الجمعة 11/6/1446 هـ الموافق 13/12/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
القوى التي أوصلت إسرائيل إلى هذه الوحشية ضد الفلسطينيين فقدت الحياء ولا يمكن التفاهم معها
القوى التي أوصلت إسرائيل إلى هذه الوحشية ضد الفلسطينيين فقدت الحياء ولا يمكن التفاهم معها

قالت المعلقة في صحيفة “الغارديان” نسرين مالك إنه وبعد مرور أكثر من عام على حرب إسرائيل في غزة، من الصعب التحدث عن “التصعيد”، لأن عزل لحظات منفردة من التصعيد العسكري، مثل الهجوم الإسرائيلي على إيران يوم السبت، يبدو وكأنه يوحي بأن ما يحدث في غزة أمر طبيعي أو مقبول بخلاف ذلك.

وربما كان بإمكاننا التحدث بدلا من ذلك عن المواجهة، وربما يمكننا التحدث عن كيف واجهت حملة إسرائيل في شمال غزة العالم خلال الأسبوعين الماضيين بما أصبح من الصعب إنكاره على نحو متزايد: التطهير العرقي لسكان غزة. يقتل المدنيون، بمن فيهم الأطفال بطرق لا يمكن أن تشير إلا إلى هجوم عشوائي للقضاء على الفلسطينيين أو تخويفهم حتى ينتقلوا بأعداد كبيرة من مناطق الموت والجوع المتزايدة باستمرار.

وأشارت مالك لما قاله القائم بأعمال رئيس الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة يوم السبت: “إن سكان شمال غزة بالكامل معرضون لخطر الموت”.

وقالت إن المتطرفين الاسرائيليين لديهم الجواب على هذا التساؤل: “ولكن إلى أين سيذهبون؟”، ففي وقت سابق من هذا الشهر، انعقد مؤتمر تحت عنوان “الاستعداد لإعادة استيطان غزة”، حضره مئات الأشخاص وعقد قرب الحدود مع القطاع. وقد اجتمع المشاركون على أصوات المدفعية وإطلاق النار على الطرف الآخر، وبهدف اتخاذ قرار بشأن ما ينبغي لهم أن يفعلوه بغزة ومن سيعيش فيها بمجرد انتهاء الحرب. واقترحت إحدى الشابات: “ينبغي لنا أن نقتلهم جميعا”. وكان وزير الأمن الوطني الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، أكثر عقلانية بعض الشيء، حيث قال: “سنشجع على الهجرة الطوعية لجميع مواطني غزة. وسنقدم لهم الفرصة للانتقال إلى بلدان أخرى لأن هذه الأرض ملك لنا”.

أما كيف يبدو هذا “التشجيع”؟ أجابت مالك، إنه استنادا إلى أحداث العام الماضي، فمن الآمن القول إنه لا ينطوي على المنطق والإقناع. إن التشجيع يبدو في شكل الغارات الجوية “المتواصلة” على شمال غزة، كما وصفت الأمم المتحدة المرحلة الأخيرة من الهجوم. إن إحراق المرضى أحياء في أسرة المستشفيات، كما حدث لشعبان الدلو، الذي كان لا يزال مربوطا بخط وريدي بذراعه، واستهداف الأطفال بمسيرات، ثم “الغارة المزدوجة”، أي إرسال ضربة ثانية لضرب أولئك الذين يتجمعون للمساعدة. وكذا خلق ظروف المجاعة من خلال منع الإمدادات وإصدار الأوامر للفرق الطبية والدفاع المدني بمغادرة مخيم جباليا للاجئين وتصنيف العديد من مراسلي قناة الجزيرة الذين ما زالوا يعملون في المنطقة على أنهم “إرهابيون”.

وأكدت أن هذه استراتيجيات متطرفة ولكنها تتوافق بشكل عام مع النهج الذي يمارس في جميع أنحاء الأراضي المحتلة، والذي يفرض على الفلسطينيين الحركة “الطوعية” من خلال حرق الأرض التي يعيشون عليها.

وأشارت مالك إلى أنها زارت في الفترة الأخيرة العديد من المدن في الضفة الغربية، حيث كان من الواضح إلى أي مدى تم تأمين توسع المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية من خلال عدم إعطاء الفلسطينيين أي خيار سوى الانتقال: استخدام الترهيب وخنق النشاط الاقتصادي من خلال إغلاق مناطق السوق وتزويدها بنقاط التفتيش والجنود والخداع البيروقراطي الذي يسمح بهدم المنازل وإغلاق المتاجر.

وقالت إن مدينة الخليل الفلسطينية تزداد ارتفاعا وكثافة، حيث يقوم الناس ببناء شقق للانتقال من البلدة القديمة التي يتم تقليص عدد سكانها “طوعا”، من خلال إجراءات تجعل المنطقة غير صالحة للسكن. ويجد الفلسطينيون الذين بقوا في المدينة أنفسهم محاصرين في مواجهات مع المستوطنين والجنود، ثم يتم وصفهم بأنهم خطر أمني ويتم قتلهم لتحديهم الخطة.

واستدركت مالك قائلة إن هذا الأمر يتكرر بقوة في غزة. ففي مقابلة إذاعية في أيلول/ سبتمبر، قال البروفيسور عوزي رابي، رئيس مركز موشيه ديان في جامعة تل أبيب، إنه يأمل في إبعاد “جميع السكان المدنيين من الشمال، وإدانة من يبقون هناك قانونيا باعتبارهم إرهابيين وإخضاعهم لعملية تجويع أو إبادة”.

وهذا يتفق مع ما يسمى بـ”خطة الجنرالات”، وهي خطة اقترحها عدد من الجنرالات المتقاعدين إلى الحكومة الإسرائيلية في أوائل تشرين الأول/ أكتوبر، تدعو إلى منح الفلسطينيين بضعة أيام لمغادرة شمال غزة، ثم إعلانها منطقة عسكرية وقتل وتجويع من يبقون. 

وقالت إن هذه المرحلة الجديدة الصارخة، وحتى الاحتفالية [إسرائيليا]، من الحرب تعطي حسا بالخدر والشلل، فهي مذهلة في قسوتها التي لا يمكن تصورها، ولكن يجب على بقية العالم أن يبتلعها كل صباح. إن كل الانتصارات الخطابية والقانونية التي تحققت خلال العام الماضي، وكل الاحتجاجات والصراخ والإدانات من جانب المنظمات الدولية، لا قيمة لها إذا كان كل ما انتهينا إليه هو مكان يحمل فيه الأطفال الفلسطينيون الآن إخوتهم الجرحى لساعات. ومع ذلك، لا يمكن، ولا يراد، إيقاف ذلك.

وأضافت أن ما تواجه إسرائيل به العالم الآن هو ليس معرفة أن النظام معطل، بل إنه يعمل بالضبط كما تم تصميمه. وهذا التصميم هو الذي تكون فيه الحسابات الأنانية للقوى الإمبريالية وحلفائها هي كل ما يهم. إن الفلسطينيين يجلسون ليس في مرمى نيران إسرائيل فحسب، بل وأيضا الأنظمة العربية التي استقرت بفضل قربها من الولايات المتحدة التي تطالبها بالخضوع عندما يتعلق الأمر بأفعال إسرائيل. وفي مرمى نيران صناعة الأسلحة المربحة للغاية بحيث لا يمكن تقليصها. وفي مرمى نيران نظام تديره الولايات المتحدة والذي قايض حياة الفلسطينيين من أجل رعاية قوة مهيمنة في المنطقة من شأنها أن تحد من قوة إيران. وفي مرمى نيران حكومات غربية ترفض الحد من تصرفات إسرائيل بشكل هادف بينما توبخ المواطنين الذين يهددون بالتصويت لأحزاب أخرى. 

وكمثال على ذلك، أشارت الكاتبة إلى ما قالته كامالا هاريس، الأسبوع الماضي، عندما سئلت عن الناخبين الذين قد يختارون طرفا ثالثا لتسجيل غضبهم من سياسة الإدارة تجاه غزة: “أعلم أيضا أن العديد من الأشخاص الذين يهتمون بهذه القضية يهتمون بخفض أسعار المواد الغذائية، كما يهتمون بديمقراطيتنا”. وتعلق مالك “هل يريد الناخب بطنا أكثر امتلاء أم يريد وقف الإبادة ضد الفلسطينيين؟ يا له من خيار”.

وقالت الكاتبة: “لقد عدنا في التاريخ، إلى كون القوة فقط هي المصيبة وتحولت أصواتنا الانتخابية وأصواتنا إلى غبار. إذا لم تحرك أجساد الأطفال المشوهة شعرة لدى هاريس، فما الفرق إذا صوت المرء لها أم لا، هذا إذا صوت على الإطلاق؟ كيف يمكن للمرء أن يبرر المحو المتكشف لشعب على مرأى من الجميع، وإيجاد طريقة ما لدمجه في منطق سياسي حيث معاناتهم في ظل إدارة ديمقراطية أخرى لا تزال أقل الشرين؟ كيف تضع مسافة كافية بينك وبين الفلسطينيين في غزة دون قبول أن بعض إنسانيتك تموت مع ذلك؟”.

وقالت مالك إن “كانت المرحلة الأخيرة من الحزن هي القبول، وأنه لا يمكننا قبول إلا ما قد مضى وانتهى. أما في غزة، حيث الموت مستمر والدمار لا هوادة فيه والنوايا واضحة لا يمكن القبول بما يجري ـ بل فقط القطيعة والانسحاب.. ولا يمكن التعايش مع ما يحدث. ومع وصول إسرائيل إلى قمة أخرى من الوحشية، يصبح من الواضح بلا شك أن القوى التي سمحت لكل شيء بالوصول إلى هذا الحد لا يمكن التفاهم معها ولا يمكن ان تجعلها تخجل، بل لا يمكن إلا التمرد عليها”.