السبت 11/10/1445 هـ الموافق 20/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
*ملامح* يكتبها ويعدها الزميل هاني نديم..خادم الموسيقا العربية.. سيّدها

يحتمل تاريخ الموسيقا العربية الكثير من الالتباسات والعقد التي يجب الوقوف عندها إن أردنا الحديث بحيادية، إذ ينقص موسيقانا الكثير من التطوير ـ دون أدنى شك ـ بالمفهوم الأكاديمي المعرفي للموسيقى، خصوصاً فيم يتعلق بالتوزيع والهارموني والآلات. ولن أكون مبالغاً إن زعمت أن الموسيقى العربية لم تحظ بمبدعين عباقرة بالمعنى البراجماتي، مما أخرّ مسار تطور التخت الشرقي، ولم يحدث كما حدث مع الموسيقا الغربية التي حظيت ببيتهوفن وهايدن وموتزارت. دون إغفال الأسماء المذهلة في موسيقانا كعبد الوهاب والسنباطي والقصبجي وسيد درويش الذي ـ ولسوء حظ الموسيقا العربية ـ لم يعش طويلاً والذي كان برأيي هو المؤهل ليكون هايدن العرب، إذ بدأ بتغيير تركيبة الموسيقا العربية أسيرة التحفظ والتزمت والتي تعاني الجمود الفني والتكنيكي؛ سيد درويش الذي كان يقدم نفسه خادم الموسيقا العربية، لم يأخذ حقه من البحث والدراسة، بل وإنني أكاد أجزم أن هنالك حرب ضمنية بين الموسيقيين لنتاجه ونزعة نحو الانصراف عنه جملةً وتفصيلاً دون أن أقف على الأسباب!.
شغلت سيرة حياة سيد درويش الذاتية الناس أكثر مما شغلتهم سيرته الموسيقية، حتى أن الفيلم الذي أنتج عنه ومثل دوره كرم مطاوع، لم يقدم ما انتظر منه بل جاء باهتاً ومشغولاً بتفاصيل ذاتية مهتمة ببناء الفيلم الدرامي على حساب موسيقا هذا العملاق ونتاجه.
وقبل الشروع في الحديث عن السيد درويش علينا أن نعلم أن مجموع عمره الفني هو ستة أعوام فقط لا غير من أصل واحد وثلاثين عاماً هي عمره كاملاً!؛ وقد قدم في هذه السنوات الست حوالي عشرين ''أوبريت'' وأكثر من مئتي لحن ما زالت جُمَلُها نهب الملحنين من بعده؛ إلى جانب أنه كان يكتب بشكل أسبوعي عموده الموسيقي المشهور المذيل باسم ''خادم الموسيقا العربية''. دون أن ننسى أنه أضاف للموسيقا العربية مقاماً لم يكن معروفاً قبله إلا بالاسم، وهو الزنجران الذي ذكره صفي الدين الأرموي في كتابه ''الأدوار'' كنغمٍ عربي قديم. وعلى الزنجران لحن السيد أغنيته الشهيرة ''يا حلاوة الدنيا يا حلاوة''. (تذهب رتيبة حفني إلى أن القصبجي لحن ''الحب له في الناس أحكام'' 1917 قبل درويش على ذات المقام).
لم تكن الموسيقا العربية قبل السيد درويش عربية!، بل كانت خليط أمشاجٍ من الأنغام التركية الطربية والتطريبية والفارسية والعربية، (على أن الموسيقا التركية عربية في الأصل، سافرت من أراضينا أيام الأمويين والعباسيين والفاطميين وعادت مع العثمانين بشكلٍ مختلف بطبيعة الحال) كما لم تكن الموسيقا العربية أيضاً في متناول الجميع بل كانت تطرح كطرح معنيّ بالصالونات والطبقة المخملية في غالب أمرها. حتى جاء سيد درويش من خلفيةٍ كادحة، مذهلة في إنسانيتها وغايةٍ في تفردها ليجعل من الموسيقا المترفعة بأنغامها ونصوصها تمشي على الرصيف وتتكئ على أكتاف "الأسطوات" وتردّدها حناجر العمّال.
درويش البحر، أبو سيد، ذلك الاسكندراني الكادح كان يتمنى أن يكون ابنه أزهرياً بقفطانٍ وعمامة، وهذا ما تيسر للابن الذي انتسب إلى المعهد الديني في الاسكندرية حتى وفاة أبيه التي أجبرته على أن يعمل ليعيل أهله، فعمل ببيع الأثاث قبل أن ينتقل إلى العمل في ورشة لتبييض النحاس في سوق النحاسين (قفز إلى ذهني الخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي أوحي له طرق النحاس أيضاً بالبحور الشعرية!)، وكان يغني للعمّال في الورشة وهو يناولهم "مونتهم"، الأمر الذي زاد انتاجهم لإعجابهم بصوته حتى أن معلمه فرّغه بشكلٍ كامل ليغني "للصنايعية"، وكان يطرّز أغاني عبده الحامولي ومحمد عثمان بوشاح ''درويشي'' يأخذ الألباب، كما أنه لم ينقطع عن سماع الموشحات الدينية والترنم بالقرآن حيث كان يلحق الشيخ حسن الأزهري من سرادق عزاء إلى آخر يسمعه ويفتن به، ويغني أناشيده للكادحين في الصباح.
كان سيّد بفطرته العبقرية يعرف أن غناءه يحمل أهميةً تتعدى النحاسين والسوق، فعكف على تعليم نفسه بشكلٍ نهم وغادر الاسكندرية نحو القاهرة وأسياد صناعة الغناء. وكانت أول حفلةٍ له في مقهى الكونكورد حيث أعلن أمام المختصين والمحترفين ممن حضروا الحفل ولادة شاب سيغير الموسيقا العربية وتيقن الفنانون الحاضرون من ذلك بعدما قدم دور ''الحبيب للهجر مايل'' وقدم من خلاله موسيقا ومذاهب مختلفة عما كانوا قد عرفوه أو سمعوا به.
وبسفر سيد درويش إلى الشام وحلب وتعرفه على الموسيقا هناك وشيوخ الكار مثل عثمان الموصللي، تأصلت موهبته وازداد بحثه الموسيقي وإصراره على تقديم أغنية مختلفة عن المطروح تخاطب المسحوقين وتهدف إلى إدخال الفرح والسرور إلى قلوب المكسورين، من دون التخلي عن موسيقا حقيقية، محترفة ومليئةٍ بالدهشة والمهنية التي حيّرت كبار موسيقيي عصره، على الرغم من لاأكاديمية سيد درويش، كما يزعم الباحثون، الأمر الذي أخرّ إلى اليوم تدريس أغانيه في المعاهد الاكاديمية، إلا أنني ـ وكثيرٌ غيري ـ يعزو لهذه اللاأكاديمية سحر درويش وتميزه، فهو لم يقدم أغانٍ استمدها من خلاصات تجارب الغرب والشرق كما فعل ملحنو الطبقة المخملية، إنما استلهم أغانيه من أصوات الباعة الجائلين وهوسات البنائين وأناشيدهم الحماسية قبيل ذهابهم لبيوتهم، فخُلدّت أغانيه السهلة الممتنعة لدى المثقفين والعامة على حدٍ سواء، مثل ''الحلوة دي قامت تعجن'' و''زوروني كل سنة مرة'' و''شدّ الحزام'' و''القلل القناوي'' و''أنا هويت'' و''يا حلاوة الدنيا'' و''يا شادي الألحان''؛ واستخرج من خطب الثائرين أيضاً أناشيد وأغان، وخير مثالٍ لهذا نشيد مصر اليوم ''بلادي بلادي''، المستلهم من خطبةٍ للثائر مصطفى كمال.
لقد جاهد سيد درويش في إخراج الموسيقا العربية من بلاط الملوك والباشوات وجعلها أداة بناءٍ ووسيلة عيش، ومرآة للإنسانية والحب بأبسط مظاهره، وعلينا أن نذكر أن ملحن ''استعجبوا يا أفندية، ليتر الجاز بروبية'' لحّن بذات الوقت أوبريت ''شهرزاد'' التي عدّها النقاد فتحاً موسيقياً عربياً جديداً، كما لحن أوبريت ''العشرة الطيبة'' وأوبريت ''الباروكة'' المعربة عن أوبرا لاما سكوت لأروان، وغيرها الكثير من الألحان الصعبة والمعقدة، فهو أيضاً أول من أدخل الأوركسترا على التخت الشرقي.
أقدم هنا لسيد درويش الفذّ الذي لم يأخذ حقه البحثي إلى اليوم، تحيّة إلى روحه واحتراماً لآثاره. آمل أنني تركت عنه هنا شرارة قد تقدح شرارةً أخرى تنير ما أظلم على هذه الأجيال من سيرة وموسيقا هذا العملاق.

2014-07-16