الإثنين 24/10/1444 هـ الموافق 15/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
اعترافات عفا عليها الزمن/ جوتيار تمر

مضت سنوات طويلة ولم أحاول مسح الغبار عن أوراق الماضي .. وعندما حاولت في ذلك اليوم أن أنبش فيها ، وأنثرها لأجعل سطورها تلامس الضوء المتسرب من ثقوب تلك الستائر المسدلة.
لفت نظري دفتر صغير مغلّف بطريقة طفولية بريئة وفي وسطه ورقة ملصقة عليها .. وهي مأخوذة من دفتر مدرسي مكتوب عليها بالحبر الأخضر كلمات تكاد تمحى.. "إليك يا حبيب العمر أهدي دفتري هذا لأنك عشت معي كل لحظاتي".
  أزلت الغبار المتراكم عليها وفتحتها ، وإذا بها كلمات بخط طفولي تنحشر وتتزاحم حتى لم يبق في الأسطر فراغ.. خطوط مائلة كتبتها يد صغيرة وهي في كل حروفها تبدو وكأنها سطور لتلميذة غير مجربة.
   في أول الأمر تحيرتُ لبضع لحظات .. وبدأت أتأمل وأتساءل لمن تكون.. لكن تلك الورقة الصغيرة المكتوبة بالأخضر .. جعلتني أدرك بأنه دفتر قديم وأنا أحتفظ به منذ سنوات طويلة .
  كنتُ دائماً .. كما أجد نفسي الآن عندما أقرأه تتساقط من عيني دموع تتناثر بين طيات صفحاتها .. وهاهي تتجمع مرة أخرى محاولة الذبول بين تلك الأسطر.. تلك الطفلة الهادئة الجميلة الرقيقة التي كانت كتلة حنان ثائرة على الوجود .. كان أهلها يسكنون في زقاق حي قديم من أحياء مدينتي التعيسة يوم ذاك.
    كنا في العمر الضائع بين الأحلام والواقع .. بين الطفولة المراهقة البريئة.. والروح الشبابية الثائرة .. بين الابتسامة والحزن .. وهي برغم ذلك العمر كانت .. تمتلك نظرات لا أظن أن هناك من يجيد قراءتها الآن.. أذكر أنها كانت تعشق صور الأطفال والدمى ولا سيما دميتها التي كانت تسميها (....) أذكرها الآن في حبها وحنانها وتعلقها بدميتها .. كانت تقول لي دائماً بأنها من قسوتي عليها لا تجد سوى دميتها هذه تسكب عليها الحب .. فتغمرها بالحنان خاصة عندما كانت تحس بالوحدة في عالم بارد كهذا الذي نعيشه.. علاقتنا كانت قد تعدت الشائع.. وكانت تملأ لحظاتي فرحاً كلما التقينا.
  وذات يوم وصلتني منها ورقة صغيرة تقول فيها وكأن دموع السماء قد غسلت كلماتها بأنها تريد رؤيتي .. وعندما التقينا كانت تبكي بحزن طفولي غريب وكأن المسيح قد صُلب أمام عينيها .. أخبرتني بعزم أهلها على السفر .. وقالت أفضل الموت على أن أفقد الأمل في رؤيتك  كان ذلك شعورها الأول بالحرمان والعجز أمام شيء ما.. ففضلت الموت على ذلك.
  لم أعرف كيف أواسيها ؟ وأخفف من حزنها آنذاك.. فافترقنا على أمل اللقاء .. وبعد أسبوع جاءتني ورقة أخرى .. وعندما التقينا أعطتني هذا الدفتر وقالت بصوت ممزوج باليأس هذا قلبي فأحتفظ به لأنه كان لك ولأنك عشت معي كل لحظاتي .
  الآن وبعد كل هذه السنين أعود وأقرأ هذا الدفتر .. هذا القلب وأنا لا أقدر أن أمنع دموعي على حافة العين أن لا تتساقط.
وأذكر بعدها .. بعد لقائنا لم تهدأ الطفلة البريئة .. ظلت ثائرة .. تبتسم لحظة وتنزف عيناها لحظات .. كانت تسأل الجميع عن معنى السفر علها تسمع من أحدهم ما يمكنها أن تطمئن به قلبها .. وما يمكنها أن تقنع نفسها بأن المسافات لا يمكنها أن تقتل الحب الذي قد تمكن من قلبها  لكنها أيقنت من كلماتهم بأن السفر من يقصده لا يعود .. هكذا ظلت المسكينة تحوم حول نفسها وتحضن بلهفة الأم دميتها .. حتى أعلنت الساعة عن موعد رحيلها إلى عالم آخر .. ذاك العالم البارد .. وكأن الأقدار كتبت عليها البقاء هنا .. لأتعذب أنا بذكرها ما نبض في أعماقي القلب ..!
  فقد خرجت ذات صباح بعد أن قبلّتُ دميتها وسارت في طريقها اليومي وعندما وصلت إلى حافة ذلك المكان الذي يقسم طرفي مدينتنا التعيسة.. وقفت هناك وبدأت تتأمل الوجود .. وأعادت بذاكرتها .. الطفولية البريئة إلى الوراء القريب .. دمعت عيناها وودعت المكان وكأنها على موعد مع رحيلها .. نهايتها وتابعت مسيرها وهي في شبه غيبوبة وفي لحظة خارجة عن الزمن .. لحظة عبورها .. كان الزمن.. الوقت قد انتهى وكانت الرحلة قد أسدلت عليها الستار  ولم تشعر بنفسها إلا وهي تطلق أنفاسها الأخيرة هناك .. حيث الآهات تتعالى من كل زاوية قبل الوداع .. همست في أذن أختها .. "اعتني بدميتي (....)" فهي قد عاشت معي كل لحظاتي .. تسارعت أنفاسها وبعد لحظة أسدل الستار على حياة أجمل وأرق طفلة .. لتغطي بعدها العتمة حياة أقسى وأتعس طفل.

28-10-1998

2014-01-06