السبت 22/10/1444 هـ الموافق 13/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
هل يمكن تطوير الفكر الديني ؟/تحسين يحيى أبو عاصي

 كل نبي أو مُفكر أو فيلسوف أو حكيم ( مع الفرق الكبير ) عبر التاريخ الإنساني الطويل ، يبذر بذور فكره في تربة العقول البشرية ، ثم يتداولها البشر ، فيزيدون عليها أو ينقصون، وفقا لخيال أفكارهم وواقعهم المُعطى ، فالفكرة التي أتى بها هؤلاء العظماء ، ليست من صنع رجل واحد فقط ، بل هي إبداع سلسلة من التأملات والأفكار المتصلة والمتواصلة ، التي أثمرت ثمارا تتناسب وطبيعة ذلك الزمان والمكان ، الذي ظهر به ذلك النبي أو الفيلسوف أو المفكر ، ووفقا لطبيعة التربة البشرية المتلقيَّة في ذلك الوقت ، ومتغيرات كينونتها الخاضعة للجغرافية والسياسة ... حتى أن الفكر السماوي استطاع البشر من أن يضعوا عليه بصماتهم ، من حيث التبديل ، والخلافات المذهبية ، وتعدد الآراء والمدارس الفكرية عبر التاريخ ، وكذلك الحال في الفكر المصنوع بشريا ( بعيدا عن الخلاف بين الأرضي والسماوي ) ، ولعل آخر تجربة في ذلك هي تجربة الدكتور يوسف القرضاوي ، الذي أجمع مع علماء العالم الإسلامي قبل سنوات ، على ضرورة تغيير الهدي النبوي ، وهو تغيير محمود ، من أجل مصلحة الأمة ، وذلك في موضوع تمديد فترة رمي جمرة العقبة ، بدلا من انتهاء توقيتها بغروب شمس يوم الوقوف على مِنى ، أي بعد يوم وقفة عرفة ، وذلك رحمة بالأمة ، حيث كان يسقط المئات من القتلى أثناء عملية الرجم ؛ بسبب الازدحام والتدافع ، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الحصول على ثمن تلقيح الفحل المنهي عنه ، ثم أجاز العلماء قبض ثمن التلقيح ؛ بسبب تغيير طرأ على الزمان والمكان ، حيث يتم استيراد الفحول من أماكن بعيدة ، والتكلفة الكبيرة المترتبة على ذلك من شراء ونقل وغير ذلك ، وهو الأمر الذي لم يكن من قبل ، فقد ارتفعت وتيرة الكثافة السكانية ، وقلت مساحة الأراضي الخضراء الصالحة للرعي المجاني ، وتعسر التنقل الذي كان من قبل بدون بطاقة إثبات شخصية وجواز سفر ، وخلافات سياسية ، وصراعات على الحدود ... الخ . وكذلك أيضا مسألة الشراء عن بُعد ، فقد أمر الشرع الحنيف بمعاينة البضاعة وتفحصها ، ودفع المال قبل أن تغادر البضاعة أرضها ، لكن العلماء أجازوا الشراء عن بعد من خلال الشبكة العنكبوتية ؛ من أجل توفير الوقت والجهد ، ورحمة بعباد الله ... لقد أفتى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في أمور تتعلق في العراق ، وعندما عاد إلى مصر وسؤل نفس الأسئلة التي سؤل عنها في العراق ، أجاب خلاف إجابته في العراق ، وعندما سؤل عن السبب قال : ما يصلح لأهل العراق لا يصلح لأهل مصر . من هنا نشعر بقيمة وبأهمية تغيير المفاهيم لصالح الناس وانسجاما مع الواقع المتجدد ، مهما كان نوع تلك المفاهيم والأفكار ، باستثناء الثوابت كالصلاة والصيام والزكاة وأمور العقيدة وما شابه ذلك ... فهل يتمكن علماء الأمة اليوم ومن جديد ، من صياغة رؤية إسلامية تجمع بين الثقافة الإسلامية والثقافة الوضعية من غير تعارض ولا تناقض ولا تناحر !؟ ، وهل سيملك علماء الأمة رؤية شمولية ليست جمودية ولا متيبسة ، بل رؤية مرنة متطورة مع الزمان والمكان من أجل مصلحة الأمة !؟ ، فالأمة لن تتقدم إلا عند انفتاحها على الآخر ، وعند تطور المفاهيم وتلاقحها المستمر ، وهذا ما حدث عند تلاقي الثقافة الإسلامية مع الهندية واليونانية والمصرية والبابلية ، فأنتجت مزيجا راقيا ، صنع نهضة علمية ، وثورة في المفاهيم المتجددة ، منذ فجر التاريخ الإسلامي ، فتعددت أساليب تقديم المعلومة ، وتطورت المفاهيم الدعوية ، ودخل كثير من الناس الإسلام عندما تأثروا بعظمة أخلاق المسلمين ، بعيدا عن العنف وسفك الدماء والتكفير والشطب والرفض والإقصاء ... عندما عاد الشيخ محمد رشيد رضى من فرنسا إلى مصر قال : وجدت في فرنسا مئة أسطول من العلم ، كل أسطول يقول : من ضربك على خدك الأيمن ، فأدر له خدك الأيسر ، أما هنا فوجدت مائة مسطول يقول : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ... محتوى قول هذا العلم الجليل يعني كيف نفهم الإسلام الذي يدعو للجمع بين الدنيا والآخرة معا ، ويدعو إلى المحبة والتسامح والرحمة ، وهذا يعني الجمع بين المبنى والمعنى للنص اللغوي في آن واحد ، سواء كان هذا النص آية من كتاب الله ، أو حديثا نبويا شريفا ، أو قولا مأثورا ، أو غير ذلك ، وهو الجمع بين مدلولات ثلاث ، المدلول الشرعي ، والمدلول اللغوي ، والمدلول الروحاني ، فالمدلول الشرعي هو مدلول ثابت واضح الرؤية ، والمدلول اللغوي فكثيرا ما تمّ تغييبه عن جهل أو قصد بسبب الخلاف حوله ، وأما المدلول الثالث فهو المدلول الروحاني ، وهو الأهم في رأيي ؛ بسبب فقر كثير من علماء الأمة بالروحانيات ، والتي هي البصيرة وليست البصر فقط مع ضرورة الجمع بينهما ... فالتمسك بمبنى النص فقط بعيدا عن معناه ، يغرق الأمة بكثير من الخلافات ويدفعها إلى التناحر ... الفرق شاسع بين مبنى الكلمة وبين معناها فكلمة "كعبة" - على سبيل المثال – يتكون مبناها من أربعة أحرف فقط ، وترمز إلى القدسية والطهارة والصفاء ، وتعني شعيرة تعبدية ، ولكن أعماق معاني كلمة " كعبة " لا يمكن أن يحيط بها قلم ، ولا كتاب ، ولا لسان ، ولا بيان ، ولا ندرك أسرارها الخافية ، والتي لا يعلم بها إلا الله عز وجل والراسخون في العلم من أهل البصيرة ... المعنى هو البصر وهو العقل ، والمعنى هو البصيرة وهو القلب ... قال صلى الله عليه وسلم : ما سبقكم أبو بكر بكثير صوم ولا صلاة ، ولكن بسر وقر في قلبه . حديث مختلف حوله ولكن لا بأس في معناه ... المعنى هو روح الكلمة ، وهو قريب من روح القانون في علم القضاء ، مع الفرق الكبير بينهما ؛ من أجل ذلك قال الحق سبحانه حول المعنى : (( لا يمسه إلا المطهرون )) وقال : ((وتعيها أذن واعية )) ... المعنى هو بحر في مكنونه الدر كامن كما قال الشاعر حافظ إبراهيم – رحمه الله تعالى - : أنا البحرُ في أحشائِهِ الدرُّ كَامِنٌ . . . فَهَلْ سَأَلُـوا الغَـوَّاصَ عَـنْ صَدَفَاتـي ولا يمكن أن يغوص بحر المعاني إلا كل غواص ماهر ، يستخرج من المعاني اللؤلؤ والمرجان ، كما يستخرج الغواص من البحر كل ثمين ... المعنى لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال القدرة على الاستشفاف ، والاسترقاق ، والاستلطاف ؛ لمعرفة ما وراء الحرف ، وما وراء المبنى من بحار المعاني والعلوم والفهوم المكنونة ، وهي صفات يجب أن تتوفر لدى كل من أراد الغوص في بحار المعاني ؛ ليستخرج منها جميل المعاني وأرقها .. المعنى هو نور يقذفه الله في قلوب الصادقين من عباده ؛ ليميزوا من خلاله بين الحق والباطل ، في زمن اشتدت فيه الفتن وأمست كقطع الليل المظلم ...

2013-10-20