السبت 15/10/1444 هـ الموافق 06/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
في ذكرى نكبة فلسطين: (المقالة الأولى) ما مات حقٌ وراءه مُطالبٌ مُقاومٌ مؤمنٌ بوطنه وأمته/ محمود كعوش

 نستدل من تجارب الأمم على أنه كان من شأن النكبات والنائبات والنازلات والنكسات والهزائم والكوارث والمصائب والصدمات التي ألمت بها وداهمتها في غفلة من الزمن أن تستنهض الأحاسيس الوطنية والقومية والدينية مجتمعة أو منفردة لدى أبنائها، وتدفعهم للبحث في مجريات الأحداث وتقصي بواعثها وأسبابها ودوافعها وإجراءِ عملية نقدٍ ذاتيٍ ومراجعةٍ لمكامن الضعف والقوة عندهم واستخلاص الدروس والعبر التي تمكنهم من إصلاح الحاضر وقياسه بالماضي تهيئةً لإعداد مستلزمات المستقبل. كما وتؤكد التجارب أيضاً أن شيئاً من ذلك لا يمكن تحقيقه ما لم يتسنّ لأبناء هذه الأمة أن يوفروا لأنفسهم زاداً كافياً من الوعي والإدراك والقدرة على استنباط وسائل المواجهة، وأن يختزنوا في داخلهم قسطاً وافياً من الإيمان والوطنية والكرامة والإباء والعزة والعزيمة والإرادة. أما إذا افتقروا إلى هذه مجتمعةً أو إلى بعضها وكانوا رازحين تحت وطأة التبعية والاستعباد وأعباء التخلف والجهل والفُرقة والاستكانة والاستسلام، فإن نكبةً أو نائبة أو نازلة أو نكسة أو هزيمة أو كارثة أو مصيبة أو صدمة واحدة تكفي لتمعن في قهرهم والتنكيل بهم دون أن تثور فيهم حمية أو نخوة أو يُستفزُ عندهم رد فعل إيجابي واحد يدفعهم إلى النظر في كيفية إصلاح أحوالهم وأحوال أمتهم. ما من شك في أن التطرق لموضوع نكبة فلسطين "15مايو/أيار 1948" ونحن في أجواء ذكراها السادسة والستين يقودنا إلى الاعتراف بأن كلمة "النكبة" لا تكفي أبداً للإيفاء بالتعبير عما حصل في ذلك التاريخ، خاصةً عندما يُنظر إليها على خلفية الأحداث التي سبقتها والآثار والإفرازات والتداعيات السلبية التي ترتبت عليها والتي لم تزل تترتب عليها حتى الآن، أكان ذلك على الصعيد القومي العربي أو الصعيد الوطني الفلسطيني. إنما وفي مطلق الأحوال لا بد من الوقوف عند هذه "النكبة" القاسية والمريرة وربطها بما سبقها وتبعها لاستخلاص الدروس والعبر حفاظاً على الذاكرة العربية وسعياً وراء تخزينها في ذاكرة الأبناء والأحفاد. عندما أمعن الغرب الاستعماري في القرن التاسع عشر في استهداف العرب وفرض وصايته عليهم بمنطق القوة والبطش والإرهاب، كانت النهضة العربية في ذروة توهجها. وقتذاك تساءل أقطاب تلك النهضة من أمثال محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وجمال الدين الأفغاني عن سر تفوق الغرب على الأمة العربية واستعماره لها. ووقتذاك لم يكن الكيان الصهيوني قد استحدث بعد. وفي حينه تداعى هؤلاء إلى نقدٍ ذاتيٍ ومراجعةٍ لمكامن الضعف والقوة عند الأمة العربية لغرض النهوض بها من كبوتها واستعادة قوتها ومجدها الغابر. لكن الاستعمار الغربي بكل ما اتصف به من كُره للعرب وكل ما به من جبروتٍ وحقدٍ تحرك وفق استراتيجيته المعهودة القائمة على الاحتلال والتوسع ولم يمكنهم من ذلك. وما هو إلا وقت قصير جداً حتى أطلت الصهيونية العالمية بكل مخاطرها على هذه الأمة حين أعلنت في مؤتمرها الأول الذي انعقد في مدينة "بازل" السويسرية عام 1897 انتقالها من الإطار الفكري النظري إلى الإطار التطبيقي العملي من خلال طرح مشروعها الاستيطاني التوسعي الذي جاء امتداداً للمشروع الاستعماري الغربي. وعندما أمعن الصهاينة في عدوانهم على الفلسطينيين وأرضهم المقدسة تحت غطاءٍ سياسيٍ تمثل بوعد بلفور المشؤوم والقرار الدولي 181 وغطاءٍ عسكريٍ تمثّل بالانتداب البريطاني والعصابات الصهيونية التي استوردها ذلك الانتداب من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا بشطريها الغربي والشرقي وبعض البلدان العربية والإسلامية وأعلنت قيام الكيان الصهيوني في 14 مايو/أيار 1948 على حساب فلسطين وتشريد شعبها، كانت الأمة العربية تشهد بروز تياراتٍ أيديولوجيةٍ وحزبيةٍ ومنظماتٍ ثوريةٍ كثيرة. كما كانت تشهد ظهور شخصياتٍ فكريةٍ عربيةٍ بارزة. ويومها تساءل أقطاب تلك الأيديولوجيات والأحزاب والمفكرون العرب عن سر تفوق التحالف الغربي - الصهيوني على الأمة العربية وقدرة الصهاينة على احتلال فلسطين وتشريد شعبها. وتداعى هؤلاء إلى إجراء نقدٍ ذاتيٍ جديدٍ ومراجعةٍ جديدةٍ لمكامن الضعف والقوة عند الأمة العربية لغرض النهوض بها واستعادة قوتها ومجدها الغابر. وعندما أمعن الكيان الصهيوني مدعماً بجسر جوي عسكري أميركي في عدوانه السافر على العرب في الخامس من يونيو/حزيران عام 1967 وتمكن في حربٍ خاطفةٍ وصاعقةٍ من احتلال كامل التراب الفلسطيني وسيناء المصرية والجولان السورية وبعض المواقع الاستراتيجية في خليج العقبة الأردني، كانت الأمة تشهد مداً قومياً بلغ من الذروة ما بلغه وبلغت معه الآمال عند العرب مبلغاً لم تبلغه من قبل، بفعل التغيرات السياسية التي حدثت في العديد من الدول العربية، والتي أحدثت بدورها إنجازاتٍ ومكاسب كبيرةً سواء على صعيد انتزاع الحقوق من الدول المستعمرة أو رد الاعتداءات التي قامت بها تلك الدول، وذلك بفعل وجود قياداتٍ عربيةٍ تاريخيةٍ من أمثال الراحل الكبير جمال عبد الناصر وبفعل تصاعد الثورة الفلسطينية التي كان قد مضى على انطلاقتها أقل من عامين. يومها، ومع حدوث تلك النكسة القاسية والأليمة التي نزلت بالأمة وخلفت ما خلفت من آثارٍ سلبيةٍ في نفوس أبنائها المتطلعين آنذاك إلى التحرر والوحدة والعدالة، تساءل السياسيون والمفكرون والمثقفون العرب عن سر استمرار تفوق التحالف الغربي ـ الصهيوني على الأمة الذي أدى إلى تلك النكسة. ويومها تداعى هؤلاء كالعادة إلى إجراء نقدٍ ذاتيٍ ومراجعة جديدةٍ لمكامن الضعف والقوة فيها لغرض استكشاف العلل والأسباب واستخلاص النتائج والعبر وتنبيه الرأي العام العربي إليها للنهوض بها واستعادة قوتها ومجدها الغابر. وحتى الانتصار الذي حققه العرب على الكيان الصهيوني في أكتوبر/تشرين الأول 1973 بفضل الجيش المصري الذي تمكن من تحطيم خط "بارليف" والعبور إلى شبه جزيرة سيناء وفضل الجيش السوري الذي تمكن من اجتياز الحدود وتهديد العمق الصهيوني، مُدعمين بجيش التحرير الفلسطيني الذي ولد بعد معركة الكرامة التي كسر فيها المقاومون الفلسطينيون والجيش الأردني "أسطورة الجيش الذي لا يُقهر"، أساء الرئيس المصري السابق محمد أنور السادات استثماره سياسياً فطوعه لخدمة اتفاقيات كامب دافيد المهينة بعدما أفرغه من مضامينه، دون أن يُعير انتباهاً يذكر لا للجبهة السورية ولا للحاضر والمستقبل العربيين. حتى ذلك النصر وجد من يتساءل حوله ويُنَّظر له ويتداعى للنقد الذاتي والمراجعة من أجله، بذات الطرق السابقة ودون أي مردود إيجابي. وتوالت "كَرَّةُ السَبْحة"، فمن احتلالٍ لجنوب لبنان عام 1978 إلى اجتياحٍ للبنان بما فيه عاصمته بيروت عام 1982 إلى غزوٍ واحتلالٍ للعراق بما فيه عاصمته بغداد عام 2003 إلى عدوان فاشي آخر على لبنان عام 2006 إلى العدوان البربري على قطاع غزة قبل عام وبضعة أشهر واستهدافها بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة حتى اللحظة الراهنة. عاصمتان عربيتان سقطتا ولا حياة لمن تنادي وقبلهما سقطت زهرة المدائن. ومن نكبةٍ إلى نائبة إلى نازلة إلى نكسة إلى هزيمة إلى كارثة إلى مصيبة إلى صدمة، وما زال أقطاب النهضة والتيارات الأيديولوجية والحزبية والسياسيون والمفكرون والمثقفون العرب يتساءلون عن سر تفوق التحالف الغربي - الصهيوني على الأمة العربية، ويتداعون إلى النقد الذاتي ومراجعة مكامن الضعف والقوة عند الأمة لغرض النهوض بها واستعادة قوتها ومجدها الغابر دون جدوى. لكن يبقى الأمل موجوداً ومستمراً، طالما بقي هناك إرادة مقاومة في فلسطين والعراق وسوريا ولبنان، وطالما أن المقاومة بقيت على ممانعتها وعنادها وإصرارها، وطالما أن الشعب العربي بقي محتفظاً بإرادته ومحافظاً على كرامته وثابتاً على مواقفه المبدئية بما فيها موقفه الداعم لهذه المقاومة بلا تحفظ ولا حدود ورافضاً لسياسة التهجين وفرض الاستسلام الأميركية ـ الصهيونية المشتركة. فمع الهبة الثورية الجماهيرية التي تجتاح الوطن العربي منذ بضعة شهور لم تعد الأمة بعد الآن بحاجةٍ إلا لمتسائلٍ ومتداعٍ ومراجعٍ عربي صادق وفاعلٍ يسعى للنهوض بها ويعمل من أجل استعادة حقوقها الضائعة وأمجادها الغابرة، وهو ما لن يتأتى إلا عن طريق المطالبة والمقاومة...نعم المقاومة باعتبارها خيار التحرير. وصدق من قال "ما مات حق وراءها مُطالب مقاوم ومؤمن بوطنه وأمته". (المقالة الثانية) الإدارات الأميركية وسطوة الإرادة الصهيونية !! محمود كعوش في الذكرى السادسة والستين لنكبة فلسطين، التي اعتاد الفلسطينييون وأحرار الوطن العربي على إحيائها في الخامس عشر من شهر أيار في كل عام بكثير من الحرقة والحزن، ارتأيت ضرورة العودة ستة أعوام إلى الوراء للتوقف قليلاً عند تاريخ الثاني من نيسان 2008. ففي ذلك اليوم المشؤوم صادق مجلس النواب الأميركي على قرارٍ وَقَفَ وراءه عتاة الصهاينة داخل تيار المحافظين الجدد في واشنطن ودعا إلى حل ما سُمي زوراً وبهتاناً "قضية اللاجئين اليهود في الأقطار العربية" في إطار "تبادل الحقوق" فيما لو حصلت تسوية سلام بين الفلسطينيين والصهاينة في المستقبل. وتحدث القرار عن تعويضات مالية لأكثر من 850 ألف يهودي ادعى واضعوه أن الحكومات العربية " قامت بمصادرة أراضيهم ومنازلهم التي كانوا يعيشون فيها" بعد مغادرتهم لها إلى الكيان الصهيوني في إطار هجرتهم إلى "أرض الميعاد" المزعومة. قرار مجلس النواب الأميركي ذاك جاء يومها في سياق "سياسة ازدواجية المعايير والمواقف" الأميركية المتعلقة بمسألة الصراع العربي ـ الصهيوني وبالأخص القضية الفلسطينية، والهادفة بالنتيجة إلى إسقاط حق العودة عن اللاجئين الفلسطينيين الذين شردتهم الصهيونية العالمية في شتات الأرض، بتآمرٍ وتواطؤٍ مع كل الغرب وجزءٍ من الشرق. والقرار وإن لم يتكئ إلى سند قانوني دولي يضفي عليه صفة الإلزام الضرورية وإن كان لا يعدو عن كونه قراراً سياسياً أميركياً داخلياً اعتباطياً، إلا أن المحافظين الجدد قصدوا من وراء صياغته وإقراره في تلك المرحلة استباق أي حديث عن سلام محتمل بين الفلسطينيين والصهاينة، لغرض فرض مقايضة بين حق العودة للاجئين الفلسطينيين وما يُسوق داخل الكيان الصهيوني على أنه "قضية لاجئين يهود" غادروا الأقطار العربية إلى فلسطين المحتلة. يشار في هذا الصدد أن ذلك القرار الذي وقفت وراءه إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الإبن لم يكن أول "المكرمات" التي اعتادت أن تتحفنا بها العقول الهدامة لأركان إدارات المحافظين الجدد في واشنطن بين الحين والآخر، بهدف خدمة الكيان الصهيوني ومخططاته الشيطانية الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط وعلى وجه الخصوص الوطن العربي، وبهدف خدمة التطابق القائم بين سياسات هذا الكيان وسياسات الولايات المتحدة، وإن من السذاجة الاعتقاد بأنه سيكون آخرها. فهل يا ترى بمقدور أي مواطن عربي يحتفظ بذرة من العزة والكرامة ويمتلك الحس الوطني والقومي نسيان "مكرماتٍ" كانت قد أتحفتنا بها إدارة ذلك الرئيس الأرعن، التي لم تختلف عن سابقاتها والتي بالتأكيد لن تختلف عنها الإدارات التي ستعقبها، مثلَ قرار غزو واحتلال العراق وتدميره، و"قانون محاسبة سوريا"، و"وعد بوش المشؤوم" للسفاح أرئيل شارون وقرار إدراج الحركات والأحزاب العربية الممانعة والمقاومة على قوائم ما يُسمى زوراً وبهتاناً "الإرهاب" الدولي، وقرار محاصرة قطاع غزة سعياً إلى تهجينه أو الفتك بأبنائه، وجميع القرارات والقوانين والوعود والتصريحات والبيانات والمواقف الأميركية الأخرى المعادية لفلسطين والفلسطينيين والعرب أجمعين، والتي لم تعد تحصى أو تُعد؟ لا أعتقد، بل أجزم أنه من غير المستطاع ذلك. لا أبالغ أبداً عندما أقول أن استذكاراً بسيطاً لما اتخذته وأقرته إدارة الرئيس السابق جورج بوش من قرارات وقوانين جائرة وما أصدرته من وعود وتصريحات وبيانات ومواقف نافرة بخصوص منطقة الشرق الأوسط عامة والوطن العربي خاصة خلال فترتي تربع بوش على سدة الحكم في البيت الأبيض "بين كانون الثاني 2001 بموجب نتائج انتخابات تشرين الثاني 2000 وحتى كانون الثاني 2009 موعد تسلم الرئيس الحالي باراك أوباما مهام مسؤولياته في البيت الأبيض"، يكفي للتدليل على مدى التطابق بين السياسة الخارجية لكل من واشنطن وتل أبيب، وبالأخص في ما يتعلق بمسألة الصراع العربي ـ الصهيوني. ولربما أن مثل هذا الاستذكار يكفي أيضاً للتدليل بشكل أوضح وأدق على أن كل ما أقدمت عليه الإدارة الأميركية السابقة بشأن هذه المسألة وما اقترفته من جرائم وما ارتكبته من حماقات بحق العرب عامة والفلسطينيين خاصة، ما كان بالإمكان حدوثه بالكيفية العدائية التي جاءت عليه لو لم تتدخل فيه الإرادة الصهيونية عبر بنات أفكار المحافظين الجدد الذين كانوا متغلغلين بداخلها وكانوا يحكمون قبضتهم الحديدية على كل مفاصلها الحيوية. فقرار غزو واحتلال العراق وتدميره بالأشكال والطرق الهمجية والانتقامية التي حصلت كان بلا شك ثمرة من ثمرات بنات أفكارالمحافظين الجدد، ووقفت وراءه الإرادة الصهيونية. وجميع المسوغات والذرائع الواهية التي فبركتها المطابخ السياسية والإعلامية الأميركية وسوقتها المطابخ السياسية والإعلامية البريطانية والغربية بشكل عام لارتكاب جريمة الغزو والاحتلال والتدمير بما في ذلك كذبة "أسلحة الدمار الشامل العراقية"، لم تكن سوى بدع وأضاليل واهية لإخفاء رغبة هؤلاء المحافظين الجدد الموتورين والحاقدين في تدمير العراق وتفتيته إلى شيع وقبائل وطوائف ومذاهب وأعراق تتلهى بالاقتتال في ما بينها، وعزله بشكل نهائي عن محيطه العربي وشطبه من معادلةالصراع العربي ـ الصهيوني، وسرقة ثروته النفطية الهائلة. وقرار إدراج الحركات والأحزاب العربية المقاومة للاحتلال والهيمنة مثل حركتي "حماس" و "الجهاد" الفلسطينيتين و"حزب الله" اللبناني على قوائم "الإرهاب الدولي"بالتزامن مع إدراج مَن تبقى مِن الأقطار العربية الممانعة التي تفاخر بأصالتها العربية وتجاهر بثوابتها الوطنية والقومية وتفصح دون خوف أو وجل عن عدائها وتصديها لمطامع ومخططات الولايات المتحدة الاستعمارية ومطامع ومخططات الكيان الصهيوني الاستيطانية ـ التوسعية على ذات القوائم وإصدار قوانين خاصة لمحاسبتها، كان هو الآخر ثمرة من ثمرات بنات أفكار المحافظين الجدد ووقفت وراءه الإرادة الصهيونية. والقرارات التعسفية التي اتخذتها الإدارة الأميركية بشأن فلسطين، من محاربة أبنائها بشكل تعسفي وعلني وحض الكيان الصهيوني الفاشي على رفع وتيرة اعتداءاته الإجرامية اليومية المتواصلة ضدهم وإثارة العداوة وافتعال التقاتل في ما بينهم ومحاصرتهم عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وطبياً وصولاً إلى محاصرة بُطونهم وأمعائهم التي هي بالأصل خاوية إلا من رحمة الله تعالى، منذ حصول "حماس" على الأكثرية النيابية في انتخابات 25 كانون الثاني 2006، كانت أيضاً من ثمرات بنات أفكار المحافظين الجدد ووقفت وراءها الإرادة الصهيونية. فالمحافظون الجدد المتصهينون عندما أقروا ما أقروه من قرارات وسنوا ما سنوه من قوانين وأصدروا ما أصدروه من وعود وتصريحات وبيانات واتخذوا ما اتخذوه من مواقف بشأن العرب وعندما أنزلوا ما أنزلوه بهم من جور وظلم وتعسف عبر إدارة جورج بوش الابن أو بدعم غير مباشر منها، إنما فعلوا ذلك بناءً لإرادة صهيونية طاغية همها الوحيد إضعاف وتحجيم أي قوة عربية رسمية أو حزبية أو شعبية قادرة على القيام بفعل مقاوم أو ممانع ضد الكيان الصهيوني، وإخضاعها لمشيئة هذا الكيان وإجبارها على القبول به كسلطة احتلال دائمة والتسليم بسياسة الأمر الواقع القائمة في الأراضي العربية المحتلة، وفي مقدمها الأراضي الفلسطينية. يُستدل مما سلف ذكره أن كل ما كان يدور في خُلد إدارة المحافظين الجدد إبان فترتي رئاسة جورج بوش الإبن للولايات المتحدة بشأن منطقة الشرق الأوسط وما سعت إلى تحقيقه فيها وبالذات في الوطن العربي تركز على تطبيق سياسة الكيان الصهيوني وتنفيذ استراتيجيته رغبة في تحقيق أهدافه واستمرار احتلاله لتراب فلسطين وأجزاء أخرى من الوطن العربي بمنطق القوة وبدبلوماسية البوارج والقاذفات الصاروخية، باعتبار أن تلك الأهداف تتقاطع مع الأهداف الأميركية، وباعتبار أن هذا الكيان اللقيط هو ربيب للإمبريالية الأميركية الجديدة التي أفرزها النظام العالمي الذي استجد مع نهاية الحرب الباردة وانحسار نفوذ الاتحاد السوفييتي كقوة كونية عظمى ثانية بعد تجزئته وتفتيته إلى دول وجمهوريات لا حول ولا قوة لها وخروجه من ساحة المواجهة الدولية وتركها للولايات المتحدة تصول وتجول وتعربد فيها وحدها كما تشاء وتهوى!! وبمعنى آخر يمكن القول دون ما جُهد أو عناء تفكير أن ما فعلته تلك الإدارة الأميركية الحمقاء في منطقة الشرق الأوسط بما فيها طبعاً الوطن العربي منذ استلامها مقاليد السلطة في واشنطن وحتى رحيلها، حدث بإرادة صهيونية عبرت عن نفسها من خلال بنات أفكار المحافظين الجدد، وجاء أولاُ وأخيراً من أجل عيون الكيان الصهيوني العنصري وحكامه ومستوطنيه الذين استُوردوا إلى فلسطين بموجب أوامر شحن غير مرخصة. إنها حقاً سطوة الإرادة الصهيونية على الإدارة الأميركية بكل ما في الكلمة من معان تعارفت عليها المعاجم والقواميس في كل اللغات. الآن وبعد أن قطعت الإدارة الأميركية الحالية برئاسة باراك أوباما شوطاً كبيراً من ولايتها الثانية في البيت الأبيض يمكن الجزم بأن هذه الإدارة الديمقراطية لم تظهر تميزاً عن الإدارة الجمهورية السابقة برئاسة جورج بوش الإبن بخصوص العرب وقضاياهم وعلى وجه الخصوص الفلسطينيين وقضيتهم، بل أن كل الدلائل أشرت إلى خضوعها التام لسطوة الإرادة الصهيونية، ولربما بشكل أسوا وأخطر مما كانت عليه تلك الإدارة والإدارات الأخرى التي سبقتها. وهذا بالطبع أسقط كل المراهنات التي صدرت عن عرب أميركا بخصوص احتمال أن تكون واشنطن في ظل إدارة أوباما وسيطاً حيادياً وغير منحاز في أي مفاوضات قد ترى النور بين الفلسطينيين والصهاينة في المستقبل، حالها كحال إدارة بوش السابقة والإدارات التي سبقتهما. ولربما أن أسلوب تعاطي واشنطن والمعسكر الغربي التابع لها مع ما يسمى "الربيع العربي" وبالأخص في ما يتعلق منه بسوريا ونهج الممانعة العربي خير دليل على ذلك!! (المقالة الثالثة) وتبقى العودةُ حقاً مقدساَ !! محمود كعوش لا شك أن استذكاراً سريعاً لشريط الأحداث التاريخية المفجعة التي عصفت بالوطن العربي خلال العقود الستة الأخيرة يدلل على أن الأمة العربية قد مُنيت بمسلسل طويل ومتواصل الحلقات من النكبات والنكسات والهزائم والكوارث والمحن، مما جعل البعض يتصور أنه قَدِّرَ لهذه الأمة التي كانت خير أمة اخرجت للناس أن تظل رفيقاً ملازماً للنحس ونذير الشؤم، وأن تنتقل من نكبة إلى نكسة فهزيمة فكارثة فمحنة. وإذا ما تعمقنا في الاستذكار لدرجة بلوغ الأحداث الكبيرة التي شهدها العالم على مدار التاريخ، فإننا ندرك أن كثيراً من أمم الأرض تعرضت هي الأخرى في أوقات استثنائية ومتباعدة إلى نكبات ونكسات وهزائم وكوارث ومحن مماثلة، أو ربما أشد وطأة وأكثر إيلاماً في أحيان عديدة. والمفارقة العجيبة أنه في حين تغلبت تلك الأمم على جميع تأثيرات ونتائج وتداعيات نكباتها ونكساتها وهزائمها وكوارثها ومحنها ونجحت في استعادة زمام المبادرة من خلال إيقاظ أحاسيسها ومشاعرها الوطنية وأحياناً الدينية ومن خلال شحذ وتنشيط قدراتها وإمكاناتها والنهوض بها مجدداً وأجراء مراجعات شاملة لمكامن ضعفها وقوتها، فإن شيئاً مغايراً ومعاكساً تماماً حصل مع الأمة العربية. فالأمة العربية التي عُرفت بعظمة تاريخها وحضارتها وثقافتها ومكانتها الدينية والدنيوية وموقعها الاستراتيجي وثرواتها الهائلة، بدل أن تستوعب الدرس وتستلهم العبر من تلك الأمم وتتمثل بها وبما فعلت وتحذو حذوها في إصلاح أوضاعها وأوضاع أبنائها طلباً للنجاة، رأيناها وللأسف تألف الاستكانة والهوان وتحتفظ لنفسها بالضعف والوهن وتستسلم لمقاديرها، وكأن النكبات والنكسات والهزائم والكوارث والمحن استوطنت في داخلها وأصبحت جزءاً مكملاً وضرورياً لكيانها ونسيجها الحياتي، وبالأخص في القرن الماضي والعقد الأول من القرن الجاري. لا يختلف عربيان حول حقيقة أن نكبة عام 1948 في فلسطين العروبة والرباط والعزة والكرامة والمجد والإباء والتي يُحيي القوميون والوطنيون العرب ذكراها السادسة والستين هذه الأيام بكثير من الحزن والألم المتقاطعين مع التفاؤل والأمل، كانت ولم تزل هي النكبة الكبرى وأم النكبات والنكسات والهزائم والكوارث والمحن التي تعرض لها الوطن العربي على مدار تاريخه القديم والحديث. ولا أعتقد أنهما يختلفان حول حقيقة أنه لو أحسنت الأمة العربية التعامل مع الظروف الموضوعية والإيجابية والفرص الذهبية التي توفرت لها في أوقات كثيرة سابقة، لقدر لها، بالاعتماد على القانون الدولي والأعراف والعقل والمنطق والانتماءين الوطني والقومي، أن تحول هذه النكبة إلى "مرجل" يحرك فيها مواضع قوتها وإمكاناتها ومداركها، وإلى "مِهماز" يشحذ فيها الإرادة ويُحفز في نفوس أبنائها النخوة والعزة والكرامة، لتعد العدة اللازمة والضرورية وتستأنف من جديد معركتها الفاصلة مع العدو المغتصب للأرض والمتمادي في عدوانه، والتي بموجبها، وبموجبها وحدها فقط، تستعيد الحق الذي طال انتظاره كثيراً. لكن من سوء طالع الأمة العربية أنها من حيث درت أو أريد لها أن لا تدري قسراً لا طواعية، غلّبت فيها النزعات القُطرية الخاصة على التوجهات القومية العامة وحصرت نفسها في قوقعة النهج الشمولي وزجت بنفسها مجبرة لا مختارة في آتون الخصومات والنزاعات الحزبية والعقائدية والطائفية والمذهبية والعرقية والقبلية، فأسقطت نفسها في متاهات ومخاطر الانقسام والتجزئة والتفتت. وهي بذلك قدمت للكيان الصهيوني الفرصة التي لم يكن يحلم بها في وقت من الأوقات، فجاء عدوانه الإجرامي في الخامس من حزيران عام 1967 والذي تمكن بموجب نتائجه المأساوية من توسيع رقعة احتلاله لتشمل ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية وأراض عربية أخرى من مصر وسوريا وخليج العقبة الأردني وحتى الخليج العربي. وبنتيجة ذلك العدوان وقع المحظور من جديد واتسعت رقعة النكبة لتشمل جزءاً من المصريين والسوريين والأردنيين والخليجيين، إلى جانب كل الفلسطينيين. وفي محاولة منه للتقليل من وطأة الهزيمة التي مُنيت بها الأمة نتيجة ذلك العدوان والتأثيرات والنتائج والتداعيات التي كان من الممكن أن تترتب عليها لو أن العرب غلبوا روح الهزيمة على الرغبة في النصر واستسلموا لليأس والقنوط، اختار لها القائد العربي الراحل جمال عبد الناصر تسمية "النكسة". لكن الحق يُقال أن الأمة العربية من محيطها إلى خليجها لم تتعظ من أحداث التاريخ ولم تستخلص الدروس والعبر كما يجب. فهي بدل أن تعيد النظر في نهجها الشمولي وسياساتها المحنطة وتستجيب لمتطلبات المصلحة الوطنية والقومية المشتركة، تمسكت بذلك النهج المتهالك وتلك السياسات الفاشلة ومضت في ثرثراتها المعهودة، مما زاد من طمع الكيان الصهيوني بها وأجج غريزته العدوانية فقام بغزو واحتلال جنوب لبنان في عام 1978 بذريعة إبعاد المقاومة الفلسطينية عن حدود فلسطين المحتلة الشمالية، ثم عاد وغزا لبنان مجدداً في عام 1982 وصولا إلى عاصمته بيروت التي استبسل أهلها ودافعوا عنها دفاع الأبطال وظلوا يقاومون وحدهم وبدون نجدة "المعتصم" إلى أن كان لهم ما أرادوا وتمكنوا بواسطة المقاومة اللبنانية الباسلة من دحر الاحتلال الغاشم بشكل نهائي في عام 2000 دون أن يمكنوه من تحقيق أي من أهدافه السياسية المعلنة وغير المعلنة. ومن هناك انبثقت آمال أنبأت بقرب حدوث نهوض عربي جديد لم تمكنه إدارة المحافظين الجدد السابقة في واشنطن من بلورة نفسه واستكمال دورة نموه بعدما فاجأت الأمة العربية في عام 2003 بضربة قاسية ومؤلمة تمثلت بجريمة غزو واحتلال العراق والسعي الحثيث لتفتيته وتقسيمه وتهجينه في سياق تهجين عربي شامل، ظناً منها أنها بذلك ستتمكن من كتابة نهاية الأمة. لكن خاب فأل تلك الإدارة الحمقاء عندما هيأت لها عنجهيتها أنها ستكون قادرة على فرض شرق أوسط جديد يحظى بديمقراطية "الفوضى الأميركية الهدامة" ويكون الكيان الصهيوني العنصري محوره الرئيسي، على حساب إلغاء الوطن العربي وجامعته العربية وكل ما تبقى للعرب الأصيلين من مظاهر تبعث على الأمل باحتمال تحقيق وحدتهم أو اتحادهم أو حتى تضامنهم أو ترمز إليهم. فالآمال ما لبثت أن انبثقت من جديد من رحم المعاناة العربية عندما نجحت المقاومة في لبنان في إنزال هزيمة نكراء بالكيان الصهيوني في صيف 2006، وهو ما اعترف به بيان لجنة "فينوغراد" الصهيونية بشكل واضح وصريح، لتضاف تلك الآمال إلى آمال كثيرة وعريضة سبق أن انبثقت وتبلورت في كل من فلسطين والعراق تجسدت بتصدي المقاومة في البلدين للمشروع الاستعماري والاستيطاني الأميركي – الصهيوني المشترك. وتضاعفت تلك الأمال مع فشل هذا الكيان الغاصب في حروبه الإجرامية المتواصلة التي شنها ضد قطاع غزة الفلسطيني بعد ذلك العام. صحيح أن نكبة عام 1948 في فلسطين قد فرخت نكبات ونكسات وهزائم وكوارث ومحن على امتداد ما يزيد على ستة عقود، كان أبلغها وأشدها وجعاً وإيلاماً جريمة اقتتال إخوة الوطن واللغة والمبادئ والسلاح والمصير المشترك التي كان قطاع غزة الفلسطيني مسرحاً دموياً لها والتي أدت بأسبابها ونتائجها وأهدافها إلى تباعد عميق بين الضفة الغربية والقطاع، نرجو أن تكون قد كُتبت خاتمته بالإتفاق الأخير الذي تم توقيعه بين سلطتي رام الله وغزة. والصحيح كذلك وهو الأهم أننا نستقبل الذكرى السادسة والستين للنكبة العربية الكبرى هذا العام ونحن نستشعر كل هذه الآمال ونحس بهذا القدر الكبير من التفاؤل والاطمئنان، لرؤيتنا وتلمسنا رياح التغيير الإيجابية التي بدأت تهب على الوطن العربي، ولمعرفتنا الصادقة والواثقة بأن النكبة التي حلت بفلسطين عام 1948 ستظل فعلاً حاضراً في وجدان الأمة وستظل العودة حقاً مقدساً بالنسبة لجميع الفلسطينيين إلى أن تحين ساعة الانتصار والتحرير وإعلان الاستقلال الوطني وتأكيد الانتماء القومي. فلا يحسبن أحد في الكون كله أن حق العودة سيغدو في يوم من الأيام ضميراً غائباً. ولربما أننا نستشعر كل هذه الآمال العريضة لثقتنا بأمتنا وبأنفسنا، ولقناعتنا بأنه لن يضيع حق وراءه مطالب. فكيف إذا كان هذا المُطالب مُقاوماً مرابطاً في الأرض المباركة يتحدى جبروت وبشاعة الاحتلال!!؟

محمود كعوش كاتب وباحث فلسطيني كوبنهاجن

في مايو/أيار 2014

[email protected]

2014-05-14