الخميس 13/10/1444 هـ الموافق 04/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
مركز الدراسات العالمية يصدر تقريرا جديدا يستعرض أسباب الأزمة المالية للسلطة وحلولها المطروحة

رام الله-الوسط اليوم

أصدر مركز الدراسات العالمية تقريرا جديدا بعنوان "الأزمة المالية للسلطة: اتفاقيات مجحفة.. إدارة خاطئة.. وحلول غائبة" استعرض فيه أسباب الأزمة المالية التي تعصف بالسلطة الفلسطينية وآليات الحلول المطروحة لها بعيدا عن المسكنات الآنية.

فشل مالي

وأشار التقرير إلى أن الأزمة المالية التي عصفت بالسلطة خلال الفترة الأخيرة شكلت جرس إنذار بالغ الخطورة وضع كيان السلطة ومستقبلها على المحك، وزج بها في دوامة لا حصر لها من الإشكاليات والتجاذبات الداخلية في ضوء بلوغها حافة الإفلاس التام.
ولفت التقرير إلى أن الأرقام والإحصائيات التي تعرضها السلطة حول أزمتها المالية تحمل تجليات فشلها التام على الصعيد المالي، وعدم استعدادها لتحمل مسئولية الأخطاء التاريخية التي اقترفتها بعيدا عن البعد الوطني واستشارة القوى والمرجعيات الوطنية والمؤسساتية الفاعلة لدى الشعب الفلسطيني.
                                      خطيئة سياسية ووطنية

وأكد التقرير أن التوقيع على بروتوكول باريس الاقتصادي شكل خطيئة سياسية ووطنية بكل معنى الكلمة تركت أسوأ الآثار والانعكاسات على الاقتصاد الفلسطيني الناشئ وعلى مجمل الحياة الوطنية الفلسطينية، مشيرا إلى أن هذه الاتفاقية ألحقت الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي، وجعلته رهينة المشيئة والقرار الإسرائيلي، وحرمت السلطة الفلسطينية من حق إنفاذ المعاملات الجمركية الخاصة بالبضائع الواردة إلى أراضيها، ومنحته طوعا للاحتلال الإسرائيلي.
ولفت إلى إن السلطة الفلسطينية كانت حتى وقت قريب غارقة في بحر العسل ولم تكتشف الآثار الكارثية والنتائج المدمرة لبروتوكول باريس الاقتصادي إلا منذ فترة زمنية قريبة حين تكالبت عليها الأزمات المالية والاقتصادية، ووضعتها أمام أسوأ الخيارات التي لم تشهد السلطة لها نظيرا منذ لحظة النشأة والتأسيس وحتى اليوم.
                                             الارتهان للدول المانحة

وأوضح التقرير أن السلطة تجاهلت أو تغافلت عن حقيقة الدور السياسي الذي تلعبه الدول المانحة إزاء الوضع الفلسطيني والقضية الفلسطينية، كما تغافلت عن الأجندة الخاصة المرتبطة بالمال الذي تقدمه الدول المانحة، وحقيقة كونه مالا سياسيا مسموما يهدف إلى تحقيق أغراض محددة وأهداف خاصة على الساحة الفلسطينية.

وذكر أن علاقة السلطة بالدول المانحة حكمتها سيماء الاستجداء المذل على العموم، إذ لم تحاول السلطة رفع رأسها يوما في وجه الدول المانحة واشتراطاتها وأجنداتها المختلفة، ولم تفكر في ترسيم علاقة قائمة على الندية مع المانحين انطلاقا من حاجة الدول المانحة للسلطة وإدراكهم لأهمية وحساسية دورها الوظيفي في حماية الأمن الإسرائيلي.
                                               إدارة مالية خاطئة

واستعرض التقرير أبرز مظاهر الإهدار المالي الذي ولغت فيه السلطة من حيث انعدام الرقابة على أوجه الصرف والإنفاق، وانعدام الشفافية، والفساد المالي، وتضخم موازنة الأجهزة الأمنية، والإسراف في نثريات كبار المسئولين، والتوسع في التعيينات والترقيات.
وبين التقرير أن مزاعم رئيس حكومة رام الله سلام فياض حول استلامه خزينة السلطة مثقلة بالديون لا تبرئ ذمته المالية أو تخلي مسئوليته الإدارية بأي حال من الأحوال، مضيفا أن فياض تسلم وزارة المال بديون مسبقة، وراكم عليها مزيدا من الديون من خلال تكرار الاستدانة من البنوك في مرحلة ما بعد توليه رئاسة الحكومة، ولم يتول إيقاف مسيرة الديون التي استمرت بوتيرة متسارعة حتى اليوم.

وأشار إلى أن استشهاد فياض ببعض الدول ومن بينها الولايات المتحدة الأمريكية لتبرير سياسة إدمان استقبال المنح والديون يشكل استخفافا بعقل ووعي المواطن الفلسطيني، مؤكدا أن مزاعمه حول تقليص الاعتماد على المانحين بنسبة النصف تبدو متهافتة إلى حد كبير في ظل العجز المالي الكبير الذي تعيشه السلطة، واستجدائها الدول المانحة لإعادة ضخ الأموال إلى خزينة السلطة التي تكاد توشك على الانهيار حسب تحذيرات قادتها.
وأكد التقرير أن الإدارة المالية لفياض أشبه ما تكون بالغريق الذي يتعلق بقشة وسط البحر، وهي إدارة أثبتت فشلها التام وعجزها الكامل خلال المرحلة الماضية، ما يستوجب على فياض التراجع عن معزوفة الخداع والتضليل التي ينتهجها في تبرير الأزمة المالية، ووضع نقاط الصواب على حروف الأزمة، والاعتراف بأصول وحقائق المشكلة بدلا من الالتفاف عليها وتسويق روايات بائسة لا تسمن ولا تغني من جوع.
                                             الحلول المطروحة

واستعرض التقرير الحلول المطروحة للأزمة المالية للسلطة متمثلة في تعديل بروتوكول باريس الاقتصادي تمهيداً لاستبداله ببروتوكول آخر، والاعتماد على الهبات العربية والإسلامية غير المشروطة بعيدا عن الارتهان الكامل للدول المانحة، وإعادة توزيع الحصص والمقدرات المالية على مجالات الصرف والإنفاق المختلف، واستثمار الموارد المالية والاقتصادية المتاحة بشكل سليم، واعتماد سياسة تقشفية سليمة بعيدا عن البذخ والإسراف، ومحاكمة الفاسدين واسترداد الأموال المنهوب، والتزام الشفافية التامة، وتفعيل النظم الرقابية الجادة.
وختم التقرير بالتشديد على مطالبة السلطة بإنقاذ ما يمكن إنقاذه في إطار إنفاذ برنامج إغاثي مرحلي، يعتمد الرؤى والحلول المطروحة لمعالجة أصل الأزمة المالية، وذلك بين يدي البرنامج الشامل الذي يتولى معالجة أصل الأزمة الوطنية الفلسطينية في ضوء متطلبات مسيرة التحرر الوطني مستقبلا.

نص الدراسة

خاص مركز الدراسات العالمية الاصدار (5 )
تقديم
شكلت الأزمة المالية التي عصفت بالسلطة الفلسطينية خلال الفترة الأخيرة جرس إنذار بالغ الخطورة وضع كيان السلطة ومستقبلها على المحك، وزج بها في دوامة لا حصر لها من الإشكاليات والتجاذبات الداخلية في ضوء بلوغها حافة الإفلاس التام.
وبالرغم من أن الأزمة المالية الخاصة بالسلطة هي أزمة قديمة جديدة تتجدد باستمرار فإن أحدا في قيادة السلطة لم يتول البحث الجدي في طبيعة الحلول المنطقية للخروج من الأزمة، أو يُعمل فكره في بسط معالجات سليمة لتخفيف حدة الأزمة التي يرى فيها الكثيرون أزمة قاصمة لظهر السلطة وذات أثر عميق يهدد حاضرها ومستقبلها.
ولئن أفلحت السلطة في إنقاذ كيانها الوظيفي ظرفيا من خطر التفكك والانهيار بفعل موافقة إسرائيل على إعادة ضخ وتحويل أموال الضرائب للسلطة، فإن الأزمة تبقى مرشحة للتفاقم مرة أخرى حال قررت إسرائيل وقف تحويل أموال الضرائب في أية لحظة، وخصوصا في ظل تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو التي تؤكد على إجراء تقييم دوري شهريا بخصوص اتخاذ قرار بشأن السماح بتحويل أموال الضرائب الفلسطينية.
    علاوة على ذلك، فإن تجاهل الأسباب والبواعث الحقيقية للأزمة والقفز عن الحلول السليمة التي تكفل إنهاءها على أسس منهجية، من شأنه أن يضع السلطة على شفا جرف هار، وأن يجعل مركزها المالي عرضة للانكسار بين عشية وضحاها.
     وبين يدي هذا التقرير الذي يصدره مركز الدراسات العالمية رؤية بحثية تتناول أسباب الأزمة المالية التي تعاني منها السلطة، وآليات الحل والعلاج الكفيلة بعلاج جذر المشكلة وإنهائها استراتيجيا بعيدا عن المسكنات الآنية التي تجترحها السلطة هذه الأيام.


إحصائيات وأرقام
تبدو الأرقام والإحصائيات الصادرة عن السلطة الفلسطينية ووزاراتها المعنية طبيعية إلى حد كبير، وتعكس واقع عجز السلطة وفشلها في إدارة الملف المالي وشئون العلاقة مع المانحين.
وبالرغم من صعوبة الاستيثاق من مدى صحة وسلامة الأرقام التي عرضتها السلطة إلا أنها تعكس –في كل الأحوال- عمق الأزمة التي تعاني منها السلطة، وطبيعة المنحدر الذي تهوي إليه السلطة هذه الأيام.
فقد أظهرت البيانات المالية الصادرة عن وزارة المالية في رام الله، الاثنين (12/1/2013)، اقتراب الدين العام للسلطة الفلسطينية إلى نحو 9 مليارات شيقل حتى 30 نوفمبر/ تشرين ثاني من العام الماضي (2012).
ووفقا لذات المصدر فقد بلغ حجم الدين العام للسلطة 8,846,8 مليون شيقل، مرتفعا بنحو 500 مليون شيقل عن نهاية العام 2011، ومنخفضا بنحو 330 مليون شيقل عن نهاية النصف الأول يونيو/ حزيران من العام 2012.
ووفقا لبيانات وزارة المالية يتوزع دين السلطة إلى: محلي وخارجي، حيث يبلغ مجموع الدين المحلي نحو 4,670,8 مليون شيقل، موزعا على قروض البنوك، وقروض هيئة البترول، وقروض مؤسسات عامة أخرى، في حين بلغ مجموع الدين الخارجي قرابة 4,176,0 مليون شيقل.
     ويتوزع الدين الخارجي على مؤسسات مالية عربية كصندوق الأقصى، والصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والبنك الإسلامي للتنمية، حيث بلغ مجموعها نحو 4,176,0 مليون شيقل.
كما بلغت الديون لصالح المؤسسات الدولية والإقليمية كالبنك الدولي وبنك الاستثمار الأوروبي، والصندوق الدولي للتطوير الزراعي، والأوبك قرابة 1,290,8 مليون شيقل، فضلا عن قروض ثنائية مع كل من إسبانيا، وإيطاليا، والصين، والسويد، بلغ مجموعها نحو 490 مليون دولار.

      وحسب بيانات وزارة المالية الفلسطينية في رام الله فقد بلغت قروض السلطة لصالح المصارف العاملة في فلسطين نحو 2,092,3  مليون شيقل حتى نهاية تشرين ثاني من العام الماضي، منها نحو 1,246,4  مليون شيقل قروض قصيرة الأجل، و845 مليون شيقل على شكل قروض طويلة الأجل.
إن الأرقام والإحصائيات سالفة الذكر –على فرض صحتها- تحمل تجليات الفشل التام للسلطة الفلسطينية على الصعيد المالي، وتخبطها في مواجهة الأزمة المالية الراهنة، وعدم استعدادها لتحمل مسئولية الأخطاء التاريخية التي اقترفتها بعيدا عن البعد الوطني واستشارة القوى والمرجعيات الوطنية والمؤسساتية الفاعلة لدى شعبنا.

 

 

 


بروتوكول باريس الاقتصادي
     أول الأخطاء التي اقترفتها السلطة الفلسطينية كان توقيع بروتوكول باريس الاقتصادي كملحق اقتصادي لاتفاقيات أوسلو عام 1993م.
     فقد ألحقت هذه الاتفاقية الاقتصادية الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي، وجعلته رهينة المشيئة والقرار الإسرائيلي "الفيتو"، وحرمت السلطة الفلسطينية من حق إنفاذ المعاملات الجمركية الخاصة بالبضائع الواردة إلى أراضيها، ومنحته طوعا للاحتلال الإسرائيلي.
    عندما دشنت السلطة الفلسطينية البروتوكول الاقتصادي مع الاحتلال لم تكن تدري أن الشعب الفلسطيني سوف يدفع ثمنه غاليا، وأن الوضع الاقتصادي الفلسطيني سوف يتأثر به إلى درجة الهيمنة البالغة والارتهان التام للاقتصاد الإسرائيلي.
     إن تفحص نصوص ومضامين بروتوكول باريس الاقتصادي يخلص إلى أن المفاوضين الفلسطينيين التابعين للسلطة الذين أداروا المفاوضات حول هذا الموضوع لم يعوا حقيقة المخاطر الناجمة عن هذه الاتفاقية، ولم يأخذوا برأي واستشارة الاقتصاديين من أهل الرأي النافذ والخبرة العميقة، بل إن التوقيع على هذه الاتفاقية السيئة التي ألحقت الاقتصاد الفلسطيني بشكل كامل بالاقتصاد الإسرائيلي، قد يدفع بنا للقول أن المفاوض الفلسطيني وقع على هذه الاتفاقية سيئة الأثر والصيت دون أن يطلع –حقيقة- على نصوصها وبنودها، أو أنه وقع عليها دون أن يفطن إلى مبانيها ومعانيها التي تحتاج إلى ما هو أكثر من مفاوض يتسلح –فقط- بأرضية سياسية ذات نَفَس مرن يتجاوب –تقريبا- مع كل ما يطرحه الطرف الآخر من رؤى واتفاقيات.
    ولعل أكثر المفارقات إيلاما أن السلطة الفلسطينية حاولت تسويق بروتوكول باريس الاقتصادي على أنه فتحٌ اقتصادي من شأنه أن ينعش الاقتصاد الفلسطيني، وهناك من جعل من اتفاقية باريس توطئة لسنغافورة جديدة في الشرق، وغير ذلك من الوعودات التي ثبت فيما بعد مدى تهافتها وسقوطها بالمعنيين: الوطني والمهني على السواء.
     وهكذا، فإن تقييم البروتوكول الاقتصادي إثر عقدين تقريبا من الزمن على توقيعه مع الاحتلال، يكشف لنا عن الآثار والنتائج التالية:
أولا: إن السلطة الفلسطينية كانت حتى وقت قريب غارقة في بحر العسل ولم تكتشف الآثار الكارثية والنتائج المدمرة لبروتوكول باريس الاقتصادي إلا منذ فترة زمنية قريبة حين تكالبت عليها الأزمات المالية والاقتصادية، ووضعتها أمام أسوأ الخيارات التي لم تشهد السلطة لها نظيرا منذ لحظة النشأة والتأسيس وحتى اليوم.
ثانيا: إن الآثار المدمرة التي تسببت بها اتفاقية باريس الاقتصادية لم تقتصر فقط على الجانب المالي والاقتصادي للسلطة الفلسطينية والشعب الفلسطيني، بل طالت مختلف جوانب الحياة الفلسطينية.
ثالثا: إن اتفاقية باريس امتدت في آثارها الكارثية لتضع مستقبل السلطة الفلسطينية برمته على المحك، وخصوصا في ظل اعتماد السلطة وأجهزتها الإدارية والأمنية بشكل تام على إفرازات ومخرجات الاتفاقية بعيدا عن أي قدرة ذات علاقة بالتمويل الذاتي.
رابعا: إن السلطة الفلسطينية لا تملك أي فقه أو خبرة اقتصادية يمكنّها من تقييم الشئون الاقتصادية على المستويين: الاستراتيجي والتكتيكي، وأن ما يشاع عن وجود خبراء اقتصاديين في صفوف السلطة بدا إشاعة فاقعة وخبرا ممجوجا ليس له لون أو طعم أو رائحة على الإطلاق.
خامسا: إن قيادة السلطة الفلسطينية لم تبحث حتى اليوم بشكل جاد وحقيقي في الآثار والنتائج التي خلّفها بروتوكول باريس الاقتصادي، ولم تكلّف مؤسساتها المعنية بإجراء دراسات أو ورش عمل تناقش مضار وسلبيات الاتفاقية، وتضع الرؤى والحلول الكفيلة بدرء السلبيات المترتبة عليها أو تقليلها إلى الحد الأدنى.
سادسا: إن قيادة السلطة لم تضع في وارد قراراتها وسياساتها إمكانية التحوّل عن اتفاقية باريس أو طرح أمر تعديلها على حكومة الاحتلال، واستمرت في التعامل مع الاتفاقية رغم مساوئها البالغة وسلبياتها الكبرى، وكأنّ شيئا لم يكن.
      وهكذا، يتضح بكل جلاء أن التوقيع على بروتوكول باريس الاقتصادي شكل خطيئة سياسية ووطنية بكل معنى الكلمة تركت أسوأ الآثار والانعكاسات على الاقتصاد الفلسطيني الناشئ وعلى مجمل الحياة الوطنية الفلسطينية.
الارتهان المالي للدول المانحة
     لم تتعظ السلطة الفلسطينية من خطيئة بروتوكول باريس الاقتصادي الذي تم توقيعه في غفلة من الشعب والمؤسسات وذوي الاختصاص، بل اقترفت خطيئة أخرى حين وضعت سلتها المالية بالكامل في أيدي الدول المانحة التي أخذت على عاتقها تمويل النفقات الخاصة بالسلطة منذ نشأتها، ولم توفر لنفسها مصادر تمويل ذاتية وموضوعية تقيها شر أموال الدول المانحة التي يتم ضخها وفقا لأجندة سياسية مفضوحة.
     منذ اللحظة الأولى بدا أن السلطة الفلسطينية ليست في وارد الخروج عن أسر الدول المانحة ومقرراتها المالية، بل إن شعور السلطة كان أقرب ما يكون إلى الارتياح المطلق الذي تجاهل ظروف وسيناريوهات المستقبل القادم.
      وهكذا انغمست السلطة في المؤتمرات التي عقدتها الدول المانحة، واعتقدت أن الدنيا قد دانت لها وأن أريحيتها المالية لن تتأثر في أي يوم من الأيام، واستكانت للوعود والتطمينات الصادرة عن الدول المانحة التي تهيمن عليها الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، وبنت خططها وبرامجها المختلفة دون حساب تقلبات الزمن ونوائب الأيام.
إن متابعة سلوك السلطة الفلسطينية المرتهن للدول المانحة يقودنا إلى النتائج التالية:
أولا: أن السلطة تجاهلت أو تغافلت عن حقيقة الدور السياسي الذي تلعبه الدول المانحة إزاء الوضع الفلسطيني والقضية الفلسطينية، وطبيعة المهام التي تؤديها على الساحة الفلسطينية لجهة إلزام وتقييد السلطة بالمحددات والوظائف المنوطة بعملها الذي حُدّد لها وفق اتفاقيات أوسلو وملحقاتها الأمنية، ولم تضع في حسبانها أن هوى السلطة قد يخالف جزئيا هوى الدول المانحة في يوم من الأيام، وبالتالي قد يستتبع تعكيرا لصفو شهر العسل الذي ساد بين الطرفين في ظل انسجام السلطة مع الرغبات السياسية للدول المانحة طيلة المراحل الماضية.
ثانيا: أن السلطة تجاهلت أو تغافلت عن الأجندة الخاصة المرتبطة بالمال الذي تقدمه الدول المانحة، وحقيقة كونه مالا سياسيا مسموما يهدف إلى تحقيق أغراض محددة وأهداف خاصة على الساحة الفلسطينية، وأن هذا المال لا يصب إلا في خانة مصالح الدول المانحة التي تشكل الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي، عمودها الفقري، وسرعان ما يتوقف إذا ما حادت السلطة عن دورها الوظيفي ووجهتها السياسية المرسومة لها دوليا.
ثالثا: أن السلطة استسلمت تماما لإرادة وأجندات الدول المانحة التي تعاملت مع الشأن المالي الفلسطيني من منظورها الخاص، وتولت تحديد أموال الدعم ومجالات الصرف والإنفاق المرتبطة بها، ولم تحاول تغيير المعادلة التي حكمت علاقتها المالية مع الدول المانحة، أو إرساء أسس وأصول وطنية لمنع تغول المانحين على القرار المالي الفلسطيني الرسمي على الدوام.
رابعا: أن علاقة السلطة بالدول المانحة حكمتها سيماء الاستجداء المذل على العموم، إذ لم تحاول السلطة رفع رأسها يوما في وجه الدول المانحة واشتراطاتها وأجنداتها المختلفة، ولم تفكر في ترسيم علاقة قائمة على الندية مع المانحين انطلاقا من حاجة الدول المانحة للسلطة وإدراكهم لأهمية وحساسية دورها الوظيفي في حماية الأمن الإسرائيلي.

 

 


الإدارة المالية الخاطئة
      الإدارة المالية الخاطئة للسلطة الفلسطينية منذ تأسيسها وحتى اليوم شكلت ثالثة الأثافي كما يقولون.
      لم تكتفِ السلطة الفلسطينية بتوقيع بروتوكول باريس الاقتصادي الذي طرحها أرضا وأوردها المهالك، ولم تتخذ من سقوطها المريع في أحضان الدول المانحة وارتهانها لأجنداتها السياسية المسمومة عبرة وعظة، بل أساءت إدارة الأموال التي تدفقت عليها وأهدرت الكثير من مواردها المالية في مجالات إنفاق عبثية لم تُعرها قيادة السلطة أدنى اهتمام طيلة المراحل الماضية، ولم تفطن إلى مدى الخطورة المترتبة عليها إلا بعد إقدام الدول المانحة على تقنين وصول الأموال إليها، بموازاة توقف حكومة الاحتلال عن تحويل أموال المقاصة إلى السلطة، ما أثقل كاهل ميزانية السلطة وأدخلها نفق الأزمة التي تعاني فصولها الحادة هذه الأيام.
     ويمكن تشخيص أبرز مظاهر الإهدار المالي الذي ولغت فيه السلطة فيما يلي:
أولا: انعدام الرقابة على أوجه الصرف والإنفاق:
      قد يجادل مجادل في أن انعدام الرقابة على أوجه الصرف والإنفاق لدى وزارات ومؤسسات السلطة الرسمية قد انتهى باستلام د. سلام فياض وزارة المال ومن ثم ترؤسه لمجلس الوزراء عقب أحداث الانقسام الفلسطيني.
      إن هذا الادعاء مردود على أصحابه تماما، إذ أن المرحلة التي سبقت تولي فياض زمام وزارة المال شهدت انعداما تاما للرقابة المالية، فيما شهدت مرحلة ما بعد تولي فياض وزارة المال أمرا شبيها لكنه مقنّعا بكل معنى الكلمة.
      فعلى المستوى النظري استطاع فياض أن يلعب دورا مهما في بلورة السياسة المالية للسلطة، ويفرض أجندته المالية على جميع الوزارات، طوعا أو كرها، لكنه فشل في متابعة مدى التزام وتقيّد الوزارات بأوجه الصرف المنصوص عليها، وهو ما جعل من كل وزارة تتصرف بمقدراتها المالية المخصصة لها كيفما تشاء بعيدا عن الأولويات والاحتياجات الأساسية.
     وهكذا، فإن مساحات التصرف الواسعة المتحررة من رقابة وزارة المالية ورئاسة الوزراء التي تبتدرها وزارات السلطة في الضفة الغربية جعل من المرحلة السابقة كتلة واحدة من انعدام الرقابة على أوجه الصرف والإنفاق، بشكل صريح أو مقنّع على السواء.
ثانيا: انعدام الشفافية:
      لعل انعدام الشفافية يشكل أحد أبرز تجليات الإدارة السلطوية السيئة للملف المالي، وأحد أوجه الأزمة المالية التي تعاني منها السلطة الفلسطينية هذه الأيام.
       وبالرغم من استلام فياض شئون وزارة المال إلا أن الشفافية المطلوبة لم تلامس واقع عمل وزارات ومؤسسات السلطة من حيث الموازنة وأوجه الصرف والإنفاق وغير ذلك.
       فلا زالت هناك الكثير من الأسئلة ذات الصلة بنقص المعلومات وعدم الوضوح الكامن في البيانات التي تعرضها وزارة المالية في السلطة، ما يضرب أسس المصداقية والشفافية التي تتشدق بها السلطة على الدوام.
       وحتى اللحظة فإن هناك شكوكا عميقة تساور الباحثين والمراقبين حيال الأرقام والإحصائيات التي تقدمها السلطة، وخصوصا بشأن قيمة الديون الإجمالية المترتبة عليها، وبشأن دقة الموازنة السنوية الخاصة بها.
       ويعزز من ذلك حال الضبابية المقصودة التي تلف السلطة بشأن حقيقة الوضع المالي للمؤسسات وصناديق الاستثمار التابعة للسلطة ولمنظمة التحرير التي تشرف عليها السلطة ماليا، وهو ما يضع دعاوى السلطة حول التمسك بقيم الشفافية في خبر كان.
ثالثا: الفساد المالي:
     يعتبر الفساد المالي الذي ضرب أطنابه في جميع مؤسسات ووزارات السلطة أحد أهم الأسباب المفضية إلى الأزمة المالية الحالية.
      وتلك حقيقة بائنة لا يملك أحد أن يماري فيها أو يخفي الآثار بالغة السلبية المترتبة عليها، وحجم الضرر الذي خلّفته على الوضع المالي والاقتصادي للسلطة الفلسطينية.
      ولا ريب أن مستوى الفساد المالي الذي نخر في قلب مؤسسات السلطة، وانعدام محاسبة الفاسدين الذين نهبوا الكثير من المقدرات المالية التابعة للسلطة، لعب دورا هاما في التأثير على الوضع المالي للسلطة وإحداث آثار تراكمية تضافرت مع بقية العوامل وصولا إلى الأزمة المالية الراهنة.
     وكي ندرك مدى الأثر الذي أحدثه الفساد المالي على السلطة ومركزها المالي يكفي أن نراجع التقارير الصادرة عن الدول المانحة ذاتها، وعن المؤسسات والمنظمات الدولية المختلفة، التي صدرت منذ نشأة السلطة وحتى اليوم، وأكدت جميعها على حجم الفساد المالي المتغلغل في أوساط السلطة ومستوياتها الإدارية المختلفة، وتغاضي السلطة عن رؤوس الفساد الذين نهبوا مقدراتها المالية وحولوها إلى الخارج.
     بل إن ديوان الرقابة المالية والإدارية التابع للسلطة أصدر أكثر من مرة تقارير تبين بوضوح حجم ومستوى الفساد المالي داخل مؤسسات ووزارات السلطة المختلفة دون أن تحرك السلطة إزاءها أي ساكن أو تُعرها أي اهتمام.
رابعا: تضخم موازنة الأجهزة الأمنية:
     يبدو تضخم حصة الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية من الموازنة السنوية سببا هاما من أسباب الأزمة المالية.
     إذ تشير الأرقام الرسمية التي عرضتها وزارة المالية التابعة للسلطة إلى أن الأجهزة الأمنية تلتهم قرابة 30% من أصل الموازنات السنوية، بما يزيد عن حصتي الصحة والتعليم مجتمعتين، وهي نسبة كبيرة للغاية تترك آثارها البالغة على الوضع المالي العام للسلطة ومجالات الصرف والإنفاق الأخرى.
      وبالرغم من إدراك قيادة السلطة لهذه الحقيقة إلا أنها لا تملك لها ردا أو تغييرا بفعل التزامها الحرفي بنصوص الاتفاقيات الأمنية التي توجب قيامها بحماية الأمن الإسرائيلي، والتقيد بالتعاون الأمني مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية.


خامسا: الإسراف في نثريات كبار المسئولين:
      لم تفلح كل دعاوى التقشف المالي في وضع حد لسياسة الإسراف المالي بشأن نثريات كبار المسئولين في السلطة، فلا زالت النثريات الخاصة بكبار المسئولين من وزراء ووكلاء ووكلاء مساعدين ومدراء عامين ترهق كاهل ميزانية السلطة ووضعها المالي رغم عمليات التحجيم والتقنين التي طرأت عليها مؤخرا عقب تصاعد حدة الأزمة المالية والصعوبات التي واجهت السلطة في صرف رواتب موظفيها.
      وحتى اللحظة فإن كبار المسئولين يملكون هامشا ماليا لا يبلغ حد التقشف المطلوب الذي أعلنته السلطة، ونادت بتطبيقه على المستويات الإدارية المختلفة في السلطة ومؤسساتها الرسمية.
سادسا: التوسع في التعيينات والترقيات:
     لا يختلف اثنان في أن توسع وزارات السلطة في سياسة التعيينات والترقيات منذ نشأتها وحتى اليوم قد شكل عنصراً هاماً محفزاً للأزمة المالية التي تجلت أكثر ما تكون في صعوبة توفير الرواتب لعشرات الآلاف من الموظفين المدنيين والعسكريين.
     ومن خلال استقراء الاحتياجات الوظيفية الحقيقية للسلطة ومؤسساتها يمكن الجزم بأن مؤسسات السلطة المختلفة تحوي عددا كبيرا من الموظفين الذين يفيضون عن احتياجات السلطة ويعيشون البطالة المقنّعة داخل وزاراتهم.
     وقد لعبت السياسة الحزبية والفصائلية دورا سلبيا في تعيين عشرات الآلاف من الموظفين خارج دائرة الاحتياج الحقيقي للسلطة، ما أسفر عن إثقال ميزانية السلطة بعبء كبير وجد ترجماته العميقة في ظل قيام إسرائيل بوقف تحويل أموال الضرائب إلى السلطة، وتوقف الدول المانحة عن الوفاء بالتزاماتها تجاه دعم السلطة ورفد ميزانيتها لتأمين رواتب الموظفين.
      ومع ذلك فإن د. سلام فياض يحاول تبرئة ذاته من تحمل المسئولية عن الأزمة المالية، إذ دافع فياض عن نفسه، قائلا على صفحته على وسيلة التواصل الاجتماعي "فيس بوك" مؤخرا: "لقد تسلمت الحقيبة الحكومية وكانت خزينتها، ليس فقط خاوية ولكن مثقلة بالديون. بليون دولار أجور متأخرة للموظفين، والتزامات للقطاع الخاص متراكمة، نحو 900 مليون دولار، وديون للبنوك المحلية، نحو بليون ونصف بليون دولار ديون للصناديق العربية"، موضحا أن "الحكومة قامت بواجبها الوطني على سداد تلك الديون والتزمت حتى آخر قرش فيها، من خلال إدارة نفقاتنا وجدولة الديون بصورة منتظمة، فالاستدانة والمنح ليست عيبا، ونحن لسنا استثناء عن معظم دول العالم المستدينة، فالولايات المتحدة الأميركية مستدينة أيضا، وتطرح سندات دين دوريا، والأردن ومصر... إلخ".
        وأضاف: "انتهجنا سياسة مالية تهدف إلى تقليص الاعتماد على المانحين لأغراض الموازنة تدريجيا، وصولا إلى الاستغناء عنها بالكامل بحلول عام 2013،ونجحت هذه السياسة في تقليص الاعتماد على المانحين بنسبة النصف، إذ تقلصت من 1.8 بليون دولار عام 2008 إلى 970 مليون دولار هذا العام، وحاربنا الفساد وأعدنا بناء البنية التحتية وتطوير الجهاز الأمني والخدمات، وبناء مؤسسة أمنية وخدماتية تعمل بكفاءة، وطورنا مفهوم الدولة إلى دولة المؤسسات، وأكملنا الجاهزية لإقامتها (...) لكنّ عددا من الدول المانحة لم يفِ بالالتزامات التي قدمها للسلطة، خصوصا في العامين الأخيرين، ما أدى إلى تراكم عجز في موازنتنا، وتحول هذا الشهر إلى أزمة مالية، تركت الحكومة غير قادرة على دفع رواتب موظفيها للمرة الأولى منذ أربع سنوات".
       ويؤكد فياض أن عدم وفاء بعض الدول بالتزاماتها أدى إلى حدوث عجز بقيمة مائة مليون دولار العام الماضي، تبعه عجز تراكمي بقيمة 30 مليون دولار شهريا منذ مطلع العام الحالي، مشيرا إلى أن الحكومة استدانت من البنوك المحلية بقيمة نحو بليون دولار، ولم تعد قادرة على أخذ المزيد من الديون.
وبقراءة صحيحة وتفحص دقيق لتصريحات فياض يمكن الرد عليها فيما يلي:
• إن مزاعم فياض حول استلامه خزينة السلطة المثقلة بالديون لا تبرئ ذمته المالية أو تخلي مسئوليته الإدارية بأي حال من الأحوال، فقد تسلم وزارة المال بديون مسبقة، وراكم عليها مزيدا من الديون من خلال تكرار الاستدانة من البنوك، ولم يتول إيقاف مسيرة الديون التي استمرت بوتيرة متسارعة حتى اليوم.
• إن استشهاد فياض ببعض الدول ومن بينها الولايات المتحدة الأمريكية لتبرير سياسة إدمان استقبال المنح والديون يشكل استخفافا بعقل ووعي المواطن الفلسطيني، فلا مجال للمقارنة بين المركز المالي للولايات المتحدة الأمريكية بالمركز المالي للسلطة الفلسطينية التي تعيش وضعا ماليا واقتصاديا بالغ التدهور والاهتراء.
• إن مزاعم فياض حول تقليص الاعتماد على المانحين بنسبة النصف تبدو متهافتة إلى حد كبير في ظل العجز المالي الكبير الذي تعيشه السلطة، واستجدائها الدول المانحة لإعادة ضخ الأموال إلى خزينة السلطة التي تكاد توشك على الانهيار حسب تحذيرات قادتها.
• إن الإدارة المالية لفياض أشبه ما تكون بالغريق الذي يتعلق بقشة وسط البحر، وهي إدارة أثبتت فشلها التام وعجزها الكامل خلال المرحلة الماضية، ما يستوجب على فياض التراجع عن معزوفة الخداع والتضليل التي ينتهجها في تبرير الأزمة المالية، ووضع نقاط الصواب على حروف الأزمة، والاعتراف بأصول وحقائق المشكلة بدلا من الالتفاف عليها وتسويق روايات بائسة لا تسمن ولا تغني من جوع.

 

 

 

رؤى وحلول
         حين وصف وزير المالية لدى السلطة الفلسطينية نبيل قسيس الأزمة المالية بأنها "بنيوية" وتتطلب حلا "بنيويا" يسد الفجوة القائمة بين بندي النفقات والواردات في موازنة السلطة فإنه بدا كمن يعيش في كنف دولة مستقلة ذات موارد وإمكانيات تعاني من بعض الإشكاليات المالية.
        لا أحد في السلطة يطلق لسانه معترفا بمرارة الواقع وجسامة المنزلق الذي انحدرت إليه السلطة بفعل سياساتها الكارثية، فوزير المالية يحاول استغفال الناس حين ينحرف عن جادة الصواب، ويوحي بأن مجرد الدعوة لوقف استنزاف طاقات الحكومة وتقليص حجم العجز بالموازنة المالية الذي تجاوز مليار و 400 مليون دولار عبر جملة من الإجراءات المخففة للعجز فإن الأزمة المالية ستشق طريقها فورا نحو الحل والانفراج.
        وفي نظر السلطة ووزير ماليتها فإن جزءا من الحل يكمن في الثقافة العامة عند المواطن الفلسطيني التي تدفع لاستنزاف موارد السلطة الفلسطينية وزيادة عبء النفقات،وبالتالي زيادة الفجوة بين بندي النفقات والايرادات بالموازنة، فضلا عن زيادة التعاون بين المجلس التشريعي كمشرع وممثل لأبناء الشعب الفلسطيني وبين وزارة المالية بهدف اتخاذ المزيد من "الحلول الاجتراحية" وإيجاد سياسة توفير وترشيد بعض أوجه النفقات لتجاوز الازمة وتأمين أوجه الانفاق الدائم.
        وفي دليل إضافي ينسف كل ادعاءات فياض حول التحسن المالي الذي طرأ في الأونة الأخيرة بشأن عدم الاعتماد على الدول المانحة، وبناء دولة المؤسسات، أبدى وزير مالية السلطة اعترافا مهما حين أكد أن الضبابية المالية الناتجة عن الأزمة الحالية كانت سببا لعدم إنجاز مشروع موازنة العام الحالي(2013)، وأن موازنة العام الحالي تعاني من عجز مالي مساو لعجز العام الفائت (2012) وقيمته تساوي مليار و400 مليون دولار أمريكي، رغم تحسن حجم الإيرادات بحوالي 9% عن العام الفائت.
       وعلى ما يبدو فإن السلطة وقياداتها قد أصيبت بعمى الألوان أو الحَوَل المالي في غمار تشخيصها لأسباب الأزمة المالية واجتراحها الحلول المناسبة لها، عبر خلطها المقصود بين الأسباب الاستراتيجية والتكتيكية والمهنية للأزمة،وتجاهلها لجذر وجوهر المشكلة والاكتفاء بمناقشة الشكل والقشور.
        وكي نضع النقاط على الحروف ونعالج جذور الأزمة المالية الراهنة التي تعصف بالسلطة فإننا نعتقد جازمين أن سقف وإطار الحل يجب ألا يتجاوز النقاط التالية:
أولا: تعديل بروتوكول باريس الاقتصادي تمهيداً لاستبداله ببروتوكول آخر:
        وهذه المهمة تشكل أولى الأولويات والبند الأول على أجندة المعالجة الجذرية للأزمة المالية، فما لم يتم اجتراح خطوة باتجاه تعديل بروتوكول باريس الاقتصادي تمهيدا لاستبداله ببروتوكول آخر في المرحلة المقبلة فإن الأزمة المالية والاقتصادية ستراوح نفسها بل قد تشهد مزيدا من العمق والتفاقم خلال المرحلة القادمة.
لذا، فإن إدخال تعديلات جوهرية على البروتوكول الاقتصادي من شأنها أن تقود الاقتصاد الفلسطيني للخروج من أسر الاقتصاد الإسرائيلي، وتسمح باستقلالية التعامل المالي للسلطة في شئونها الجمركية بعيدا عن يد القرصنة الإسرائيلية.
        ومن هنا فإن السلطة مطالبة اليوم بعقد ورشات عمل موسعة تضم السياسيين والمختصين والخبراء الاقتصاديين بهدف بلورة رؤية واضحة لما يجب تعديله بشكل عاجل خلال المرحلة الحالية، على أن تستكمل ورش العمل بهدف إنجاز مسودة بروتوكول جديدة تنسجم مع الحقوق والمطالب الفلسطينية.
        وغني عن القول أن السلطة تحتاج إلى نضال سياسي كبير كي تتمكن من إنجاز هذا الهدف الوطني الكبير، ولا مفر من مواصلة الضغط في هذا الاتجاه والمضيّ على هذا الطريق حتى النهاية.
ثانيا: الاعتماد على الهبات العربية والإسلامية غير المشروطة:
        إن محاولة التحرر من هيمنة وسيطرة الدول المانحة يعتبر من أهم الحلول التي ينبغي أن تستدعيها السلطة في مواجهة الأزمة المالية الراهنة.
       فالمال السياسي المسموم الذي تبثه الدول المانحة وفقا لأجنداتها المشبوهة التي لا تنسجم مع المتطلبات الحقيقية لمسيرة التحرر الوطني الفلسطيني وبناء الوطن الفلسطيني على أسس سليمة، ينبغي ألا يشكل سيفا مسلطا على رقبة السلطة ومتحكما في أعمالها وخططها وأجنداتها إلى الأبد. 
       وغني عن القول أن السلطة تفتح ذراعيها لاستقبال المعونات والهبات المالية العربية والإسلامية، فهذا أمر بديهي ولا يتصور أن ترفضه السلطة أو تمتنع عنه في أي يوم من الأيام.
        لكن إشكالية السلطة تتجسد أوضح ما تكون في انحيازها إلى بعض المحاور العربية على حساب محاور أخرى، ما يؤثر على طبيعة ومستوى علاقاتها ببعض الدول، وهو ما يسهم في شحن المواقف وإدخال المواقف العربية التقليدية الداعمة للحق الفلسطيني نفق التردد والجمود.
       لذا، فإن السلطة مطالبة اليوم بإعادة صوغ وتأسيس علاقاتها السياسية مع كافة الدول العربية والإسلامية على أسس سليمة ومنطقية بعيدا عن سياسة المحاور الضارة، والعمل على تحشيد الدعم العربي والإسلامي المالي غير المشروط كأحد الروافد الهامة والأساسية لتسيير دفة السلطة بعيدا عن المال الغربي المسموم.
ومن الطبيعي أن تواجه السلطة مجموعة من الإشكاليات ذات العلاقة بتبعية بعض الأنظمة العربية والإسلامية للإدارة الأمريكية التي يُتوقع أن تقف سدا منيعا في وجه محاولات التحرر من النفوذ المالي الغربي، إلا أن ذلك يجب ألا يحول دون استمرار مساعي السلطة لتأمين مصادر دعم عربية والإسلامية بديلة ونقية من تلوثات الأجندة والاشتراطات السياسية التي أذلت ناصية السلطة منذ نشأتها وحتى اليوم.
ولئن استطاعت قوى وأحزاب فلسطينية تأمين مصادر دعم وهبات عربية وإسلامية مختلفة، وخصوصا على المستوى الشعبي، فإن بإمكان السلطة اليوم أن تنحو ذات المنحى وأن تفعل ما بوسعها من أجل استجلاب دعم الأنظمة والحكومات العربية والإسلامية، في ذات الوقت الذي تطرق فيه باب الشعوب التي تملك في جعبتها الخير الوفير.
ومعلوم أن ذلك يستلزم من السلطة إعادة صياغة مواقفها السياسية بما يتساوق مع نبض الشعوب العربية والإسلامية وتطلعاتها الأصيلة.
ثالثا: إعادة توزيع الحصص والمقدرات المالية على مجالات الصرف والإنفاق المختلفة:
من الضروري أن تبادر السلطة إلى إعادة جدولة وتوزيع الحصص والمقدرات المالية في إطار الموازنة بما يتفق والأولويات والاحتياجات الوطنية الملحة وليس أي شيء آخر.
وهكذا فإن نصيب الأمن المتضخم ضمن الموازنة يجب أن يعاد النظر فيه بشكل كامل، وأن يتم تحويل هذه المخصصات لدعم وتعزيز الخدمات الصحية والتعليمية، ورعاية شئون العمال والشباب، ومساعدة العاطلين عن العمل وجموع الخريجين.
وعلى قيادة السلطة أن تكسر الخطوط الحمراء التي ترعبها من مجرد الاقتراب من كل ما يتعلق بالأجهزة الأمنية وموازنتها المالية، فالظرف الوطني لم يعد يحتمل التابوهات المغلقة التي تضر بالكيان الوطني الفلسطيني ماليا واقتصاديا فوق إضرارها به سياسيا وأمنيا.
رابعا: استثمار الموارد المالية والاقتصادية المتاحة بشكل سليم:
من الغرابة بمكان أن تمتلك السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير موارد مالية ومقدرات اقتصادية دون أي استثمار حقيقي.
فما يرشح عن بعض القادة والمسئولين في السلطة والمنظمة بين الحين والآخر يكشف عن إدارة سيئة لملف الاستثمارات في الخارج، ناجمة في بعضها عن التقصير والإهمال، وعن فساد كبير وسرقة مكشوفة في البعض الآخر.
ولئن أرادت قيادة السلطة والمنظمة إحياء مورد مالي داعم في مواجهة أزمتها المالية، فإن عليها أن تباشر السعي لتوفير أفضل بيئة اقتصادية ومهنية لتنمية استثمارات السلطة والمنظمة ذات المبالغ الكبيرة وتوظيفها لخدمة الشعب الفلسطيني والتخفيف من ظروفه القاسية ومعاناته الكبرى.
خامسا: اعتماد سياسة تقشفية سليمة بعيدا عن البذخ والإسراف:
قد لا تحتاج السلطة إلى تعليمات أو توجيهات سياسية جديدة بخصوص سلوك سبل التقشف المالي، بل إن السلطة تحتاج إلى ترجمة سياساتها النظرية إلى واقع عملي على أرض الواقع.
فالواقع أن كبار المسئولين لا زالوا خارج دائرة التقشف التي أعلنتها السلطة، ويتصرفون بوحي من انعدام المسئولية الوطنية، ويتعاملون مع السلطة وكأنها بقرة حلوب تدرّ عليهم المال الوفير وتحقق لهم المصالح الخاصة.
وما لم يرعوي كبار المسئولين في السلطة ويكونوا قدوة حسنة في تنفيذ كل السياسات التقشفية المعلنة، فإن الاستنزاف المالي لن يتوقف، وحينها يتوجب على الرئيس محمود عباس اتخاذ إجراءات عقابية صارمة بحقهم.
سادسا: محاكمة الفاسدين واسترداد الأموال المنهوبة:
من المفترض أن لا تتهاون السلطة في كل ما يخص الفساد والمفسدين، وأن تبادر إلى إجراء محاسبات صارمة لكل المسئولين أو الشخصيات التي تورطت في قضايا الفساد أو اختلاس الأموال، وأن تعمل على استرداد الأموال المنهوبة التي تولت كبرها بعض الشخصيات الفلسطينية التي نزعت عنها أي سياق وطني وأخلاقي.
ولا ريب أن استرداد الأموال الضخمة التي هُرّبت إلى الخارج، والتعاطي بصرامة مع المفسدين من شأنه أن يسهم في تحسين الوضع المالي للسلطة، ويحافظ على سلامة الأموال التابعة لها من أي هدر أو انتهاك.
سابعا: التزام الشفافية التامة:
قد يكون الحديث عن ضرورة الالتزام بالشفافية أمرا بديهيا ومكرورا فيما يخص السلطة ومؤسساتها الرسمية، فقد بُحّت الأصوات والحناجر من كثرة المناشدات والمطالبات التي دعت السلطة إلى التزام قيمة الشفافية في معالجة الشأن المالي الحكومي.
ومن هنا فإن وضوح المسار المالي للسلطة، والتحديد الدقيق لأوجه الصرف والإنفاق، من شأنه أن يجعل التعامل مع الملف المالي أكثر دقة، وأبعد ما يكون عن عمليات التلاعب التي يغذيها الإرباك والغموض وشحة المعلومات أو تناقضها في بعض الأحيان.
ثامنا: تفعيل النظم الرقابية الجادة:
من الواضح أن تفعيل النظم الرقابية الجادة على واقع ومؤسسات السلطة من شأنه أن يضمن التزام الوزارات والمؤسسات المختلفة بحدودها وسقوفها المالية وعدم تجاوزها بأي حال من الأحوال.
ولا ريب أن شمول الرقابة المالية الفعالة للجميع، بدءا من رأس هرم السلطة وانتهاء بأصغر مسئول فيها، يشكل رادعا حقيقيا يضمن سلامة النفقات والتوزيع المالي على أوجه الصرف المختلفة، ما يمنع التجاوزات والتعديات التي أدمن عليها الكثير من المسئولين، ويجعلهم أكثر انضباطا وفق النصوص المقرة والموازنات المقترحة.

 

 

 

 


خاتمة
إن الرؤية السالفة التي عرضها مركز الدراسات العالمية حول طبيعة الأزمة المالية للسلطة الفلسطينية والحلول الواجب إتباعها لتفاديها بكل تجرد وموضوعية، لا تنفي أصل المشكلة والبلاء الذي ابتلي به الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، وهو الاحتلال الذي يتحمل المسئولية الأولى والأكبر عن الكثير من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أثقلت كاهل الشعب الفلسطيني وأضرت بواقعه وحاضر مجتمعه وأوردته موارد التراجع والمعاناة.
لذا، لا يعوزنا الجرأة والشجاعة للقطع بألا سلطة تحت الاحتلال، وأن التخليط الحاصل بشأن تأسيس السلطة دون إنجاز وإتمام مسيرة التحرر الوطني قد وضع السلطة ومؤسساتها تحت رحمة وهيمنة الاحتلال، وبالتالي إخضاعها لاتفاقيات سياسية واقتصادية ظالمة سلبت إرادتها الحرة وكبلتها بالتزامات بالغة السوء وألحقتها –بكل أسف- بإرادة وأجندة الاحتلال.
ومع ذلك، فإن السلطة مطالبة اليوم بإنقاذ ما يمكن إنقاذه في إطار إنفاذ برنامج إغاثي بشكل مرحلي، يعتمد ما ورد ضمن هذا الإصدار من رؤى وحلول تعالج أصل الأزمة المالية، وذلك بين يدي البرنامج الشامل الذي يتولى معالجة أصل الأزمة الوطنية الفلسطينية في ضوء متطلبات مسيرة التحرر الوطني مستقبلا.
إن هذا الإصدار بقدر ما يعرض للحلول المطلوبة للأزمة المالية التي تعصف بالسلطة وضرورات معالجتها في سياقاتها السياسية والاقتصادية المعروفة، فإنه يأمل أن يثير –بذات القدر– نقاشا وطنيا مستفيضا وجلسات هادئة من العصف الذهني العميق الذي يبحث في تجاوز الأزمة وإنفاذ سبل وآليات حلها بأقل الخسائر الممكنة، وبما يحفظ الكيان والمصالح والمقدرات المختلفة لشعبنا الفلسطيني وقضيته الوطنية.
انتهى

2013-02-06