الثلاثاء 18/10/1444 هـ الموافق 09/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
محمود المسعدي ورحلة الوجد / مشروع قراءة بقلم فوزي الديماسي

lمحمود المسعدي سؤال في النثر عنيد ، ونافذة على الشعر ، هو جمّاع نصوص وأجناس ، يراوح مكانه بين المسرح والتراث والفلسفات الحديثة والتصوّف . هو نصّ يبشّر بتواشج الأنا والآخر على أديم الكتابة كسؤال حارق في الوجود المجبول على معانقة الترحال بحثا عن نصّ النّصوص ، هو قلم فتح في النثر فتحا يؤمن بالإنيّة في غير إسراف ، وبالغيريّة دون انصهارغبيّ في الآن نفسه ، هو سؤال في النثر متلبّس بشعريّة مّا ، وهو شعر متوسّل بنفس سردي يطلق العنان لصهوة الدّهشة والحيرة والإضطراب ، هو هذا وذاك ، بل هو أكثر ، كتابته تحيل إلى كون مشحون بالمخاتلة والبحث المرهق كما التصعيد ، هو متن فوق التّصنيف والتجنيس ، كما الأخطبوط امتدادا وتداخلا ، لغته تتجاوز طقوس التواصل لتبلغ بالتجريب والنحت أقصى فضاءات الكدح والمحاولة ، على مذهب الصوفيّة المجنّحة في ملكوت العشق المجسّم في حروف نورانية تائهة في بساتين العشق المطلق ، تتقاطع في ساحة قرطاسه الذات البرّانيّة وأخيّتها الجوانيّة المحمّلة بهموم المأساة في تنوّع مداخلها، وتعدّد مسالكها ، وهو المضطرب على سرير الحرف ، بين عالمين : عالم مافوق القمر ، وعالم ماتحت القمر على مذهب الفلاسفة ، تتقاذفه رياح الأسئلة الأنطولوجية والأخرى الأنتروبولوجية ، وتطوف به على براق المداد رؤيته المحمّلة بضباب سؤال الأسئلة " ما الإنسان ؟ " ، الكتابة المسعديّة صرخة في وجه القعود والسكينة الفكريّة ، وصرخة في مداد الإطمئنان والوثوقيّة ، كما القوافل المحكومة بالسير الأبديّ كتاباته ، إنّها المحاولة والعبث على طريق الوجود رحلته ، ودرب مفخّخ بالنسبيّة المتناسلة أعماله  ، لعبة الوجه والقفا : قلمه والسؤال ، إنّه " أبو هريرة " الحرف ، و" غيلان " الرؤى  ، و" سندباد "  الفكر ، كما السدّ حرفه ، وكما الجبل مداده ، لحظة انعتاق ديدنه ، ونفخة بناء دينه ، كادح على طريق الفعل كدحا ، لعلّه يلاقيه إنسانا صانعا / إلها في ملكوته الترابيّ الموصوف بالنقصان والموت والنسيان والعجز  ، كتابته كموج البحر في يوم مطير ، تقذف بك في لجج التفكير كلّما فرغت منها ، كما السراب ، كتابة شموس ، عصيّة على المسك والتقعيد والتحديد ، كما الشعر طعمها لذّة ، وملمسها خيبة وفراغ ،  وعود على بدء على أرض السّؤال ، تلك هي اللغة في نصوصه ، حبلى تراقص ألسنة النّار جهرا ، وتنشد الكمال سرّا وعلانيّة ، مدّ وجزر صفتها ، وشطح طقسها ، تحمل بين جنبيها أسباب حياتها وتجدّدها ، كما النهر تجري ، لا تقف لها على قرار ، وكانت مصداقا  للقول  : " نحن نساق بالطبيعة للموت ، ونساق بالعقل إلى الحياة " ، وكذلك كانت لغته في أعماله ، تدفع بالحياة إلى رحبها دفعا جميلا ، فتعانق الخيال بأجنحة تحلّق بالنصّ نحو فسيح فضاءات اللغة الإستعارية ، الموغلة في الرمزيّة والإختزال والتكثيف غلى مذهب الشعر حينا ، وتلتصق بمعقولية الأشياء واللغة المحايثة في طرق تعاطيها مع راهنية الأسئلة المفصليّة المحيطة بفعل الكتابة كفعل إنسانيّ ملتصق بأرض مّا ، وزمن مّا ، إنّها لحظة تراوح فيها اللغة مكانها بين الشعري كفعل تخييل بامتياز ، والسردي كفعل رصد ومعاينة ، إنّها لحظة مزاوجة بين مطلق القول ( الشعر) ، ومنطقيّة الصياغة المحكومة بقوانين كالسببيّة ومعقوليّة البناء ( السرد ) ، تلك ملامح اللغة المسعديّة ومناخاتها ، لغة حمّالة صراع بين أسباب الحياة وبذور الموت والفناء ، رحلة  شاقّة موحشة الدروب ، تطلب الخلود لعلّها تدركه ، مصداقا لقول مدين شحصيّة كتابه " مولد النسيان " :

" قامت واهنة الحركة..وجاءت بفاكهة فألقتها على المائدة. ثم جلست وقالت:  يا مدين إنه قد ذهب صبري وعيل تجلدي. أفلا نخرج من هذه البلاد؟  وأُسقط في نفسها فتنهدت ، وقالت:  تجاوز طاقتي هذا الحر يثقل كالندم، وهذا العفن كالجثث البوالي، وهذه الغدران. وتعلق النتن بالهواء ودخل الحلق مع الأنفاس. وكرهت عيني أن لا تصيب إلا جثث الموتى، ونفسي أن لا يقع لها إلا معاني الموت والفناء، وبرمت بهذه الأرض الندية المسترخية اللخناء.

قال:  إنه قد مات لي اليوم بالمارستان ميت.

قالت:  ترى لو أسلمنا للموت أمره وللأموات، وطلبنا لأنفسنا الحياة؟

  فألقى إليها ببصر ناحل كئيب وقال:  ومتى سهونا يا ليلى عن طلب الحياة؟  انظري حسنك وسلامة جسمك والمائدة بين يديك. إنا لا نفتأ نطلب الحياة ونطعم ونشرب فنهيئ للدود الطعام.  ثم أخذ موزة وقشرها ونظر فقال:  وسيأتي يوم يسترخي اللحم ويبيض كالموز ويطيب للدود ويكون الختام.

قالت:  وتريد أن تقتل الموت؟

قال:  نعم يا ليلى: ومع هذا أريد أن أقتل الموت لأن الأبد واجب والحياة "

2014-03-11