السبت 11/10/1445 هـ الموافق 20/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
أزمة خلاّقة /محمد عزت الشريف

 في أول يوم عمل له بشركة دواجن الشمال سأله المدير : في أي وظيفة ترى نفسك أكثر فائدة للشركة أجابه على الفور: في وظيفة عامل. تعجب المدير وهو ينظر في مؤهلاته المتميزة في علوم الإدارة مسائلاً إيّاه : لماذا لا تستخدم مؤهلاتك الحقيقية في عملك بالشركة؟!

ردّ صاحبنا: سيدي ، ها أنذا بدأتُ بالفعل في استخدام مؤهلاتي العلمية في الإدارة واخترت وظيفتي الأكثر جدوى لهذه الشركة كعامل في المداجن.

بعد أسبوع كان صاحبنا قد مارس كل الأعمال اليدوية والآلية في صنف قاعات الدجاج البيّاض. ومن ثمّ عندما عرض عليه السيد المدير التنفيذي الاختيار بين وظيفة مراقب أجهزة في خفارة ليلية و وظيفة محاسب في الدوام النهاري. دون تردد اختار صاحبنا وظيفة مراقبة الأجهزة، وسرعان ما أسندوا له عملاً إضافياً يتماشى مع مؤهلاته في المحاسبة و إمساك الدفاتر، وثم زودوه بعدها بعاملين اثنين إضافيين وأوكلوا له مهمة إشرافية إضافية على وضع جرعات الأدوية للقطيع المليوني الضخم في الدوام الليلي. وهكذا تمرّس صاحبنا في مختلف الأعمال حتى زادت أهميته نظراً لتنوع معارفه في شأن سياسة وآلية عمل تلك الشركة الضخمة في وقت قصير قبل أن يطلبوا منه قبول النيابة عن مدير الحقل حال غيابه عن الدوام النهاري. بعد أيام من عمله التشغيلي النهاري لوحظ أن إنتاجية حقل 15 الذي يديره بالنيابة تزيد دائما عن إنتاجيته في الأيام التي يتواجد فيها المدير بالأصالة، بل وتفوق انتاجية كل الحقول من ذات النوع و التي تعمل في ظل ذات الظروف. لم يقف طموحه عند هذا الحد من التميز. بل طمح في أنه يستطيع بعون الله زيادة إنتاجية كل حقول الدواجن التسعة عشر الأُخرى من محصول البيض حتى وإن كان لا يديرها !! ولكن كيف ـ وهو لمّا يزل شخصاً مغموراً بالشركة وغريباً حتى عن المكان وأهله.؟ عند نهاية الدوام قرب عصيرة أحد الأيام؛ طلب من كل عمال الحقل العودة إلى قاعاتهم ثانيةً، و جمع ما لا يقل عن كارتونتين من البيض؛ بما يعادل 1000 بيضة إضافية من كل قاعة !. اندهش الجميع للوهلة الأولى وظن بعضهم أنها مزحة غير محبوكة تساءلت إحدى العاملات بقليل سخرية : من أين سنأتي بالبيض ؟ وقد جمعناه جميعه و جاء وقت انتهاء الدوام و التهيؤ للعودة إلى البيت؟!

قام صاحبنا على أثرها بالتصعيد و أعلن أنه لن يعود أحد إلى بيته قبل أن يجمع القدر المحدد له من البيض. اعترضت النساء بشدة وسألته إحداهن مستنكرة: وهل تجرؤ أن تحتجزنا ومعظمنا من النساء بهذه الصحراء المعزولة من أجل تلبية طلباتك هذه العجيبة المتغطرسة؟!

زاد صاحبنا الأمر تصعيداً و خصّ النساء دون الشباب والرجال بالحجز داخل الحقل حتى تمام انجاز مهمة جمع البيض التي هي من صميم مهامهن دون الرجال!! وفي الحال تم إبلاغ مجلس الإدارة بالأزمة وسط تهكم النساء وفيض سخريتهن: و هل تريدنا أن نبيض لك بدلا من الدجاج؟!!

ـ وهل علينا أن نغتصب الدجاجة لتبيض لنا بيضة الغدّ في هذا اليوم وتلك اللحظة لعلك ترضى أيها الغريب عن عادات وتقاليد منطقتنا التي تحرم خروج المرأة من بيتها بعد أذان المغرب؟!!

وقبل أن ينتهي سيل السخريات باللغات والغمزات والإشارات التي يفهمها و التي لا يفهمها؛ فوجئ صاحبنا بكل ما في مبنى الإدارة من عربات و عجلات و آليات متنوعة النوع و الاستخدام وبكل مَن بقى موجوداً في مبنى الإدارة من مسئولين و إداريين وفنيين، ورجال أمن، و قد وصل جمعهم و جميعهم متراصين و مزدحمين أمام وخلف بوابة حقل 15 الرئيسية!! تمتم صاحبنا في نفسه : يا لهذا الحظ العاثر.. !

لمّا نقدر على ألسنة نساء الحقل الساخرة. فكيف بنا ونحن نواجه جيشاً جراراً من الألسنة والأقلام وكاميرات المحمول ، والثابت، وأنواع أسلحة الرصاص والرش المحمول منها والثابت ..!

فضيحة وضجة كبيرة ولا شك، وعقوبة تتراوح مابين الفصل من العمل وحتى السجن بتهمة إحتجاز عاملات بعد دوامهن اليومي دون حاجة مبررة لذلك!! و لكن .. لا .. لما لا تكون هذه .. هي اللحظة نعم .. الآن الآن حانت اللحظة .. وبإلتفاتة حاسمة خاطفة وبصوت عال: سيدي المدير ، مهلاً .. أنا لست خاطفاً.. وهولاء لسن رهينات . لكني أؤكد أمامكم : لن تخرج إحداهن من هنا إلى بيتها قبل أن تجمع من قاعتها 1000بيضة على الأقل!!

لا توجهوا لي أي تهمة أو حتى سؤال أو استفسار أيها السادة و أمهلوني من الآن ـ فقط ـ نصف الساعة. أومأ رئيس مجلس الإدارة بالموافقة دون أن ينبس هو أو أحد ممن معه ببنت شفة : وعلى الفور أعطى صاحبنا لكل عاملة عدداً من طبقات كراتين جمع البيض الفارغة وصاح فيهن تعالين معي. ولا تصيّعن الوقت. دخل أول قاعات الحقل .. ذهب مباشرة إلى منحنيات و زوايا بعينها يعرف هو مسبقاً أن بعض الدجاج يترك الأماكن المعدة أساساً لوضع البيض ويذهب لتلك الأماكن ليضع البيض على الأرضية مما يسهل مهمة العاملات في التخلص من جهد جمع كل ذلك البيض الكثير بردم كل زاوية أو منحنى بحفنات قليلة من التراب الكثيف بالقاعات. دقائق معدودات وصاحبنا يكشف مناطق أكوام البيض و جميع العاملات من حوله ومن خلفه يلتقطنه من الأرض إلى الطبقات الكرتونية حتى تجمع أكثر من الـ1000 بيضة التي حددها صاحبنا لكل قاعة . وقفت كل عاملة من العاملتين المسئولتين عن تلك القاعة منزوية تعالج عرقها وخجلها، وتتهيأ لتلقى عقوبة إهمالها الكبير في أداء مهام عملها؛ لكن أملاً ما وحيداً قد بقى وهو أن تستغل كل واحدة الفرصة التى منحها صاحبنا لكل منهن بأن تجمع في أقصر وقت عدداً من البيض من أي قاعة غير قاعتها يفوق عدد البيض الذي تم جمعه من قاعتها المسئولة هي عنها في دوامها اليومي وأن العقوبة ستطال فقط أقل عاملة تجمع بيضاً أقل مما جمعته زميلتها من قاعتها المسئولة هي عنها في الدوام اليومي. .. وهكذا أخذت العاملات يتنافسن في جمع أكبر قدر من البيض في الوقت المحدد؛ حتى صار ذلك هو الهدف، وصارت مَن لم تتمكن منهن من جمع القدر الكافي من البيض تطلب وقتا إضافياً لجمع المزيد. وقد نسيت كل واحدة منهن هدفها في سرعة العودة لبيتها! وهكذا وقبل أن يتم نقل البيض وعاملات حقل 15بالعربات المتنوعة المتراصة حول بوابة وأسيجة الحقل الأمامية كان قد تم نقل وتداول الحدث .. وكان المديرون في اليوم التالي يرددون عبارة صاحبنا حتى حفظوها عن ظهر قلب : الإهمال في جمع بيضة يعني إهداراً في مجهود كل العاملين بالشركة طوال هذا الوقت ومنذ أن كانت كل دجاجة من هذا القطيع الضخم مجرد بيضة !! ***

2013-05-23