الخميس 13/10/1444 هـ الموافق 04/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
*ملامح* يعدها ويكتبها الزميل هاني نديم.. أُحُد الشعْـر

يحول بيننا زجاج مقهى العربي "الغبٍش" ليؤكد هواجسنا بأنه قصيٌّ وبعيد، بعيدٌ جداً! يومياً، يتكرر ذات "ديالوغنا"، وائل دمني وأنا: "أدخل أنت، لا، أدخل أنت"! وكنا ندخل متعثريْن بوجلنا وملائكة حضوره المهيب، وكنت، وإن تجاوزت معضلة الدخول أياماً، فإنني لم أتجاوز يوماً هيبته الطاغية بـ"طاقيته" الصوف المائلة وصمته القدسي وكأنه ينصت للتاريخ وينحت أطياف ذكرياتٍ لا نراها!، كنت فقط أرتجف وأنا أمرّ بقربه أتصبب عرقاً وأحاسيساً، أشرب شاياً "بارداً" وأمضي. إنه محمد مهدي الجواهري!! (م ح م د م هـ دي ال ج و ا هـ ر ي) هل لك أن تتخيل ثقل هذا الاسم عندما تلتقي صاحبه؟ إنه الجواهري الذي ما خرجنا قبله من المقهى يوماً، فقط لنجلس على كرسيه بعده نتناوب، وائل وأنا، ونمسح بيدينا تلك الطاولة الخالية إلا من بقاياه، لعل ذرّة من الشعر تعلق بيدينا.. لعلها.. لعلها.

هذه المرة كان المقهى شبه خال والجواهري دون جلّاسه الذين بتّ أعرفهم سمجاَ سمجاً وأكرههم وأحفظ بذّاتهم وروائحهم. جمّعت كل شجاعة وتهوّر السلالة "وهو تهوّرٌ معروف ويستشهد به في محلتي" وقررت أن أعرض عليه قصيدةً كتبتها على البحر البسيط!، توجهت له بلا أنفاس أقرأ مطلعها الذي يقول:..... يا قلة الخجل!!، لن أذكرها، تطالعني الآن سحنة وجهه الممتعضة حينما طوى الورقة وطلب الحساب وغادر دون أن ينظر إليّ! لكنني سأذكر طويلاً بكائي بعد هذا الموقف لأفهم، لاحقاً، أن كل ما حدث معي شعرياً بعد هذا كان لأرضي الجواهري عني وكأنه والدي الذي يظنني عاقّاً معَوّقاً، ولست أكيداً حتى هذه اللحظة إن كنت قد أرضيته ولو بنصف بيت!.
بعد هذا بسنوات، كنت في فترة تجربةٍ كمراسلٍ ثقافيٍ لإحدى الجهات الإعلامية المعروفة، فتوجّهت أول ما توجهت للماغوط والجواهري، بنفس تهوّر السلالة المذكورة أعلاه ولكني هذه المرة مدعومٌ وممهورٌ بورقة تفويض من جريدة مشهورة تدحض عني دلالات الحُمْق وعلائم الطيش. وكانا من ضمن فرائسي الأولى التي حاورتها، ولعلّي هنا في ملامحي تلك، أحاول استدراك عجز وفقر البدايات التي حاورت بها أسماءً كبيرةً لم تستطع لغتي آنذاك مقاربة قاماتها.
سألته ككل صحفي غرّ يعتقد أنه جاء برأس الزيـــر: "ما أحبّ أبيات شعرك إليك؟، بعد آلاف من الأبيات، أطرق، وأجاب بمرارةٍ شديدةٍ وصوتٍ متردد، قال:وأنا في هذا العمر؟! ...
لم يبق عندي ما يبتّزه الألمُ   حسبي من الموحشات الهمُّ والهرمُ

كان يمشي إلى التسعين من سنواته، ضربتني قشعريرة لا أنساها حتى هذه اللحظة، وكأنني لم أقع على مفهوم العمر إلا بعد هذا البيت، آخ يا أبا فرات.. لقد هرمتُ بعد هذا البيت مباشرةً. وطفقت أحفظ كل أبياتك التي تتعلق بتعب العمر وطوله والزهد فيه حتى تعبت.. تعبت من ترديد قولك:

لقد أسرى بــيَ الأجَلُ.. وطولُ مسيرةٍ ملـلُ
وطول مسيرةٍ، من دون غايٍ، مطمعٌ خجل!

حفيد صانع "جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام"، لم يصبح عالماً كما أرادته العائلة الموغلة في الفقه والعلوم الشرعية، ورغم أن أباه ألبسه العمامة وهو في سن العاشرة لحفظه القرآن، غلبه الشعر وأخذه من يده إلى جنائنه وجحيمه، واستشهد أخوه باكراً فخلع عمامته كي لا يخلط هذا بذاك، وقاد جنازته التي لم يعرف قبلها العراق مثلها، وقال الأبيات التي قررت طرحه بشكل نهائي كشاعر من قماشة الخالدين وهو ما زال في أواسط عشرينه:

أتــعلـــم أم

أنـت لا تـعـــــلمُ  أن جــراح الضـــــحــايا.. فمُ
                  فمٌ، لـيـــس كالمـدّعـي قــولةً  ولــيــس كآخــرٍ

يســــتـــرحم
                  تَقَحَّمْ، لُعِنْتَ، أزيزَ الرَّصاص وَجرِّبْ من الحظّ ما يُقسَم
                  فـإِمَّـا إلى حـيثُ تبـــدو  الحـيــــاة لِعـيـــــنيْكَ مَـكْرُمةً تُغْنَم
                  وإمَّــــا إلى جَـــــــدَثٍ لم يـــــكُن ليفـــضُــــلَه بيتـُكَ المُــظلِم

كنت أرتجف طوال وقت الحوار، ولا أريد أن يبدو عليّ الـ.."لا أعرف ماذا أسميه"، وكنت، حتى يرتاح أبو فرات ويطمئن لصلابة مُحاورِه، أبتسم ابتسامات بلهاء، لا معنىً لها وفي غير وقتها، فقال لي:

"استرخِ واشرب شايك، لستَ مضطراً أن تتكلم مباشرةً عندما أنتهي من كلامي!"
قلت له: لا أريد أن آخذ من وقتك الكثير، أنا مربكٌ من ذلك، أعلم كم أنت مشغول لكن تحملني. فقال:
"شسوّي بعد" شوقي بغدادي سوّالك واسطة وأنا مضطّر لتحمّلك

ثم ضحك.. لقد ضحك الجواهري ولا يهمني أنه ضحك على سماجتي أو.. هذا الذي لا أعرف أن أسميه، المهم أنه فعلها!، لقد ضحكت أعماق روحي لضحكة هذا الشيخ وارتجاج طاقيته المائلة، بعدها مباشرةً قلت له أغبى ما يمكن أن يقوله صحافي في حياته المهنية قاطبة: هل يبدو حواري مملاً؟ هل أطلت عليك؟ للحظات شعرت أنه سيغادر لولا أن عاجلته بسؤال مستفزّ كنت وما زلت أستهجنه:
لماذا توقفت إمارة الشعر عند أحمد شوقي؟ ولم أكن أعلم آنذاك كما ما زلت لم أؤكد حتى اليوم، أن الجواهري كان قد أرسل أعماله لطه حسين، علّه يرشحه للقب الإمارة، حيث ظل المنصب شاغراً رغم إعجاب طه حسين بالجواهري جداً، فأجاب بنزق أميرٍ في حرب:

بابا؛ أحمد شوقي شاعر كبير وأمير، هذا لا يخالطه شك، "بس شنو يعني أمير؟" كل من قال بيت شعرٍ مجيد فهو أمير على من سمعه ومن أخذ بحكمته ومن أستفاد منه. أنا أمير والرصافي أمير والبحتري أمير و..و، الألقاب لا تقدّم ولا تؤخّر، الشعر فقط هو من يفعل ذلك، قاطعته، لكنهم يطلقون عليك لقب "شاعر العرب الأكبر" فقال: بلى. أفتخر بهذا اللقب ولا أقف عنده.
أيضاً لا بد لي من تخيّل ملامح الجواهري لو قدّر له مشاهدة مسابقة أمير الشعراء التي يقيم عليها جمعٌ من الخراتيت، لا يستطيعون إكمال جملةً واحدةً دون لحنٍ، لكنهم يخلعون عباءة الإمارة على من أرادوا تحت راية "نشواهم" التي تقودهم من تلابيبهم حيثما أرادت!.
قال عنه الزهاوي: شعره كاسم ناظمه، عقود جواهر ثمينة يبهر العين لألاؤها، بينما يقول السياب: أنا والكثير من الشعراء الشباب الآخرين مدينون للجواهري بالكثير. فهو قمة من قمم الشعر العربي في كل عصوره، وأعظم شاعر ختم به النهج التقليدي للشعر العربي، ويصفه د.علي جواد الطاهر: خير تعريف للجواهري أنه الجواهري!.
قال فيه أدونيس ونزار قباني والكثير من عظماء الشعر والأدب، لكنني أميل إلى وصف الشاعر البهيّ يحيى السماوي الذي وصف الجواهري بأنه نهر العراق الثالث
بلى، هنالك دجلة والفرات... والجواهري.
وهنالك معلقاتٌ لم تكن تعجب أبا فراتٍ كثيراً، وهنا معلقةٌ على قلبي تصف حالنا اليوم تماماً، أعلقها الآن:

جـــهـــلنا ما يُراد بــــنا فقلنا   نــــواميسٌ يــدبرها الخــــفاءُ
فلما أيقـظـتَـــنْـــا من سباتٍ   مــــكائـــدُ دبـّـــرتـــها الأقـــويــاءُ
ولــيس هناك شكٌ في حياةٍ  تدوس العاجزين ولا مراءُ
لجـــــأنا للشرائع باليـــاتٍ   لتــــحــميــنا وقد عـــزّ احــتــماءُ
فكــــانـــــت قــوةٌ أخــرى وداءٌ   رجــونا أن يكون به الدواءُ
وقــــام الســيـف يرهب دفتّيها  تـــؤيـــده مـــيـــــولٌ وارتـــشاءُ
إذا لـــم ترضـــه منها سطورٌ  تـــولّت محــــو ما فـــيها الــــدماءُ
وما اختلفت عصورٌ عن عصور نعم غطّى على الصور الطلاءُ
فـــسـوق الــرقّ لـــم يكسد ولكن  تــبــدّل فــيه بيعٌ أو شراءُ
تـــرى أبداً رعـــايـــا أذكـــيــاء  تسوسهم رعـــاةٌ أغـــبـــــــياءُ
فـتـفـتـقـر المواهبُ والمــزايـــا  وتــنـــدحــر العزيــمـــة والــفــتاءُ
يــزهّد في المـحــامــد طالبيها   يــقــيــنٌ أن عــقــباهــا هـــبـــاءُ
فقد تأتي الفظيع ولا عقابٌ  وقد تسدي الجميلَ ولا جزاءُ
وتــتّــفـــق المــجــاعــة والمــزايا  وتلـتـئـم المحـاسنُ والعـــراءُ
وفي التاريخ أتعاب كثار  مضت هدرا وطار بها الهواءُ
وأعــــمـالٌ مشرّفــةٌ ذويها  تولاها فضـيّعــها الخــفــــاءُ
وأخرى جرّ مغنمها دنيءٌ فسـرّته... وصاحبها يساءُ
*****
وان أشـــرّ مــا يلقى أريبٌ  وأوجع ما يحار به الدهاءُ
نفوسٌ هدّها شرفٌ ونبلّ   وأرهـــقـــها التمنّعُ والإبــاءُ
وقد عاشت إلى الأوباش تعزى وماتت وهي معـدمة خلاءُ
وأخرى في المخازي راكساتٍ  كأصدق مايكون الأدنــياءُ
مشــت في الناس رافعــةً رؤوساً  تـنصبها كما رُفِعَ الـلواءُ
فلا الأرضون قد خسفت بهذي.. ولا هذي أغاثتها السماءُ!

في العام 1921 قال الجواهري: أنا شآمي الهوى وإن نسبت لموطنٍ فأنا عراقي، وفي العام 1997 دفن في ذات الشام الذي يهوى، وكتب على قبره: يرقد هنا بعيداً عن دجلة الخير وبودي لو أضفت: قريباً من هواه.
اختتم بوصية كتبها في دمشق ولدمشق، وكأنها كتبت اليوم ككل شعره الخالد:
شممت تربــــــك لا زلفى ولا ملقــــــا وســـرت قصدك لا خبّاً ولا مذقــــــا

وما وجــــدت إلى لقيــــاك منعطفــــا  إلا إليـــك، ولا ألفيـــت مفترقــــــاً

كنتِ الطـــريق إلى هــاوٍ تنازعــــــــه  نفس تسدّ عليه دونهـــا الطرقــــــا

وكــان قلبــي إلى رؤيـــاك باصرتـــي  حتى اتهمت عليك العين والحدقـــا

وسـرت قصــدك لا كالمشتهي بلـــدا  لكن كمن يتشهّى وجه من عشقــــا

قالـــوا دمشق وبغداد فقلت همــــــا  فجر على الغد من أمسيهما انبثقـا

ما تعجبون؟ أمن مهدين قد جمعـــــا  أم توأميـــن على عهديهما اتفقا؟

أم صـــامدين يرُبّـــان المصير معــــــا  حبّـــاً ويقتسمان الأمن والفرقــــــا

يهــدهــدان لســاناً واحــداً ودمـــــاً  صنـــواً ومعتقــداً حراً ومنطلقـــــا

أقسمت بالأمة استوصى بها قــــــدر  خيـــراً ولاءم منها الخَلــق والخُلقــا

من قال أن ليس مــن معنى للفظتهــا بلا دمشق وبغـــــداد فقدصدقــــا

فـلا راعى اللـه يومـــاً دسّ بينهمــــا  وقيعــــــة ورعى يوميهمــا ووقـــا

يــا جلـــق الشــام إنـا خلقـة عجــــب  لــم يــدر ما سرها إلا الذي خلقــــا

إنــا لنخنـــق في الأضـــلاع غربتنـــــا  وإن تنزّت على أحداقنــا حرقــــا

معــذبون وجنـــات النعيـــم بنـــــا  وعاطشـون ونمري الجونة الغدقـــــا


دمشـــق عشـــتك ريعانــاً وخافقـــــةً  ولمّةً والعيـــونَ الســـودَ والأرقـــــــا

وهــــا أنــا ويـــدي جلـــــدٌ وسالفتي  ثلــجٌ ووجهــي عظمٌ كاد أو عرقـــــا

وأنــت لـــم تبرحي في النفس عالقــة  دمــي ولحمي والأنفاس والرمقـــــا

فخــــراً دمشـــق تقاسمــنا مـراهقـــةً  واليـــوم نقتسم الآلام والرهقــــــا

دمشق صبراً على البلوى فكم صُهرت سبائكُ الذهب الغالي فمااحترقـــا

2014-07-09