الخميس 9/10/1445 هـ الموافق 18/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
محمود سعيد .. تحيّة /د. حسين سرمك حسن

ليس مهماً، أن يكون محمود سعيد، قد فاز بجائزة فتى العراق عام 1956عن قصّته "بندقية صيد"، وهو بعمر ثمانية عشر عاما، كما ورد في سيرته فهناك من كتبوا القصة بعمر أبكر ، وليس مهما أيضا، أنه أصدر مجموعته القصصية الأولى بعد ذلك بعام واحد "بورسعيد وقصص أخرى"، والتي يقول عنها، أن نسخة واحدة منها، كانت محفوظة في المكتبة الوطنية ببغداد، ولا يعلم إن ظلت على قيد الحياة أم لا، بعد تعرّض المكتبة الوطنية – وفيها جزء عظيم من تراث العراق الثقافي الهائل – للحرق على أيدي الأميركان الخنازير الغزاة وقت احتلالهم للعراق في عام 2003 المشؤوم، على الرغم من أن الإشارة الأخيرة – احتمال حرق مجموعته الأولى هذه التي من المؤكد أنه لا يحتفظ بنسخة منها لأن تلك الأيام لم تشهد ثورة حفظ المعلومات التي نعيشها الآن – تكشف مقدار الخراب الذي يلحق بما هو مدوّن من الثقافة العراقية. وقد اشار أحد المختصين إلى أن لعنة حرق وتدمير وسلب المدن العراقية بكل ممتلكاتها – ومنها الثقافية – قد يكون واحدا من الأسباب التي جعلت العراقيين يلجأون إلى استخدام ألواح الطين في الكتابة وليس البردي أو جلود الحيوانات! وهناك أشارتان أخرييان عن روايتين : "ضجة في سوق راكد – إضراب القصّابين" (1959) و"شباط – قضيّة قديمة" (1963) يقول إنهما أتلفتا بسبب الصراعات السياسية العنيفة والدموية التي اجتاحت البلاد بعد انقلاب الثامن من شباط عام 1963. وكل ذلك يؤكد مقدار الخراب الذي أوقعته السياسة في الثقافة العراقية عموما، والمكتوب منها المغاير والمختلف نهجا خصوصا. في أوروبا يُطبع كتاب كفاحي للزعيم الألماني النازي "أدولف هتلر" وهو دليل عمل "فكري" للنازية ، وعندنا يقوم أي حزب بحرق كل تراث الحزب السابق عندما يستولي على السلطة !!
أقول: ليس مهما تلك النتاجات المبكرة، برغم أهميتها في تاريخ محمود سعيد الشخصي، لكن المهم هو مثابات التحوّل النوعية التي حققها محمود سعيد في مسيرته السردية اللاحقة، والتي مثلت إضافات نوعية للفن الروائي العراقي، وفي مقدمتها بطبيعة الحال روايته "زنقة بن بركة" (1970) التي شكلت نقلة نوعية في بناء الرواية العراقية، وأسسها الفكرية والفنية والجمالية، حتى ليكاد الناقد يقول إنه لولا صدور رواية الراحل "غائب طعمة فرمان" "خمسة اصوات" في عام 1967 ، أن رواية محمود هي التي دشّنت دخول الرواية العراقية عهدها الفني الناضج.
ثم يأتي الإنجاز الفذّ في عام 2008، حيث اختار موقع (شؤون المكتبة – library thing) وهي مجموعة من المتطوّعين منبثّين في جميع أنحاء العالم يقوّمون كل ما يُكتب باللغة الإنجليزية أو ما يُترجم إليها (192) رواية كأفضل ما أنتج في مجال الرواية خلال قرن كامل. وحصلت رواية محمود سعيد "أنا الذي رأى" على أربع نجوم من خمسة، لتكون إحدى أفضل إثنتين وخمسين رواية في العالم. وهذا الأنجاز هو وسام يوضع على صدر الفن السردي العراقي.
وفي عام 2008 حقق محمود سعيد إنجازا روائيا آخر يضاف إلى رصيده السردي من ناحية، وإلى مسيرة الفن الروائي العراقي من ناحية أخرى، وذلك عندما أصدر "ثلاثية شيكاغو"، وهو عمل ذو نفس ملحمي، يتكون من ثلاثة أجزاء هي :
1- حافة التيه
2- أسدورا
3- زيطة وسعدان
إن موضوع هذه الثلاثية شديد الرتباط بمتغيرات الحياة الراهنة مع علمي أن موضوعات الفن المتميز حيّة لا تموت ولا يُستنفد دورها في مرحلة معينة. فقد كُتبت ملحمة جلجامش – على سبيل المثال - من قبل شاعر عراقي سومري "مجهول" منذ أكثر من أربعة آلاف وخمس مئة سنة ، وهي حيّة تتناقلها الأجيال بعد اكتشافها لأول مرة عام 1853 م . ومازلنا نتمتع وننشغل بألف ليلة وليلة وروايات دستويفسكي وفلوبير وستندال ومسرحيات سوفوكل وشكسبير وغيرها برغم مرور مئات وعشرات السنين عليها. لكن الحياة الراهنة محليّا (عراقيا وعربيا) من ناحية، وعالميا من ناحية أخرى، تتطلب جهدا محايثا وموازيا من قبل المبدع الذي تحاول أغلب التيارات الغربية الحداثية وما بعد الحداثية، أن تخلع صلته بهموم مجتمعه خصوصا وآلام الإنسان المقهور في كل مكان عموما. وأتذكر هنا حديثا للروائي الراحل "مهدي عيسى الصقر" عن الرواية الغربية الحديثة قال فيه :
(فلو أخذنا الروائي الفرنسي (ألن روب غرييه) الذي يعده الكثيرون من أعمدة الرواية الحديثة المركزية، فسنجده لا يهتم بالإنسان إلا قليلا في أعماله . القصة يجب أن تقف على قدميها بعيدا عن هذه الأمور حتى لو كانت بالطريقة التقليدية أو أي شكل آخر ، إذ يجب أن تشد القاريء ، وأن يكون فيها حس إنساني وإقناع بصرف النظر عمّا إذا كانت واقعية أو خيالية أو أسطورية . وبالنسبة لي أعتبر الحس الإنساني أهم من كلّ شيء على عكس جماعة "الرواية الحديثة" الذين لا يعنون فيه. إذ أن العملية قائمة عندهم على اللعب بالكلمات، والبناء كله كلمات . والمؤسف أن بعض الشباب بدأوا يكتبون بهذه الطريقة بعد أن سوّغها لهم بعض النقاد . فمثلا رواية " الغيرة " لألن روب غرييه ، يتحدث الكاتب فيها عن أشجار الموز وعددها وعدد صفوفها وحجمها وغيرها من الأمور ، بينما يمر على الأفارقة الجالسين مرور الكرام . وينطبق هذا الأمر على القصة أيضا ) (1).
لقد تمسك محمود سعيد – ومنذ أعماله الأولى – بهموم ومحن الإنسان العراقي المسحوق وانتصر لها حتى وهو يرصد إنكساراته الموجعة ، مؤكدا أن على الفنان أن لا يتعالى على هموم الإنسان ، وأن يكون – من دون أن يغفل الإشتراطات الفنية واللغوية والجمالية طبعا – في خندق هذا الإنسان في اي زمان وفي أي مكان وتحت أقسى الظروف. وكيف لا ينتصر لإنسان أرضه، وهو الذي كان شعار حياته – ومنذ مرحلة مبكرة في نشاطه الإبداعي - ومايزال الإنتصار للإنسان المقهور في وجه الطغيان والإذلال والإنسحاق، والذي عبّر عنه بقوله :
(أنا مستعد للوقوف مع أي مظلوم حتى ينال حقه، ولو كان الظالم أخي. إنني أومن بحق كل الناس بالعيش والحياة الكريمة، مهما كانت معتقداتهم وانتماءاتهم الوطنية والقومية، ولذا فلن ترى شخصاً متعصباً محترماً في رواياتي) (2).
    ولو لاحقنا النتاج الروائي الغربي فسوف نلاحظ أن موضوعات الغالبية المطلقة من الروايات هي موضوعات فانتازية وأسطورية وبوليسية وغرائبية يكتبها أغلب الكتّاب وعينهم على هوليود. وآخر ما يتم التفكير فيه هو أن للإنسان هموما اجتماعية ونفسية واقتصادية وطبقية. والمصيبة أن بعض الكتاب العرب قد "فهموا" اللعبة ، فبدأوا في مسعاهم للحصول على ترجمة أعمالهم والإنتشار في الغرب – وهو مسعى مشروع بالتأكيد – يكتبون النصوص الروائية التي تتحدث عن الجنس والإنحرافات والقهر الطائفي والديني في مجتمعاتهم تماشيا مع الموضوعات المركزية التي تروّج لها الآلة النقدية الغربية الهائلة وهي الجنس (الشاذ منه خصوصا كالعلاقات المحارمية والجنسية المثلية) والعنف ، ووصم المجتمعات العربية والإسلامية بالتخلف وقهر المرأة ومصادرة الحريّات ، ونبش الجذور الطائفية والمذهبية عبر لعبة "الوثائق" والكنوز المطمورة والمتاهات على طريقة "شفرة دافنشي" الرواية "التوراتية" مثلا .. إلخ. وفي قلب المجتمع الذي يمثل الأنموذج المغوي والخارق لهذا التوجّه الهادر – وهو المجتمع الأمريكي – يقف محمود سعيد صامدا ومصرا بعزم وثبات على إيمانه بأن الأدب يجب أن يُسخّر لملاحقة تحولات حياة الإنسان وخيباته وإحباطاته ، وأن على الأديب مسؤولية كبرى في هذا العالم الجائر. وقد فرض عليه هذا الإيمان الراسخ ان يبقى على شطآن المدرسة الواقعية – طبعا ليست الواقعية الفجّة ولا الكلاسيكية – التي هي واقعية حديثة بوصف دقيق. وارتباطا بالموقف من الواقعية وبآراء "ألن روب غرييه"   فقد عقب الروائي "حنه مينه" في مؤتمر الروائيين العرب والفرنسيين الذي انعقد في باريس في عام 1988 على محاضرة الروائي " ألن روب غرييه" التي انحازت كما هو متوقع إلى رواية الأشياء بدلا من رواية الواقع حيث قال :                                                                                         ( إنني أحترم السيّد آلان روب غرييه وأقرؤه . لكني وجدت في كلامه شيئا من التناقض لعله يكون ناتجا عن الترجمة . فهو مرة يقف ضد الإلتزام  ، ومرة يقول إنه لا يرفض الإلتزام . وهو يقول أيضا إن من شأن الأدب أن يطرح أسئلته على العالم . وهذا صحيح . فأي عمل أدبي وأي رواية لا يطرحان التساؤلات لا تكون لهما أية قيمة فنية . لقد حمل السيد آلان روب غرييه على الواقعية وقال إن هناك كتّاب واقع وليس كتّاب واقعية . وأنا أقول الواقعية شيء كبير في حياة الرواية . ، ليس في الزمن القديم فقط وإنما في الوقت الحاضر أيضا . لكن لدي هنا ملاحظة : لقد سئل بابلو نيرودا مرة : لماذا لا تكتب عن الزهور ؟ فأجاب : أنظروا إلى الدماء في شوارع الشيلي . ونحن الذين نعيش قضايا ساخنة ولاهبة لا نستطيع إلا أن نكتب عنها . نحن لا نستطيع إلا أن نقول للذين يريدون أن نكتب عن ترف الفن : انظروا الدماء في شوارع الأراضي العربية المحتلة في فلسطين . إن هذه المواضيع تفرض ذاتها علينا ، وهي تحتاج إلى الواقعية الخلّاقة التي يمكن من خلالها أن تقول الرواية أشياء كثيرة ) (3) .
ومحمود سعيد لم يستطع أن يغمض عينيه عن الدماء التي سُفكت ، والتي ستُسفك – وقت كتابة الثلاثية – في وطنه بفعل عدوانات الولايات المتحدة الأميركية الوحشية على العراق، وبينها حصار العشر سنوات المجرم الجائر الذي اجتث مليون إنسان من شعبه.
وبعد الإحتلال الأمريكي المجرم للعراق، وتدميره، وتحقيق التعهد الأمريكي بإعادته إلى العصور الوسطى، ظهرت روايات تنحاز بشكل مخز وسافر لهذه الواقعة اللاقانونية واللاإنسانية ، وفوق ذلك تزيّن للقارىء العراقي خصوصا صورة المجتمع الغربي في بلدي العدوان الرئيسيين : الولايات المتحدة وبريطانيا، وحياة المهاجر المسترخية والموقرة وحسب قول أحد الكتاب العراقيين الذين يقيسون الوطنية بالوثائق والمعونات : بريطانيا منحتني الجواز والكرامة!! ناسيا أو متناسيا أن من لا يستطيع انتزاع كرامته في وطنه من برائن الذئاب، سيحتقره من يمنحه إياها من "جيبه" وسجلّاته في بلد غريب وهو مسترخ مع النوارس. وعلى طريقة أمهاتنا الأميّات اللاحداثيات في التعبير : ( الذي يطلع من داره ، يقلّ مقداره).
لكن ثلاثية محمود سعيد، هذا العمل الضخم (أكثر من 680 صفحة) ، تكشف بلا تردد وبلا لبس، طبيعة المجتمع الأميركي الفردوسي الذي منّى المهاجر العراقي نفسه به طويلا، كجحيم لا يُطاق، ومصدر ضغوط جسيمة يواجهها في محاولة التكيّف مع طبيعة الحياة فيه. فبرغم توفير الجواز و"الكرامة" إلا أن الكثير من المهاجرين العراقيين – في العيّنة التي عرضها محمود سعيد على الأقل – يواجهون ضياع "دلالات" ذواتهم ، في مجتمع يقوم على اساس "فصل الدال عن المدلول" ولانهائية المعنى وصولا إلى ضياعه، ويسوّي بين الإنسان والمادة . 
والثلاثية أيضا هي محاولة متفرّدة للغوص في أعماق نفسية المهاجر العراقي تحديدا، وما يعانيه من مصاعب، ويواجهه من تحولات بعضها يبدو مستحيلا لأنه يخالف الطبيعة البنيوية لشخصية هذا المهاجر. فهي لا تتردّد في الإمساك الحازم بمواضع الإختلالات العميقة في شخصية المهاجر والتي يأتي محملا بها من وطنه الأم فتربك حياته في البلاد الجديدة. وهي – أي الثلاثية -  كشف لما يجري في مجتمعات هؤلاء المهاجرين من سلوكيات وصراعات وأفعال ملتبسة ومقلقة جعلتهم أنموذجا ينطبق عليه المثل العامي عن الكائن الذي "يضيع المشيتين"، بكل ما يعنيه ذلك من ضياع وخيبة وصراعات. وعلى الرغم من أن المكان الذي اختاره محمود بنجاح هو "شيكاغو" الولاية الأميركية التي يعيش فيها منذ عقدين والتي عرف تفاصيلها كدليل مقتدر ، إلا أن الثلاثية وخصوصا في جزءها الأخير هي بحث في معاناة المهاجر العربي إلى أي بلد غربي بشكل عام. فهو يدرك أن "الرحيل – اي رحيل – يعني قليلا من الموت".  
وهناك سمات فنّية وجمالية باهرة على المستوى اللغوي والتصويري ، وعلى مستويات اللعب على أوتار الضمائر الساردة وموضوعة الزمان والمكان ميّزت بناء هذا العمل بأجزائه الثلاثة ويسّرت السبل أمام المتلقي للتعرّف على ملامحها وسلوكيات شخصياتها وتعقيدات علاقاتها والتشابك المشوّش لعالمها الداخلي بالعالم الخارجي .
لقد قدّم محمود سعيد ملحمة روائية عراقية ستكون علامة فارقة في مسار الفن السردي العراقي .. فتحية له .
هوامش :
----------
(1) الزاوية والمنظور – سلسلة الموسوعة الصغيرة – العدد 465 – بغداد – 1996 .
(2) من حوار أجراه الناقد الدكتور فاروق أوهان مع الروائي محمود سعيد ونشر في مجلة اروائي الإلكترونية عام 2011.
(3) الإبداع الروائي اليوم – أعمال ومناقشات لقاء الروائيين العرب والفرنسيين – آذار – 1988 – دار الحوار – اللاذقية – 1994 .

2014-01-12