الجمعة 10/10/1445 هـ الموافق 19/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
التأقلم والتكيف في حياة الفلسطيني... بقلم منال طه
التأقلم والتكيف في حياة الفلسطيني... بقلم منال طه

نسمع كثيراً بمصطلحي "التأقلم" و"التكيف" هذه الأيام، فقد بدأت تظهر منذ حين، الآثار المناخية وتتفاقم نتيجة تأثيراتنا التطويرية غير المخططة، وشغفنا المستمر بإغلاق مسامات الأرض، بما يمنعها من التنفس ومن أن تشرب حصتها من المياه، حتى وصلنا مرحلة فقد الأرواح نتيجة الفيضانات، ولا توجد لدينا إحصاءات لمدى تأثير الجفاف وارتفاع درجات الحرارة على صحة الفلسطيني، ولم ندرك الحاجة إلى العمل كي نقلل من احتمالية وقوع ضحايا.

 

استطاع أجدادنا التأقلم، وتحمل كل هذا ضمن قدرتهم، وذلك بالتخطيط السنوي لحياة الشتاء القاسية، ونشاطاته المخففة، وأطعمته المحفوظة، وحتى سماكة جدران المنازل، وتخزين الأغصان المقلمة والجفت وغيرها من ما أعطتهم الطبيعة دون طمع. دون ذكر تحولات الصيف القاسية أيضاً؛ ولن أتطرق إلى تراثنا وسلوك الزراعة ومواقيتها، وأنواعها وطرائقها، وإنتاجيتها، وحتى التعامل مع الخسارات الاقتصادية الفردية والجمعية، وهذا كله بالتعاضد، وتوافقية الأدوار الجندرية "حسب تفاهماتهم" وليس حسب فهمنا للصورة كقادمين من خارج زمانهم.

 

من ناحية أخرى، نجح أجدادنا أيضاً، آباؤنا ونحن، بالتأقلم مع متغيرات متسارعة وقاسية، فقد تأقلمنا مع أصوات الرصاص والتفجيرات، والقتل اليومي، والضغط النفسي للتأخر على الحواجز، والمرور عبر الممرات إلى العالم الخارجي، والطبقية والإقطاعية المعاصرة. ولم يعد المشهد اليومي للاحتلال مقلقاً إلا لصحتنا النفسية، وبدأنا بالابتعاد والنأي بأنفسنا عن مصادر القلق، بنينا فقاعات لا نخرج منها إلا لثوانٍ معدودة، نهرول بعدها عائدين، لا نسعى إلى حقوقنا وتبيان الحقيقة، أكثر من ظهور مجتمعي وأحاديث جاذبة فقط! لا نطلق الأحكام على الغير دوننا، فكلنا نهرب إلى الأوهام.

 

وذلك كله ليس صنيع ذواتنا، فنحن لم نقرّ حتى الآن بأننا تعرضنا إلى حربٍ شُنت على كل ما كان من فلسطيننا الحقة، كسرت تعاضدنا، كسرت إيماننا، وكسرت إلى حد كبير ما نسميه الوطن. كل هذا وضعنا في خانة التأقلم والتكيف مع آثار "الاحتلالات" المتعاقبة، المستمر منها والمتفاقم.

 

ولا نسعى هنا إلى تغيير حقيقي للواقع، ونلبس أنفسنا تفاعلات لا تتجاوز حدود هالاتنا الاجتماعية، يُقضى عليها بتسارع الأحداث، وتسارع تفاعلانا واستنزاف طاقاتنا، وانجذاباتنا إلى الأحداث الخالقة لوهم الأمل بالصحوة، والتي لم تسمح "الاحتلالات" بنضجوها بدواخلنا، فقتلت ما قتلت من أمل بحروبها المتعاظمة على أفراد نجوا بعقولهم من التأقلم وعادوا ليبحثوا عن النور.

 

ومشابهاً لهذا كله الاكتفاء بشعور النشوة، بالتفاعل المتأمل، البعيد الصوري الافتراضي، لأحداث ذكرتنا بجمعنا العربي، قابلها الفلسطيني بالإحتفاء بالجمع، والحزن تعاضداً مع حصادات جاذبة لوهم الأمل. فكما كل تفاعل ذُكِر أعلاه؛ لا يرسخ ولا يستمر ولا يمتد أطول من ذاكرتنا قصيرة الأمد. المقصود هنا تأقلمنا مع اندثار الشعور بالفعل المستمر، وتبنينا تكرار النشوة، ولنفس التفاعلات اللحظية أكانت إنسانية أم وطنية محلية أو إقليمية.

 

وعلينا أن ندرك أيضا استخدام "الاحتلالات" لأدوات التأقلم والتكيف مع فكرة وديمومة الاحتلال. هي ذاتها الإجراءات التي نفضل أن تسقط علينا كمخففات وأدوات تأقلم مع التأثيرات المناخية، مصحوبة بالدعم الخارجي. ذاتها الأدوات لضمان استمرارية الاحتلال، وتلميع استغلاله لأدوات التكيف والتأقلم للتغيرات المناخية الواقعة علينا، لمواصلة الصمت على سوء الاحتلال كمحتل. مضاف إليها الصورة النمطية بسوء تعاملنا مع الفهم والتأقلم، وسوء استغلال "محتلنا الداخلي" لأدوات صراع الديمومة والتخفيف، وأبسط مثال لهذا الربط منع "المحتل" لنا من الوصول واستغلال مواردنا الطبيعية، من أجل حمايتها وديمومتها من ذوات "محتلنا الداخلي" ، التي أعلنت للعموم نهجها بالإسراف والفساد، ومقابلها قيام الدعم الخارجي بتمويل الفتات لإجراءات بديلة لا ترقى إلى حد توفير الحد الأدنى من المعرفة الصحيحة.

 

ولنا أن نُرسي أن هذا الفشل باستمرار الأمل ليس نابعاً من ذواتنا، ولنا أن نرسي أن عدم قدرتنا على الصحو وتغير الرواية ليس أمراً نابعا من ذواتنا. إنما هو قيد "المحتل"، وقيد التوقف عن المحاولة والثبات الذي زرعه المحتل الدارس جيداً لذواتنا، والمحتل الداخلي فينا الذي نسخ التجربة، "الاحتلالين" أدركا كينونتا الفكرية الاجتماعية وارتباطنا مع الأرض والإنسان وعملا على تدميرهما، كأداة لتخفيف التكاليف الاقتصادية والاجتماعية وإطالة أمدهما، ليس أكثر.

 

لا حلول، فنحن بحاجة أن ندرس ذواتنا وندرك عمق الضرر، وندرك أيضاً أن الأمل بهذه الأرض لا ينتهي، نواجهه جمعاً وإيماننا إلى طريق واحد، علاج واحد.