الخميس 9/10/1445 هـ الموافق 18/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
تعلم كيف يقف قلبك بخمسة أبيات! "ملامح"..زاوية يعدها ويكتبها الزميل هاني نديم

"أنا بشار عبدالله حسين سيّدُ الفاشلين وابنُ الخطأ؛ مُعلّمي الأوّل. جئتُ من التجربة، وأمضي إليها، لا يطيب لي المقام في اليقين".
بهذا يأخذني بشار حسين بعيداً عما كنت أخطط وأذهب إليه من رسم ملامحه كما أفعل بأنانيةٍ نابعة من فهمي الخاص لمن أحاورهم لا من حوارهم غالباً، من تلك الجدلية بيني وبين تصوري الذهني والمعرفي لأصحاب المقام من أصدقائي، الديالكتيك بين الصوت والصدى..

دَقّْ الصدى عَ الصوت تَـ يْقلًّو :
أدْن الجبَلْ عم تُوجَع الوادي!
وفي عمر أعمى، وسابقو ظلُّو
وحَامِلْ عَ كتفو الموت زوَّادِه


إنه ذلك الشاعر الحقيقي؛ الخجل الحييّ الذي يمشي على ظله؛ ولأنه شاسع، نعم يكفيه ظله! يجيء خفيفاً كأنه السديم، لا يجرح أحداً،لا ينازع ولا يصارع.. إنه يكتب الشعر الخالد ويمضي.. ليبقى.

تلك هي ملامح بشار حسين الشاعر السوري الذي أصبح أيقونة للشعر المحكي السوري بسنوات قليلة، في بلد قدّم لعلم الجمال ما قدم، مسرحاً وتشكيلاً وشعراً وروايةً وغيرها من بقية الفنون، ظل "المحكي" السوري متوارياً في الخلف لا يحمل قناديله إلا أقلة؛ بشار حسين منهم؛ المحكي أقول ولا أقول الشعبي، محكي لوركا لا شعبي عمر الفرا!. رغم أن رأي بشار حسين مغاير لتصنيفي، إذ يقول:

ليس هناك شعر شعبيّ، بل هناك فكرٌ شعبيّ. أنا ضدّ التنميط في الشعر، لا يوجد شاعر محكي وشاعر فصحى، هناك شاعر أو "لا". وأنا لم أكتب على غلاف ديواني"كمشة ندي" عبارة: شعر محكي، إلّا ليعرفَ القارئ أنّ لغةَ هذا الكتاب هي اللهجة المحكية، فهناك من لا يحبُّ قراءتها.

فَتَّحْ وَردْ جسْمِكْ، كإنّو إيدْ
فاقِتْ عَ حالا، وْقامِت تْسَلِّمْ

يا ألف عَصفورْ! وْسَقِفْ قَرْميدْ
عَلَّمْ حْجَار لْ هَبَّطُوْا: تْعَلِّمْ.

أوف!، متى أضاء الشعر يد هذا الشاعر؟ متى لمعت أول قصيدة بين يديه ومتى أحالها الزمن والتراكم إلى جواهر، يقول بشار:

"ربّما موسيقى الشعر أخذتني إليها دون أن أفهم معنى الكلام، بدايةً، فكنت، وأنا أنزل الدرج، مثلًا، أقول ما فيه الكثير من الموسيقى والإيقاع، والقليل من الشعر!، أكيد أن لهذا علاقةً ما بسماعي المبكّر جدّا للشعر، فأبي، ورغم حفظه للشعر الفصيح، إلّا أنّه عاشق رائع للمحكي، فأغناني بمكتبة كاسيتات لمعظم شعراء لبنان".

الشعر مريض هذه الأيام يا بشار، الشعر في العناية المشددة الوطن العربي خرج من الجمال للقبح، ماذا تفعل يا صديقي؟ يقول:

المشهدُ  الأدبي، بشكل عام، والشعري، يشكل خاص، ويا للأسف، كارثيّ!
أكادُ أجزم بأن هناك قوةً اقتصادية وفكرية، وهي أشبه بمافيا كونية لا أخلاقية، تسعى لتشويه الحضارات، والثقافات، والأدب والشعر والفنّ... باختصار، تسعى لتشويه الإنسان، "ما يحدثُ على الساحة الغنائية، مثلاً!!".

هنا وأنا أرسم ملامح هذا الشاعر الكبير، فكرت بعد تلك الجملة أن أشتم المغنين والملحنين والقائمين على الأغنية العربية اليوم على الورق كما أشتمهم كلما قرأت نصاً لبشار، وأقول في نفسي: رباه، متى نصنع ثورة غنائية تنفض تراب الكلام والألحان الرديئة عن ثوب الموسيقا المخملي؟ رباه ألهم مغنينا البحث.. البحث عن الشعر الحقيقي واللحن "المتعوب" عليه!

دقّيْت بَالْ الّلي نِسِي بْوَابي
وِ دْخَلْتْ، إضْوِيْ عَتْم ذاكِرتُو

شِفْتُو مْعَلَّقْ صُوْرةِ غْيَابي
بشْرِيْط أسْوَدْ!
عِشْت... وِ شْكَرْتُو!

حسنٌ، هذا لا يحدث في الشعر إلا نادراً،  من هو بشار حسين  خارج الشعر؟ يقاطعني: "صدّقني، ليتني أستطيعُ أن أكون خارجَه! فهو، وعلى لعناته الكثيرة، ملاذٌ آمن للروح، وسُكنى. بعدَ كل فشلٍ حيويّ، جميلًا كان أم لا، لا أراني إلّا في الشعر. الشعرُ خلاصٌ".

كيف يكتب بشار حسين الشعر هل هو دين يسدده للحياة، ماذا يعني له الشعر ماذا يعني له الوجود؟ يقول:

"كيف لي أن أردَّ دينَ الحياة لولا الشعر؟، بأن أعيشَ الحياة كما هي، وأقتنصَ الفرحَ والحبّ والجمال من عمرٍ أقصرَ من التفاتةٍ، وأجمل، كلّ ما هو جميل يعنيني، من صباح الخير يا جار، مرورًا بضحكة طفل، إلى آخر عطر في الريح. لا آخذُ من هذه الطبيعةِ إلّا ما أحبُّ أن أعطيه".

يا مشمش اللّي فوق
لا تقطع الحارة

مَ الشّم خيّ الدّوق!
و النّفس أمّارة

قصقص حبال الشّوق
و لو كان بزيارة

عمول المسافة طوق
والمرحبا.. سوارة!

دخيلك يا الله.. امرأة جميلة بالحارة تجعل منه وطنا!، النساء.. كلما قلت النساء أو توددت لهن تذكرت شعراً قاله بشار حسين، النساء.. يقاطعني أيضاً:

"يا رجل.. كلُّ جمالٍ في الأرض: منهنُّ، وإليهنَّ، قدَّسَ اللهُ سرَّهنّ! النساءُ أوَّلُ الأرضِ، وآخرُ السماء".


هذا المحكي العظيم لا يعني أن بشار مقتصر عليه، إنه أحد شعراء الفصيح الكبار ممن يعلمونك حقاً كيف توقف قلبك في خمسة أبيات فقط! يقول شاعرنا:

وهناكَ، في الوادي، هنا،
بالقُربِ من حلُمي المُوَشَّى باليَفاعَةِ
والمُيَمَّمِ بالضياءْ
خَطْفاً،
رأيتُكِ تعبُرينَ النهرَ رافعةً أذانَ الفجرِ عن ساقَيْنِ من لَبنِ السماءْ
كانتْ يداكِ قصيدتينِ،
وكنتُ أرتكبُ النبوءةَ،
فاخْتَلسْتُ منَ القوافي دَلْوَ ماءْ.

المجد للشعر والشاعر، يا لقبحك يا أرض دونهما معاً.. "نعمةُ اللعناتِ وأصدقُها كذبًا " كما يصفه بشار. لقد وقّع بشار حسين ديوانه الأخير كمشة ندي يرفعه رمحاً في وجه الدخان والحرب والقبح . ما زال يؤمن بالندى هذا المسكين، يقول:

" الشعر معرّض في كل ثانية لأن يغيّرَ المسار، أن يقلبَ الطاولة، أن يهيمَ في الضَّياع، في اللاوعي، أيُّ غرور يصيبنا ـ نحنُ الشعراءَ ـ حتّى نطبعَ عملًا ما؟! وكأننا أنجزناهُ على أكملِ وجه! من سمحَ لنا أن ننهي القصيدة؟! أن نختمَها؟! أن نقتلَها؟! القصيدةُ من لحمٍ ودم، القصيدة امرأةٌ على قيد الحياة، القصيدة في تحوّلٍ مستمرّ!.. وهنا اسمحْ لي، أيضا، بخطأ آخر: كلّ قصيدة تعرفُ أين تنتهي وكيف ومتى، ليست قصيدة. لا شعر مسبق الصنع".

جايي عَ بالي طِيرْ
تا يهلَك جْنَاحي
وْشُوف المَسافِه سْرِيرْ
ومْخَدِّتي جْراحي !

2014-06-04