الأحد 1/11/1444 هـ الموافق 21/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
تجاوز المالوف في (مرام)/ علوان السلمان

السرد الروائي فن تخييلي وسيلته اللغة الموحية..المشحونة بصخب الحياة القادرة على تصوير الواقع واستلهام تناقضاته من خلال دائرة متسعة تتمتع بشموليتها لخارطة الوجود وقدرتها على رصد العلاقات الاجتماعية..كونها تنفعل وتتفاعل مع الحدث وتوتراته معتمدة على وعي المنتج الذي هو شكل من اشكال النشاط الذهني الذي يكشف عما خلف السواتر..بتوظيف عناصر تشكيل النسيج السردي التي تتفاعل من اجل تحقيق المتعة والمنفعة بتحريك الخزانة الفكرية للمستهلك(المتلقي)..متمثلة في اللغة/الحدث/الوصف/الحوار/الشخصية/الفضاء الزمكاني...
     و(مرام)العالم الروائي الذي يوثق لمرحلة تاريخية عبر السارد الراوي(ابراهيم) الشخصية ذات الحضور الواقعي التي تمارس وظيفة الفعل باعتباره ساردا وشاهد العصر الذي نسج عوالمه المبدع حسن النجار/2013.. بقدرة فنية متأملة في خلق شخصيات تعلق في الذاكرة وتصور البيئة الاجتماعية والفضاءات المكانية التي تتحرك فيها الشخوص ذات العمق النفسي..المشحونة بمفاجئات السلوك المتفرد..اذ يزاوج السارد بين الازمنة فيحيل الواقعي الى خيال حالم يضطر المستهلك معايشة الحدث بيقظة..
(حاول ان يتصور ما يمكن ان يكون في هذه الليلة..لم يكن هناك مجال للكثير من التفكير والتامل..لم يسترسل اكثر..حرك راسه الى الاعلى ثم حدق في السماء وانتهى كالمناجاة فاغرا فاه منعزلا عن  الحياة..ساكنا..)  ص5..
  فالسرد يستند في تقديم الحبكة على الرؤية من الخلف باعتماد ضمير الغائب الذي يتوارى خلفه السارد العليم ليقدم رؤيته للوجود عبر نسق زمني متنامي..اذ يبدا بضمير الغائب من خلال حوار داخلي مستذكرا حركة الزمن(حاول ان يتصور ما يمكن ان يكون في هذه الليلة..) وهو يسير بخط تعاقبي ـ افقي وفق رؤية تعتمد منطق التعاقب المشهدي المبني على الحوار..الذي يعزز عنصر الدراما في سرده الاجتماعي باعتماد السؤال والجواب في ثنايا السرد والوصف مستخدما الافعال(سال/اجاب/قال.)وهذه الافعال تقوم بدور الرابط بين مجمل الفقرات في سياق تتابع الصور ..الامر الذي يوفر حركة دينامية وحيوية وسرعة الزمن في دخول الحدث..فضلا عن دخول الطبيعة كعامل محدد للزمن..
(اول آية من الليل تطارد آخر شعاع احمر لشمس غابت خلف الافق البعيد فاظهرت اهتزازات الرضا والاعجاب من اغصان اشجار رقصت خضرتها الداكنة فرحا بقدوم مساء يوم جميل مثل نهاره..) ص5..
   فالراوي السارد يرصد الظواهر واللحظات والشخوص ويسلط عليها بؤره الضوئية من اجل الكشف عن دواخلها النفسية عبر حوار منولوجي ذاتي مع اعتماد الحكائية والنسج على ساريتها بدرامية الحدث(الحركة/التوتر/الفعل..)..وهو يميل الى المالوف الذي يتحول الى لغة رامزة يمكن تاويلها الى حالات دلالية..وهنا يصير النص معرفيا دافقا..ومحرضا ثقافيا يسهم في تشكيل ثقافة المستهلك عبر قراءة الواقع من اجل منح النص بعدا فنيا مزدوج الرؤيا..عميق الدلالة فيحقق وعيا يتجاوز المالوف..
(لقد بدات النجوم بالاختباء ونور الشمس الطفيف اخذ بالظهور يشق رويدا رويدا قميص الافق الرمادي..بدأت تظهر الالوان..لم يكن الطقس حارا كما انه لم يكن باردا..لذا لم يكن هناك سبب للتعاسة في داخل (ابراهيم)بل على العكس كان يمط بشفتيه متخيلا كل ما ينتظره هناك..ومع ذلك كان يقر في داخله بانه ليس سعيدا ولا حزينا..الانسيابية الحركية المرنة والهادئة للسيارة كانت تتيح للركاب الاربعة (ابراهيم(و(عزيزة)و(سعدون)و(هناء)..النوم وعلى الرغم من ذلك كانت عيونهم تلمع لمعان الفضة ..فكر ابراهيم في نفسه:ربما لانني شغلت نفسي في تلك الساعات التي مضت بالاحداث الغريبة وجدت ما كنت ابحث عنه..او ربما روح الانتقام التي دبت بي كدبيب النمل في قطعة حلوى ومن دون سابق انذار اشعرتني بوجودي...)ص137..
  فالسرد يخوض في لغة شعرية للاستعاضة عن النقص في الجانب الحدثي وتطعيمه بالوجدان الشعري..لذا فالانموذج الانساني عنده يبرز كوحدة اساسية منبثقة من واقع التشظي..فابراهيم يتحرك على مدى السرد كشاهد لعصره وانتقالاته رافضة على مستويين:مستوى الوعي ومستوى اللاشعور الجمعي الذي تجسده مواقفه..فضلا عن ان الكاتب يعتمد الاسلوب السيمي في انتزاع اللقطة الواقعية وتسجيلها وتوزيع مناخاتها والوانها فكان عنصر الحركة مشكلا احد معطيات المستوى الحسي للغة التي وظفت الاشياء بطريقة موحية اسهمت في تطوير البناء الدرامي..اذ توظيف الجزئيات للكشف عن دخيلة الشخصية وتطوير الحدث واعتماد الرمز الذي هو اداة فكرية للتعبير عن قيم غامضة تتطلب نبش الخزانة الفكرية والبحث المعرفي الغرض منه تصعيد التكنيك السردي من خلال بنيته وتركيبه وقدرته الاشارية..
(سار بوجل متوجها الى شقته وهو يدلك اسفل ظهره.. مازال الالم يرافقه حتى  وصل الشارع الخلفي..اهتز مرتعبا من سماع صوت غريب..توقف يسترق السمع..حثيث اصوات يعلوها صوت رجل مستنجدا ياتي من الجهة اليسرى للشارع..يمد رقبته من خلف زاوية حائط عتيق.يشاهد ممرا ضيقا ينتهي بساحة مكشوفة تقف فيها سيارة من الحجم الكبير تلك التي تشبه(الهمر الامريكي) لا يظهر له لونها.. انوار مصابيحها مضاءة.. يقف امامها ثلاثة رجال  يلبسون السواد اجسادهم ضخمة ملثمون يشهرون مسدساتهم الى راس رجل عند اقدامهم يلوح بيده يبدو متوسلا اطلقوا عليه عدة طلقات نارية اردوه قتيلا ثم رحلوا مبتعدين بسيارتهم..لتسود لحظة سكون هذياني لـ(ابراهيم)..ص9..
  فالسرد يمزج بين الواقعي والمتخيل..فضلا عن استثمار التداعي واحلام اليقظة وتفاصيل الحياة اليومية لاضاءة الجوانب الخفية في حياة الشخوص والزمكانية..اضافة الى ان الكاتب يستخدم اسماء الشخوص كايقونات تضيء المعنى المجازي لحياتهم داخل المتن في اداء معاكس للدلالة على ازدواجية الكائن في الحياة والاغتراب..ابتداء من العنوان العتبة النصية التي تشير الى مكون نفسي وفضاء رومانسي تجري صوبه الاحداث التي تصور العلاقة بين الانا والانا الجمعي الباحثة عن تاويل(اسم علم ام هدف ام مقصد..)..لذا فهي التي تحرك الذاكرة النفسية والاجتماعية وتسهم في انفعالاتها ..كونها الدلالة والفضاء الخارجي للنص..
   فالسارد يترصد وهج الانفعالات واعادة صياغتها بمظاهر الخطاب اسلوبا وبناء ودلالة مع استلهام المتناقضات التي تمتد على خارطة الجسد الاجتماعي..عبر حوار يرتبط بالشخصية فيحدد ابعادها..كونها تنفعل وتتفاعل مع الاحداث وتوتراتها مع محاولة مزج الحوار بالسرد عبر اسلوب حركي وتناوب الازمنة..اضافة الى توظيف لغة واقعية تحيل الى عالم الموجودات والاشياء والعلاقات والافكار بكل تجلياتها وانعكاساتها وتداخلاتها..فتكشف عن كنه الوجود الانساني الذي يتشكل بفعل المتغيرات واستجابة لها باعتباره جوهر الوجود..
  (ولكن كعادته(ابراهيم)فرمن امامها متوجها الى الحمام وما ان دخل حتى خرج ملوحا بمنديلها الذي مازال يقطر ماء صائحا وبلكنة الجنوب التي اتت ولا يعرف من اين اتت لكنها جعلته يتجرأ ليقول وفي نبرة صوته حزم واضح:
ـ اختي هاج هاي منشفتج..ورحمة لوالديج اطلعي من الشقة هسه..
عندما شاهدت الجد والحزم والشدة في صوته توجهت الى الخارج..توقفت برهة في مستطيل الباب فقالت قبل تجاوزه:
ـ على مهلك انظر انا خارجة الان ولكن ابق منديلي عندك..
ثم اشاحت بوجهها عنه ومثلما ينهي خرطوم الماء تدفقه اغلق الباب خلفها لتعود اجواء الشقة الى السكون المعتاد..)ص27..
وقوله:
ـ يصيح ضاحكا: ان لم تكن ذئبا اكلتك الذئاب..
ـ نعم لقد قلت الصدق الان  /ص34
   فالكاتب يشحن سرده بالتامل فادخل خطابه في خضم الاسئلة التي زاد من لهيبها ذلك الاستبطان الشفيف للموروث الشعبي بتوظيف اللهجة العامية والامثال في سياق النص ليعطي مدلوله المقصود بحد ذاته دون ان يفقد السرد تكنيكه..فضلا عن تتابع الاحداث من خلال استخدام اسلوب الاسترجاع وتيار الوعي.. فالشخوص الروائية تتحرك في عمق وضعها الانساني..لذا تظهر متوترة نفسيا وهي تمارس طقوسها الماساوية..وهذا يعني انها مأزومة تعيش صيرورتها في امكنة محددة وبيئة لها دلالاتها وهي تمتلك فاعليتها من خلال الحدث والحبكة التي تبدأ بـمن(ترجل من ..)وتنتهي بـ الى(قف هنا الى القرب من زوجتك واطفيء الشمع)مخترقة المساحة الفاصلة بينهما وسابحة وسط عوالمهما بلغة مشهدية متدفقة منسجمة وطبيعة السرد باعتبارها لغة فنية تحاول محاكاة الواقع دون مطابقته..
وبذلك قدم البحار نصا سرديا مستمدا من مجتمع يتسم بالحراك الاجتماعي مع اعتماد تقانات توفر لحظات التوهج ايحاء وتلميحا..فضلا عن امتلاكه مؤهلات التواصل والحضور فشكل رحلة لتحقيق الذات الفاعلة امام خواء الحياة..ومعطيات الواقع..
   لقد تميزت الرواية بتوازي الحدث والشخصية ..فالسارد يقدم وعي الشخصية باعتبارها ثيمة النص التي تعيش مجريات الحدث مكتنزا بتوتره الدلالي..اضافة الى استخدام الاسلوب السيمي في تحقيق التوازن بين الحدث الرئيس للنص والاحداث الجزئية من خلال الفلاش باك والحلمية.....

2013-07-23