الثلاثاء 11/10/1444 هـ الموافق 02/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
المطار المغدور/ خيري حمدان

نعم،
كنت على ثقة،
لن أجد أحدًا يحملُ يافطة باسمي في صالة انتظار المستقبلين في المطار الذي لا يحمل اسمًا أو عنوان. تردّدت قليلا قبل أن أغادر أرض المطار الرسمية، حيث رجال الأمن يتحملون كامل المسؤولية عن سلامتي وراحتي وسبل بقائي. أدرك بأنّ اللحظة التالية هي مخاض عسير، بمثابة ولادة غير مرغوب بها وعليّ أن أفكّر جليًّا قبل الإقدام على هذه الخطوة. في الناحية الأخرى وليس بعيدًا عن ناظريّ حدّدتُ معالمَ الوجوهِ العابسة المرهقةِ من طول الانتظار في صالة المرور المؤقّت "الترانزيت". تتواجد هناك حالات بشرية صعبة، رجالٌ لم يغادروا الصالة إلى أيّة جهة ما منذ أيام، ويُقال بأنّ محمد وهو شاب في الخامسة والعشرين من العمر على وشك عقد قرانه في الصالة، وقد مضى على وجوده قرابة النصف عام. لا توجد أيّة جهة رسمية أو أهلية ترغب باحتواء ما تبقّى من جسده الهزيل وروحه المتمرّدة، لذا قرّر أخيرًا عقد قرانه على الفتاة ذاتها، التي دخلت رواق الصالة قبل شهر هي الأخرى ولم تتمكن من المغادرة، وهما الآن بانتظار قاضٍ تعسِ الحظّ لإتمام الزواج، وقد وصل به الأمر لدرجة قبول حتّى قسٍّ لعقد القران، وغالبًا ما كانت إيمان تبكي سوء طالعها وقدرها وحتميّة الاجتماع بهذا الفتى في حالة من عدم الاتزان الكونيّ، في قارّة كلّ ما فيها خاضع للأمن والتفتيش والرقابة الصارمة، أمّا العسس فلا يتوقفون عن التحديق في الوجوه وكأنّ تدقيقَ وثائق السفر إجراءٌ لا يكفي، ولا يكفي أيضًا احتجاز الجسد في صالة مصادرة الأبعاد الفيزيائية وبخاصة المكان والزمان، ولا تقدِّم للمصابِ بداءِ انعدام الجاذبية والانتماء لأمّة ما سوى "التواليت". هكذا تتكرّر الرحلات من مقاعد الانتظار الطويلة إلى دورات المياه وبالعكس بهدف تحريك مفاصل العظام ودرء إمكانية السقوط في سراديب الجنون.
ما هي سوى خطوات حتّى أصبحُ مالكًا لحريتي داخل صالة الاستقبال الكُبرى، ولا أحد في الانتظار. لا حضن حبيب مشتاق، لا يافطة تحمل اسمي، تُرفعُ بين يدي فاتنة مُداعِبة شقيّة، لا شيء من هذا القبيل باستثناء ضجيج العربات المحمّلة بالحقائب والضحك والصخب المصحوب بحمّى اللقاء هنا وهناك. انقضت الخطوات المعدودة وأصبحتُ المسؤول الأول والأخيروالوحيد عن حركتي ووجهتي، أنا الآن في حضرة الانطلاق وكلّ الوجهات سيّان. لا حقائب، لا جهاز كمبيزتر محمول، أملك حقيبة يد صغيرة تحتوي على فرشاة أسنان ومشط لتسوية ما تبقّى من شعر رأسي بين الحين والآخر، وربّما رواية "البحث عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست، أحملها معي أينما توجهت في الآونة الأخيرة، لأنّهاتمثّل لي حالة من التحدّي بكلماتها المليون وصفحاتها التي تزيد على الألف ومئة وشخوصها التي تتجاوز الألف مصيرًا وبطل ما بين بارون وكونتيسة وبائعة هوى وتاجر ومحامٍ وما إلى ذلك. أعرف بأنّه يتوجّب عليّ قراءة الرواية بالتتابع وفي وقت قصير كيلا أفقدَ الصلةَ ما بين جمهرة الشخصيات. الكتّاب بطبعهم مجانين ولا يمكن الثقة بهم دومًا، وها أنذا أشعلُ الأضواء خلسة عنّي المتواجد في بهو المطار، حاملا بين يديّ لا شيء، أجلس أمام شاشة الحاسوب الذي يتمنّاه أنا الآخر هناك، أسطر حكايته، هو لا يدري بأنّ كلانا مصابٌ بانفصام الشخصية، ما يعني بأنّنا أربعة في واحد، نمثّل هذه الشخصيّة، نحاول الدفاع عن حقوق الإنسان الذي لا يدري كيف يدافع عن حقوقه في نهاية المطاف، نحاول إقناع أجهزة الأمن بالسماح لقاضٍ أو قسٍّ متسكّع بإتمام زواج محمد وإيمان كي يخلدا لذاتهما ويقضيا عام العسل في صالة العبور المؤقتة من وإلى القانون.
أراقب الآخر الواقف أمام مدخل المطار، وهو يحدجني محاولا طردي من أفكاره والتركيز على إمكانية اتّخاذ قرار ما. هو يعرف بأنّني أحتلّ حيّزًا كبيرًا من وجوده الفيزيائي والمطار يبدو مغدورًا، ومغرورًا به. لا أحد يرحم هيكله وبنيته الإسمنتية الهائلة والاستثمارات المليونية التي ضخّت في ركائزه، ولا يعرفُالمطار أسبابَإغلاقِ الأبوابِ من وإلى مداخله الكثيرة ومخارجه المتعدّدة، ولا يعرف ما إذا كان محمد مسلمًا سنيًّا أو شيعيًا أو مسيحيًا بروتستانت أو كاثوليكيًا، والأرجح أنّه مسلمًا ما دام يحمل اسم محمد، أمّا أسباب حجزه على شفا طائرة ومدرج فهذه قصّة طويلة تطول، كما قصّة العشق الهزليّ الذي جمعه مع إيمان.
توقفنا عن السير وجلسنا أنا والآخر على مقعد خشبيّ ليس بعيدًا عن المطار، في محاولة لتحديد الوجهة المقبلة والتخلّص من هذه الحيرة التي استرعت اهتمام وفضول رجال الأمن. هل نمضي الليل هنا أم نبحث عن غرفة في فندق قريب بالقرب من المطار كي نصعد إلى أوّل طائرة تقلّنا نحو كثب الغيوم على ارتفاع عشرة آلاف قدم على سبيل المثال. يقولون بأنّ الإنسان يكون قادرًا على التفكير بطريقة أفضل حين يمتطي السحب. تكمنُ المشكلة في أنّ المطارات بالرغم من سلبيتها المجرّدة من الإنسانية، قادرة على اختزال القرار بلفظ المسافر بعد أقل من ساعة من هبوطه على المدرج إلى الخارج. وعادة ما يركب المسافرون عربات الأجرة أو الحافلات المنتظرة للانطلاق إلى العناوين المألوفة في رحم المدينة. لكنّ، وفي حالتنا نحن المترددون ما بين البقاء في عالم الحلم واقتناص الكوابيس وما بين الخضوع للأمر الواقع، لا يمكننا الاستسلام لابتسامة سائق العربة ونفحه أجرته وحبّة ملبن مقابل بلوغ الرتابة اليومية، وبالإمكان الحصول على شقة سياحية في أطراف المدينة بأسعار معقولة للاختباء من المطر ووحشةالوحدة والطرق المجهولة، لكنّ مدرج المطار اختفى فجأة، هذا ليس وهمًا والركّاب يصرخون "لا مدرج" كي نهبط فوق أرض المطار،وها هي الطائرة تصعد ثانية مبتعدة عن أرض المطار المغدور.

2013-12-01