السبت 11/10/1445 هـ الموافق 20/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
التاريخ أهم من السياسية لفهم مشكلة الطائفية/بقلم: معز كراجة

عادت الهويات الفرعية " الدينية والطائفية والعرقية " لتنبعث من جديد في الوطن العربي، بعد ان توهمنا انها انصهرت ضمن هوية وطنية، والتفسير الابرز لذلك هو ان هذه الهويات بعثت بفعل فاعل ولم تنبعث

أتفق مع جزء من هذا التحليل حيث هنالك محاولات " لتقسيم المقسم"، ولكن اذا اقتصر  هذا التفسير لانبعاث الهويات على العوامل السياسية الحالية فهو برايي ناقص، فالتاريخ اهم من السياسة لفهم هذا الموضوع،  فبمجرد تراجع زخم الناصرية، بمعنى بمجرد تراجع تاثير السياسة تحللت الهوية القومية وفسحت المجال للهويات الأصغر التي وكانها كانت بانتظار اللحظة. فترة الناصرية ربما هي المرحلة الوحيدة في التاريخ العربي المعاصر الذي تراجع فيها حضور هذه الهويات لدرجة ظننا انها اختفت الى الابد

السياسة اليوم لها دور، الفاعل الدولي والوكيل المحلي لهم دور،  لكن يجب ان لا نغفل بان هنالك تربة خصبة تساعدهم  جميعا في في مهمتهم القذرة. هذه التربة هي التاريخ، والمقصود بالتاريخ هنا هو مجموع تأثيراته الثقافية والنفسية والاجتماعية التي علقت فينا

التاريخ عندما يصبح تاريخا يعني أصبح ماضيا، لكن تاثيره فينا يضل حاضرا ومؤثرا، وهنا تاتي مهمة كل أمة في ان تشفى من تاريخها. الشفاء من التاريخ لا يعني التنكر له بطبيعة الحال وانما التعامل معه بحيادية، وليس بحنين وعاطفة،لان الحيادية تعني قدرة هذه الامة المحافظة على " جذورها " وفي نفس الوقت قدرتها على تحييد كل ما يمنعها من بناء شخصيتها بتعابير العصر الحديث. بينما الحنين والعاطفة يحد من هذه القدرة.

قدرة الامة على رؤية نفسها بتعابير ولغة الحاضر مسألة في غاية الأهمية لانه  ببساطة يجنبها الصدام بين ما هو قديم وما هو حديث، بين ما هو عصري وما هو تقليدي. منسأ الصدام بين قيم الماضي والحاضر على مستوى الامة هو عجزها عن رؤية تاريخها بعيون حاضرها. هذا العجز يغذي كثيرا مشكلة الهويات

الهويات الفرعية موجودة في كل امة ولا يمكن إلغائها لكن ابداع الامة يكون في بناء الهوية الجامعة اي الهوية الوطنية، وكون الامة تعيش ضمن اطار زمني وقيمي يتبدل ويتطور بشكل مستمر، فان عدم مواكبتها لذلك  يعطي الفرصة لكل جزء صغير من جسمها الكبير ان يرى نفسه كما يشاء

ربما قول محمود درويش " الهوية ما نورث لا ما نرث، ما نخترع لا ما نتذكر" هو التعبير الدقيق والمختصر عما اريد قوله ضمن هذا السياق. بمعنى اخر الهوية ليست شيئا ساكنا، لا شك لها عناصر ثابتة، لكن التعبير عن هذه الهوية بكل عناصرها هو مسالة متحولة ومتغيرة باستمرار

نحن كأمة عربية وجدنا انفسنا امام مهمة التصالح مع التاريخ والتحرر منه في نهايات الامبراطورية العثمانية. فمن المعروف ان العرب أضاعوا حكم الامبراطورية الاسلامية من ايديهم في مرحلة من الزمن، وانتقل هذا الحكم الى شعوب اخرى، واصبحوا يخضعون لحكم امبراطوريتهم بعد ان كانوا حاكمين لها. ومع هذا الضياع للسلطة ذابت الشخصية العربية ضمن فضاء اسلامي واسع ومتعدد الملل والاعراق.
ضعف الامبراطورية العثمانية واقترابها من الانهيار نبه العرب لضرورة اعادة بناء هويتهم او بتعبير ادق، نبههم لضرورة " البحث عن تعبيرات جديدة عصرية لهويتهم"، وهنا صدمهم السؤال : من نحن؟ من نحن بعد كل هذه القرون على امبراطورية عظيمة بنيناها وادخلنا فيها كل شعوب الارض؟ هل نحن مسلمون ام عرب ام عرب مسلمون؟  الاجابات جاءت متعددة ومختلفة، وهذا الاختلاف انعكس على طبيعة موقفهم من العثمانيين ومن التحالف معهم ام ضدهم في الحرب العالمية الاولى

لكن جاء الاستعمار الاوروبي وقطع عليهم هذا النقاش وبالتالي لم يتفقوا على اجابة، ثم ذهب الاستعمار وجاءت اول دولة عربية ما بعد قرون من الذوبان في امبراطورية اسلامية عربية _ باستثناء دولة محمد علي باشا في مصر_

اكبر مهمة ووظيفة كانت امام " الدولة الوطنية الجديدة" هو استكمال النقاش والاجابة على السؤال المطروح، اي بناء هوية جديدة تعبر عن امة لها شخصية جديدة، لكن كما هو واضح اليوم فان هذه الدولة فشلت في تلك المهمة، وان كانت مصر في زمن عبد الناصر حققت انجازات معينة، لكنها لم تكن شاملة وعميقة، لانها كانت سياسية لم تتح لها الفرصة للنبش في عمق التاريخ والثقافة

فشل الدولة في مهمتها هذه له اسباب كثيرة جدا لا يمكن مناقشتها هنا، لكن  ما اود التركيز عليه  هو  ان انبعاث الهويات الفرعية اليوم مشكلة لها كل هذا الامتداد التاريخي الذي ذكرته. فنحن خرجنا من العباءة العثمانية دون تعريف لانفسنا، واعدنا دخولنا للعباءة العربية دون ان يكون ذلك دخولا من باب العصر الحديث، لاننا لم نخرج بالكامل من العباءة الاسلامية. نحن صارعنا الاحتلال العثماني الاوروبي لكننا حتى اليوم لم نحسم من هو الطرف المنتصر في معركة الجمل او صفين؟ نحن قتلنا فرج فودة لاننا حتى اليوم لم نحسم النقاش الذي دار بين مدرستي الغزالي وابن رشد، فاحدهم بالنسبة لنا قديس والاخر زنديق. اذا هي اسئلة مازلت تنتقل معنا من زمن الى زمن

واليوم في زمن التغيرات السياسية في الوطن العربي، يتضح ان السؤال  الذي طرح قبل اكثر من قرن يعود ليطرح بقوة في بلاد كمصر وتونس ، لذلك انظر بايجابية للصدام والصراع الداخلي الحاصل اليوم لانه لا بد منه، مع استثناء التاثيرات السلبية لدور الفاعل الدولي ووكيله المحلي، لكن هذا الصراع ما هو الى محطة ستكون صغيرة جدا وقصيرة في محطات صراع قادم حتى نتصالح في النهاية مع تاريخنا ونتحرر منه بايجابية، وحينها فقط ندخل جميعنا ضمن هوية وطنية جامعة عصرية لا تلغي الهويات الفرعية ولكن تعبر عنها كلها بلغة حديثة
*باحث في العلاقات الدولية

2013-03-23