السبت 15/9/1446 هـ الموافق 15/03/2025 م الساعه (القدس) (غرينتش)
الدون كيخوت وخيانة المثقفين/ عفاف خلف

ما الذي كان يدور في بال سيرفانتس حين استرسل في معاركه مع طواحين الهواء متقمصاً الدون كيخوت، وداع عالمٍ من القيم والأخلاق في كوميديا سوداء، أم ربما رثاءً ساخراً لما كان. أياً كان قصد سيرفانتس لن يخطر في باله أن قارئاً ما سيسحب رائعته إلى عالم المثقفين الأسود، أننا سنرى شعراءً وكتّاباً يتقمّصون الدون، يلوكون الهواء في معارك لا تنتهي لإنتاج الهواء، سيحيلني الهواء إلى أوكسجينٍ ما نتنفسه فتستقيم الحياة. تصبح " الكلمة " الكينونة، " الكلمة " الرؤيا رديفاً للحياة وما يُحقظ، وعلى الطرف الآخر ما يحملة الهواء من غازاتٍ أخرى، الكثير من الغازات.
هل هذا يشبه فضاءً "نتياً " يحوي عشرات، مئات بل ألوف الأفكار المتشابهة، المتمايزة وتحمل قاسماً مشتركاً، سيفاً خشبياً يحارب طاحونة هواء. منذ البدء و" المثقف" متهمٌ بالعيش في برجٍ عاجي، منذ البدء وهو يحمل جينات الانفصام عن "واقعه"، وأتت الشبكة العنكبوتية لتكّرس هذا الانفصام،  أتت لتحيل جدار " الكاتب/ الشاعر/ المثقف " إلى شرفةٍ تطل منها دولثينيا في مشهد " حبٍ/ أو تبجيلٍ " لا يستند إلا على حامل " الوهم " الأساس.
مرةً أخرى من هو الكاتب؟ إذا اعتمدنا التعريف الروسي للكاتب يكون "الكاتب هو كل من قال عن نفسه كاتباً"، " فالكاتب في اللغة والثقافات المختلفة هو شخصٌ ينتج الأدب"، وثمة تلك المقولة التي تحّمل الكاتب رسالةً ما قُيضحي نبياً، يقول إدوارد سعيد " إن الدور الرمزي للكاتب كمثقف يُظهر، ويثبت تجربة البلاد بإعطائها هوية شعبية محفورة للأبد في أجندة العالم المتنقلة.  سوف يُدهش القارئ للأدب الصهيوني إذ يجد " أن التاريخ اليهودي يثبت بأن الفترات التي ساهمت في إثبات الشخصية اليهودية كانت تلك التي لم يضطهدوا فيها.." وسيجد أن مؤتمر بال ليس سوى تتويجاً لسلسةٍ من الضغوط مارس فيها " الأدب الصهيوني " دوراً أساسياً في خلق الوعي بتلك " الشخصية اليهودية " أولاً، وتثبيت حقها في "أرض الميعاد " ثانياً وعليه كانت " الصهيونية الأدبية " مادة " للصهيونية الفكرية " التي كتب عنها هيس وبنسكر وهرتزل وغيرهم. " لقد قاتلت الحركة الصهيونية بالأدب قتالاً لا يوازيه إلا قتالها بالسلاح".
هل كانوا أنبياء " لفكرة "؟ هل كان ولاؤهم لسلطة؟ أم ربما لحلم!!
ما هو دور الكاتب؟ دور الفنان؟ دور المغني، الرسام، الشاعر والمثقف؟ إلى أي حدٍ علينا الاضطلاع بدور في عالمٍ لا يمكن فيه عزل الشعبي عن السياسي عن الاقتصادي عن الفني! إلى أي مدىًّ ستخدم مقولة " الفن لأجل الفن " أصحابها! كيف يمكن فصل الاجتماعي والحياتي واليومي والمعاش عما يتم إنتاجه من أدبٍ وفن، كيف لنا عزل الفن/ الأدب عن واقعه الاجتماعي والسياسي معاً لنربي تلاميذاً في مدرسة " الجمال " تبحث عن أكثر التعابير غرائبية وجمالاً دون حمل مضمونٍ ما، سوى "الجمال ". وكأن الفن/ الأدب استحال مرايا ونحن ما يجريه القلم على الوجه والجسد من تجميلٍ ونحتٍ وتهذيبٍ وقص في إنسحابٍ دائم، ويغرق الأديب / الفنان في عزلته، والعالم في ذئبيته.
ما الذي يحمله دون كيخوت ليواجه ذئبية هذا العالم؟ـ إنسحاباً من واقعه حد خلق عوالم وهم، مواجهةً مع عالمه حد الإنكفاء على ذاته!!
لم يكن الدون كيخوت " فارساً " ساذجاً، رغم كل الدلائل، بل كان رقيباً على القيم والأخلاق وعادات المجتمع، وفي قراءاتٍ أكثر تعمقاً قيل أن دون كيخوت هي إهانة سافرة لدوق ليرما القوي،  فدون كيخوت الذي  يقاتل طواحين الهواء والأغنام، كان يحارب دوق ليرما في  خفضه قيمة عملتيّ الذهب والفضة بإضافة عملة أخرى من النحاس عُرفت باسم عملة الطاحونة والصوف. مما يعني أن العمل كان هجاءً موجهاً إلى القومية الإسبانية، عدا " فروسية " طبقة النبلاء " المصطنعة!!
هل يتّصب الكاتب / المثقف نفسه " ناقداً "!!
ورد في الأثر: إنه " إذا فسد العالِم فسد العالَم "

المقال نشر في ورقية الوسط اليوم

2014-02-12