الإثنين 2/11/1444 هـ الموافق 22/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
إسرائيل من التفرد للشراكة الإستراتيجية/جمال ابو لاشين

 في نوفمبر من العام 1989 صدر تقرير استراتيجي أعده ( غراهام فولر ) لصالح ( مؤسسة راند في كاليفورنيا ) , وهي من أبرز المؤسسات البحثية العاملة في حقلي الدفاع والأمن , وسلم التقرير لوزارة الدفاع الأمريكية ، وكان يحمل عنوانا هاما وهو " لماذا أصبحت الدولة الفلسطينية حتمية ؟" , أما فحوى التقرير , فحسب فولر أن قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة هو النتيجة الأكثر توقعا على المدى البعيد , بانيا تصوره على عدة أمور كان أهمها :

1. قدرة منظمة التحرير الفلسطينية على البقاء , واستمرار القبو ل بها كرمز لآمال الفلسطينيين الوطنية .

2. رفض الفلسطينيين كل التسويات السياسية الاسرائيلية البديلة بحكم الانتفاضة التي جرفت كل العناصر التقليدية القابلة بالحكم الذاتي .

3. انسحاب الأردن كمشارك نشيط في الصراع بشأن التسوية , ووعي الفلسطينيين بإيجاد حل لمأزقهم .

4. اعتراف الإسرائيليين بأن الوضع القائم لا يمكن أن يبقى على حاله .

5. زيادة الضغط الأمريكي على إسرائيل للتفاوض مع المنظمة وقبول دول فلسطينية في المستقبل . وقد ذيل التقرير بنقطة هامة تقول: " إن تراجع حدة الصراع بين الشرق والغرب سيقلص بدوره أهمية إسرائيل الإستراتيجية " ، والحديث هنا عن الحرب الباردة . إن الحرب الباردة بمفهومها المعروف الذي يتحدث عن الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية أو بين الاتحاد السوفيتي وحلفائه وأمريكا وحلفائها انتهى منذ قرابة عقدين ونصف بانهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه فيما بعد وانتهى الصراع الايديولوجى بسياسة عملت على المزيد من النمو الاقتصادي وترتيب بيتها ومحيطها الجغرافي المجاور وأصبح منهجها كما صرح به رئيس الوزراء سيرجى ايفا نوف يتركز في أن روسيا لم تعد تصدر الأيديولوجيا بل تصدر الأعمال، والسؤال هل تراجعت أهمية إسرائيل الإستراتيجية ؟

  إن الأعوام التي تلت الحرب الباردة لم تثبت أن إسرائيل فقط تأثرت بانتهائها بل العرب أيضا فقدوا قدرتهم على استغلال العداء بين الشرق والغرب ، وان لم يستغلوها في السابق كما يجب ، في حين حارب آخرون خطر الشيوعية على العالم الاسلامى بدعم امريكى ، وبذلك لم يتمكن العرب من تفهم طبيعة الصراع الدولي واللعب على هذا التناقض فوجدنا أنفسنا نرتمي في أحضان الأمريكان سياسيا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا ،ونقف خلف الأمريكان مرتجفين من المصطلح الجديد للصراع الدولي الآخذ في التشكل ، وهو الحرب على الإرهاب ، وكنا الطرف الأضعف كمتهمين لايستطيعون الدفاع عن أنفسهم بعد أن انكشفنا أمام التفرد الامريكى في قيادة العالم ، ودفع العراق ثمن صموده وسط صمت عربي متخاذل، ومع تحول الصراع عادت إسرائيل إلى الواجهة ولم تفقد أهميتها الإستراتيجية مقابل عالم عربي متهم بمحاولة تقويض الغرب ، لتثبت إسرائيل من جديد أهمية وجودها في المنطقة العربية بالذات . ولكن لم تتمكن من مواصلة نفس الدور أمام الكثير من الدول التي أعادت صياغة علاقاتها بانتهاء الحرب الباردة . ومن هذه الدول التي نجحت برؤيتها الجديدة دولتان استغلتا الوضع العراقي وما آل إليه العالم الجديد وهما" تركيا وإيران " في حين فشل العرب في استثمار الحالة التاريخية سواء أثناء الحرب الباردة أو بعدها . هاتان الدولتان زاد تأثيرهما الاقليمى ، وأصبحتا الأكثر نفوذا في المنطقة العربية وشاركتا إسرائيل في الأهمية الإستراتيجية التي تفردت بها لعقود مع فارق المصالح والأهداف لكل منهما ، وعندما جربت إسرائيل قوتها في الردع سواء في لبنان أو قطاع غزة لإعادة هيمنتها وتفردها للمنطقة ، منيت بفشل لمسه العالم كله مما دعي الأمريكان للتدخل في كل مرة لوقف حروب لم تحسم بها إسرائيل بل تأذت في عقر دارها . هنا كان الاستثمار التركي والايرانى حاضرا كما حدث في العراق ووقف العرب على دكة الاحتياط كمتفرجين . فتركيا التي رأى فيها العالم الاسلامى لعقود طويلة دولة مرتدة عن الإسلام ، عادت لتلعب دورا مؤثرا لمزجها الناجح بين الإسلام والديمقراطية ، وتراثها كإمبراطورية عثمانية حكمت العالم العربي الاسلامى والكثير من الدول الأوروبية ، والتي اختفت لعقود طويلة حتى لا تفسر محاولاتها في التقرب بإعادة الهيمنة القديمة على جيرانها ، لقد عادت وهى تحمل هذا المخزون الهائل وسط اقتصاد ناهض ، فلاقت ترحيب في كل مكان حلت فيه وأعطاها تحديها لإسرائيل الصديقة على مر عقود هالة من القداسة طالما حلمت بها ، وبالتالي حتى لو لم تحدث حادثة مرمره لرأينا أيضا تدهور في العلاقة مع إسرائيل فتركيا العضو في حلف الناتو والصاعدة إقليميا بقوة باتت لاتحتمل التعامل معها بخفة ، والتأثير الاقليمى الذي تربعت عليه برضا امريكى دفع الرئيس اوباما لتخفيف حدة الخلاف بينها وبين إسرائيل فتركيا أصبحت ضمن مثلث القوة في الشرق الأوسط ولا يقتصر دورها على العالم العربي بل تعداها إلى الشرق الاسيوى حيث الصراع القادم بين القوى الدولية . كذلك فعلت إيران مستغلة الانشغال الدولي بالعراق وأفغانستان فأحكمت علاقتها بالكثير من الأحزاب والحركات في العالم العربي , وواصلت تطوير مفاعلها النووي بعد هيمنتها على العراق المحتل عندما غرق في وحله الأمريكان , وأصبحت العراق ساحة الصراع بدلا من إيران التي كانت فيها عونا للأمريكان على حساب السنة , كما استغلت الانتصار في لبنان وغزة لتثبت أنه بإمكانها أن تؤذي إسرائيل مما نقلها لمصاف الأقوياء الذين يملكون أوراق للضغط السياسي . وبالرغم من الربيع العربي الذي وان جلب الإخوان إلي الحكم إلا أنه لم يحقق تجربة ديمقراطية في الحكم والاستقرار وبالتالي باتت دول الربيع العربي في غمرة الصراعات الفكرية والطائفية , وأصبحت بطنا رخوا يسهل التأثير فيه وسط التخبط السياسي , والاقتصاد المنهار , والشعارات التي رفعتها الثورة ولم تنجح في تحقيق أي منها , وأثبتت التجربة حتى اللحظة أنها ثورات بلا أب والجميع يدعى بنوتها , وهو ما ترك المناخ العربي إلى حينه في تخبط وتراجع مستمر . وهذا يثبت بلا شك أن إيران وتركيا صعدتا في وقت ضعف فيه الآخرون , ومنهم إسرائيل التي أصبحت تتحدث أكثر مما تفعل بل تفتت أحزابها وتشظت , وشاركت أهميتها الإستراتيجية مع آخرين يبدون أكثر عقلانية , وثبات منها , وهو ما لمسه الأمريكان وفهموه لذا تعاونوا مع تركيا , وعلى الأرجح سيتعاونون مع إيران إن تمكنوا من احتوائها خصوصا وأن الصراع قد ينتقل بعد سنوات لشرق آسيا حيث صعود النمور الآسيوية والتهديد الذي يواجه الأمريكان من روسيا والصين في تلك المنطقة الجغرافية وهذا ما دعا اوباما لطمأنة إسرائيل , وبالمقابل أن تترك ملف إيران للأمريكان ليعالجوه بطريقتهم . وسط كل هذا لا يزال الفلسطينيون يحاولون تقليل خسائرهم والتمسك بحلم الدولة , خصوصا وأن الصراعات الدولية تشتد مع الاقتصاد المتراجع في أوروبا , وفي وقت العالم يموج بالتغييرات , والصراعات , والتقسيمات , وفي ظل دعم عربي متردد , نجد أنفسنا مجبرين على الإمساك بالتاريخ والجغرافيا بأسناننا وبكل قوتنا حتى لا نصبح خارجها , بانتظار حتمية الدولة الفلسطينية .

2013-04-26