوعة العربية ،1996) ‏كان‏ ‏أشد‏ ‏الغربيين    

 ‏تأثراً‏ ‏به، ‏ منذ‏ ‏أن‏ ‏كان‏ ‏مع‏ ‏أبيه‏ ‏في‏ ‏الجزائر، ‏ولما‏ عاد‏ ‏إلى ‏أوروبا ‏نشره‏ على ‏نطاق‏ ‏واسع‏،‏‏ وظل‏ ‏هذا‏ ‏الكتاب‏ ‏يُدرَّس‏ ‏في‏ ‏الجامعات‏ ‏الأوروبية‏ ‏حتي‏ ‏القرن‏ ‏السَّادس‏ ‏عشر‏ ‏الميلادي

‏  كما  ألّف‏ كتاباً‏ ‏في‏ ‏علم‏ ‏الحساب‏ ‏لم‏ ‏يسبقه‏ ‏أحد‏ ‏في‏ ‏العالم‏ ‏إليه، ‏وأدخل نظام الأرقام العربية إلى العالم الغربي، وهذا النظام مُتطابق مع النِّظام  المُستخدم في الوقت الحالي.

كذلك  ‏ألف‏ ‏الخوارزمي‏ ‏في‏ ‏الفلك‏ ‏كُتباً ‏عن ‏علم‏ ‏النُّجوم، و‏العمل‏ ‏بالإسطرلاب و‏جدول‏ ‏النجوم‏ ‏وحركاتها، و‏كتاب‏ ‏"الرَّخامة"، ‏لمعرفة‏ ‏الوقت‏ ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏الشَّمس ‏وقد تُرجمت‏ ‏هذه‏   الكتب ‏إلى ‏اللاتينية‏ ‏في‏ ‏القرن‏ ‏الثَّاني‏ ‏عشر‏ ‏الميلادي، ‏خصوصا‏ ‏الأجزاء‏ ‏الخاصة‏ ‏بالجيوب‏ ‏والظلال‏ ‏الفلكية، ‏وظلت‏ ‏قروناً‏‏  تُشكل ‏أساسًا‏ ‏لعلم‏ ‏الفلك‏ ‏في‏ ‏أوروبا. أنَّ هذه المؤلفات تَشهد على المنطق ،الإبداع والقدرة على التَّفكير المُمنهج النَّاقد (انيس ،2011:باول،1993 : فاسيون،1990) الذي تميزَ  به الخوارزمي. 

‏ ابن رشد

  لُقب  الفيلسوف العربي، الأندلسي  القرطبي ابن رشد( 520 هـ- 595 هـ) بفيلسوف "الشَّرق والغرب"، لما انتجه من تفكير فلسفي في مؤلفاته ،المختصرات ،الشروح الصغرى ،الشروح الوسطى والكتابين  ،مناهج الأدلة وتهافت التهافت (فكري ،1983).

من خلال دراسة هذا الأنتاج الرُّشدي نستنتج ان هذا الإنتاج الفلسفي  مرَّ  في مراحل متعددة ، الأولى، مرحلة تأسيس الوعي والإدراك  وتنعكس في  المُختصرات الأولى لبعض كُتب المفكرين السّابقين ، الثانية "مرحلة تطور الوعي الفلسفي وتَنعكس في إعادة قراءة وشرح التُّراث الأرسطي وتحتوي على "الشُّروح الصغرى"  و" التلخيصات"،  الثالثة،هي  "الشُّروح الوسطى"، وهي عبارة عن  نقد ،إعادة ،قراءة وشرح التُّراث الإسلامي، تنعكس هذه   المرحلة في المؤلفات الأصيلة في كتاب "فصل المقال" والرَّابعة ،هي مرحلة اكتمال الوعي الفلسفي وبلوغه قمة النُّضج في العلم والفلسفة، وتُعتبر مرحلة الشُّروح الكبرى والمقالات الإسْتدراكية التي تَحمل تأويلات وتفسيرات  جديدة لمواقف قديمة إنعكاساً لعمليات التفكير النَّاقد وتنعكس هذه المرحلة في  المؤلفَين " مناهج الأدلة.. وتهافت التَّهافت.وهذه الاعمال لإبن رشد أسْهمت في تَطور التَّفكير النَّاقد وسُميت طريقتُه بالطريقة الرُشدية  وتعتمد على البرهان والحجة (باول والدر ،2001).

الإمام ابن تيمية 

تَميز مَنهج ابن تيمية الحارني  الدمشقي (661هـ - 728هـ / 1263م - 1328م) في إصدار الأحكام النَّقدية الذي  قام على قاعدة وأسس تشكلت لديه من خلالها معايير وأسس لمُمارسة التفكير الناَّقد للقيام بعملية الإصلاح، وتمثلت تلك القاعدة في اعتماد العلم والعدل في نقد الآخرين والحكم عليهم.. 

    إتصفَ ابن تيمية بالإخلاص والتأني في إصدار الأحكام، بواسطة التَّمييز بين الرأي والحقيقة والإهتمام  بالأدلة والبراهين ومحاولة الوصول إلى الحقيقة بطرق صَحيحة، تعريف المُشكلة بوضوح، والموضوعية والبُعد عن العوامل الذاتية، والفصل بين الحكم على الأفكار وبين الحكم على الأشْخاص، والانْفتاح على أفكار الآخرين وتقبل ما كان صائبا موافقا للحق ، وإهتمامه  بالمصادر، والحرص على تأليف القلوب واجتماع الكلمة والإصلاح ومراعاة شروط وآداب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ومراعاة الأولويات. وهذه الصفات تَعكس نموذج الشَّخصية المفكرة النَّاقدة لإبن تيمية (فاسيون،2013). 

إهتم ابن تيميه بتاريخ الأفكار والمذاهب، وذكر حيثيات نشأتها وتطوراتها وصيرورتها، وقام بالمقارنة  بين هذه  المذاهب والفِرَق . أمتاز ابن تيمية ، في عرضه لآراء المذاهب والفرق، بقدرته على تركيب وتفكيك وجهات النَّظر المُختلفة في  الرأي والمنهجية،مما يدل على ذكاءاته المتعدده (جاردنر ،2004)  قارن بينها وأشار الى الإختلاف والتَّشابه بين هذه المناهج  وخصوصًا التي تَخُص الفلاسفةَ المتكلمين وأهل الحديث اي الحنابلة .

في كتابه" الرد على المنطقيين"، قام  إبن تيمية بنقض المَنطق اليوناني الذي انْفردَ بالقضايا العقلية التي استعملتها التيارات  الإسلامية من فقهاء ،متصوفة ومتكلمين( البزار ،1976). 

نستطيع أن نلخص ، بانَّ هذا العمل وهذا المنهج لابن تيمية يُؤكد إرساء التَّفكير العلمي والتفكير النَّاقد و يشكلُ  قاعدةً لتَّطوير نَهج التَّفكير النَّاقد. ويَعكس هذا العمل قدرةَ وتمتع إبن تيمية  بمنهجيةٍ علميةٍ غايةً في الدِّقة والموضوعيةِ في تعامله وإصداره الأحكام النَّقدية على قضايا وشخصيات عصره الذي تميز بالمتناقضات والفِتن.

ابن سينا ( 370هـ  27 4 هـ \  980- 1037م)

هو،العالم والفيلسوف الذي اشتهر بالطب( النجار ،1994)يَنتمي إبن سينا. للمُعتزلة وهم أصحاب المنهج العلمي والمنهج العقلي في الاسلام وهذا المنهج "المُعتزلي"  الذي يُؤمن بالسَّببية أي ارتباط النّتائج بالأسباب، يعكس  المنهج العلمي. لقد  ساعد  هذا المذهب في ظهور  فلاسفة الاسلام وعلمائِه أمثال إبن سينا والرَّازي والفارابي   يَعتقد ابن سينا أنّ هناك حقائق يمكن للمرء الوصول إليها باستخدام العقل. من هذه الفكرة ، حاول أن يبدأ في بناء طريقة تفكير تَعتمد فقط على ما لديه من  أدلة مَنطقية ، ويَستبعد كل شيء لا يعتمد  على الحجة والبرهان والقياس  ، وهو الأمر الذي حاول ان يعمل به  بعد قرون الفيلسوف الفرنسي الشهير رينيه ديكارت(1596-1650)  الذي يُعتبر "أبو الفلسفة الحديثة" (الذهبي ،2011) وبهذا أسهم ابن سينا في تَطور الإنْفتاح  العقلي و الحرية الفكرية التي سَبقت عصر النَّهضة في اوروبا.

   إجمال :

أسهمَ علماءُ المُسلمين بشكل ٍ  عام في وضعِ اللبنات الأولى للتَّطور العلمي الحديث بينما كانت اوروبا غارقةً في الظلام ،الجهل ،التَّخلف والخرافات الشَّعبية. لقد شهدت القرون الوسطى  في بلاد الإسلام تقدماً مُميزًا في كلِّ العلوم والمجالات، ومهدَ هذا التقَّدم الطريق أمام العلماء للبحث والمعرفة ووضعِ أُسس المَنهج العلمي الذي يَعتمد على التَّجربة ،المُشاهدة ،الاسْتنتاج والتفكير الناقد. 

 

المراجع العربية  

البزار ،ح. (1976)الأ العلية في مناقب شيخ  الإسلام إبن تيمية ،دار الكتاب الجديد ،بيروت 

الذهبي،(2011) سير اعلام النبلاء، مادة ابن سينا، دار الكتب، بيروت

الموسوعة العربية العالمية (1996)موسسة أعمال ،المؤسسة للنشر والتوزيع السعودية   \\https://ar.wikipedia.org/wiki/   

النجار ،ع(1994) الطب في تاريخ الدولة الإسلامية ،دار المعارف ،مصر

فكري ،أ،(1983)قرطبة في العصر الإسلامي تاريخ وحضارة ،مؤسسة شباب الجامعة.

هاورد ،ج (2004) أطر الفكر \نظرية الذكاءات المتعددة  مكتب التربية العربي لدول الخليج. 

 

الإنجليزية

Barnett, R. (1997). Higher education: A critical business. Buckingham, UK: Open University Press. Barnett, R. (2004). Learning for an unknown future. Higher Education Research and Development,23 (3), 247–260.

Facione. P. A (2013) Critical Thinking: What It Is and Why It Counts.  https://www.researchgate.net/publication/251303244

Kraut, R (2018), "Socrates"، www.britannica.com.

Paul, R., & Elder, L. (2001). Critical thinking: Tools for taking charge of your learning

Paul, R. (1993) Critical Thinking: What every person needs to survive in a rapidly changing world. Santa Rosa, CA: Foundation for Critical Thinking