هل هو الحفر في أرض صخرية ، لا نبات بعده ؟
أم هو الحرث في البحر ، ولا نسل قبله ؟
أم هي صيحة حرف في أرض خلاء ، لا مؤنس فيها إلاّ جرح الذكريات ؟
أم هي سيرة إنسان / كلمات عاش الحياة ، وعاشر ألوانها حتّى خبر سخريتها ، فكأنّها البحر المسجور على حدّ تعبير أبي العلاء المعرّي ؟
****
سندخل مدن الكلم من أبوابها...
" الحفر في أرض صخريّة " لنور الدين عزيزة ، عنوان يحمل بين جنبيه نذير فشل رحلة / رحلة الإنسان في الأرض ، وينبئ بتيه الفرد / الجماعة في فعل الكدح دون إدراك متعة الثمار ، هكذا حدّثنا العنوان / عنوان المجموعة قبل دخول مدائن القصائد ، وكذا كان الإهداء / النصّ الفرعيّ موضّحا ، ومبيّنا لمناخات القصائد بمغازلته للأمس / الأب ، وربّما يؤكّد القول في قادم القصائد صدقيّة العنوان الأصل ، أو هكذا نظنّ . إنّه - أي الإهداء - نافذة مطلّة على حقول تأويل مترامية ، تفتح النصّ / المتن على زمنين : زمن ذاتيّ ، وآخر فيزيائيّ ( الذكريات / الراهن ) ، وبين الحنين والأنين ، وبين دفء الذكرى وبرد المعيش ، وبين شرف الانتماء وألم التجذّر " الآن وهنا " يمخر الحرف عباب رحلة " الكائن / الكيان " في علاقته بذاته وبالآخر ، هو الكائن المنذور للرحلة والرحيل ، يضرب في الأرض موجّها وجهه / حرفه شطر سؤال (الإنسان / الحياة ) ، زاده في الرحلة ( أب / وطن ) ، إنّه ابن الكلمة ، بها بعث للوجود بشرا سويّا ، وإليها يعود . وهي الفلك ، والمنطلق ، والمبتغى . " كوجيتو " آخر يختزل ملامحه الكاتب / الإنسان ، إذ الكلمة وجهه / جرحه / ماهيته / جوهره / نافذته على العالم ، كما جاء على لسانه في قصيدته الموسومة بعنوان " الجرح " :
مَجْروحٌ جُرْحًا مَا
في مَكانٍ مَا أمَسُّهُ..
في عدَدِ النّملِ هُوَ
يَتَآمَرُ معَ الدّنْيا عليَّ، يَقِفُ على أعتابِ جَسَدي
يَفْتَحُ نَوافذي للهَواءْ
مَجْروحٌ أنَا
مِنْ يومِ أنْ تَعلّمتُ الكَلام
الكلمة / أرضه ، وهي دينه وديدنه ، ساحته التي فيها يعفّر السؤال ( المعرفة ) ويعفّره ، وينحت كيانه / حلمه ، هي الأرض / الكلمة التي يبثّها آماله وآلامه ، ويقف في شرفتها باكيا حينا حظّه ، مناجيا خيول الصبّاح أحيانا . إنّها قمّته المطلّة على دربين ( التاريخ / الآتي ) ، لذلك تجد جرح الكلمات على امتداد
قصائد الديوان يعزف على بياض الورقة وطنا / دمعة على وجنتي الوجود ، وتتدفّق حيرة شوكيّة من ناي الأوجاع ، تدندن أغنيتها المفضّلة على موائد الجراح ( جرح وجوديّ ، أنطولوجي ، لغويّ ، حضاريّ ) ... إنّها ثنائيّة (الوجود / الكيان ) ( الكلمة / الجرح ) ( الإنسان / الوطن ) ( المنفى / الأب ) ، لعبة الصّلب والتّرائب في بناء عوالم الديوان الثنائيّة المتلبّسة بالقصائد ، فلا ماء في بياض الورقة إلاّ الجراح ... لا مداد في صوت الحرف إلاّ الجراح ... هكذا حدّثت اللغة جرحها الأكبر / الإنسان ، وكأنّنا بالقصائد على امتداد النصّ ترفع شعار : " من لم يكن مجروحا ( الجرح المعرفيّ ) فلا يدخلنّ علينا " . وتسيل من شجن الوحدة / التيه مشاعر شتّى ، وتنهمر الروح على شاسع (الهمّ / الضياع ) تسقي الصدى نخلة شريدة ، وتسرج القلم صهوة للوجع ، فيوجّه وجهه شطر المرايا / الأسئلة ، ويتدثّر بمرآته المهشّمة ، ليطلق عبراته / مداده مواسم للرحيل على طريق البحث عن الذات الممزّقة بين وطن الحنين ووطن الأنين ، وهي التي تقف في مهبّ الغربة على جرح الوجود مذ عانقت الكلمة ، كذا تسبح الحروف تارة شرقا ، وطورا غربا في فضاء الديوان ، لعلّها تفتح صفحات الوجود على بياض الشرفات ، وذلك بالعودة إلى الأب / الذكرى / المرافئ كما جاء على لسان الشاعر من قصيدته "مكالمة بين رجلين لم يموتا غضبا " :
أعدْ بَعضَ حِكايَاتِك
كَيفَ صَنَعتَ الماءَ واخترعْتَ الهواء
كَيفَ بَدأتَ الحَياةَ من جَديد
وطَلَعتَ على الخَطّ الخاسِر
كَيفَ كُنتَ كالسّاهِر في النّهَار
كَيفَ ضَربتَ الأرضَ فأطرَقَتْ وانْشقّتْ عن عُيونِ ماء
وقَمْح وزَيتُون !؟
****
كان يُمكنُ أنْ تَموتَ مُقاتِلا
فلاَ نَرثُ عنكَ غَابةَ زَيتُونٍ قَاحلَهْ
ولا بَيتًا صَغيرًا ولا لقَبًا مُجرَّدْ
كانَ يُمكنُ أنْ نَرثَ عنكَ مُخطَّطَ رَفْضٍ ومَشروعَ تَمرّدْ
ومُسوَّدةَ حُلْم
فَاجلسْ ما دُمتَ غاضبًا نتَحَدّثْ
سوفَ تَتحَوّلُ تُرابًا أخضَرَ في أرضِ هذا الجيل
والأجْيالِ القادمهْ !
قريبًا يَعلُوكَ اخضِرارٌ يا أبي
ويَخرُجُ من جِسْمكَ قَمحٌ ونوّار
قَريبًا تَنبَعُ يَداكَ ماءْ
وتُورقُ شَفَتاك
قَريبًا نَلتَقي على أنْقَاضِ مُغتَاليك
إنّ لغة الديوان على بساطتها تحمل في ملامحها : همّها / رائحة عرق الكادحين / دموع الغرباء على رصيف المنفى . خرجت علينا لغة عارية من الزينة ، والمساحيق ، والتورية ، والصّناعة ، والتزويق . لم تتلبّس بتكثيف "رمزيّة " تواري سوأتها ، ولم تتوسّل بأسطورة أو ما شابه ذلك لتنطق بها وعنها ، بل كانت لغة الشاعر عميقة في بساطتها ، غير مشدودة لحديث البديع ، بل جاءت تلامس جراح الفرد بنفس يراوح مكانه بين سرديّة الشعريّ ، وشعرنة السرديّ ، لتعكس مأساة الفرد حروفا تنزف سقوطا / ضياعا / حيرة ، تحدّثك عن الغربة سردا تغلب عليه شعرية الجمل ، وتحدّثك عن المنفى شعرا يتفاعل سرديّا مع الجملة ، تحدّثك عن الخيبة ، عن الإنحدار بوثوقية النثر ، واستفهامية الشعر . تحدّثك عن جرح الوطن / الإنسان في وطنه ، ومنفاه بلغة مضطربة اضطراب البحر في يوم مطير ، غير مستقرّة على حال أجناسيّ واضح الملامح ... تحدّثك عن آلام الإنسان / الضياع خارج الذات وفيها . إنّها لغة عارية إلاّ من آلامها وحيرة السؤّال ، ترسم الوجود بليل الذّات التي نهشت مخالب الوطن سكينتها ، ودّك الظّلم أسوار أحلامها البسيطة تحت سمائه ، فعانقت لوح الهجرات ( المنفى ) ، لعلّها تدرك الشمس على الضفّة الأخرى ، لكنّ الشمس كما السراب تطلب ولاتدرك ، هكذا غنّت قصيدته " عش تسمع " :
غالبَني الزّمن
دَخلتُكِ يا مَغاوِرَ الهِجْرَة
ويا الحنينُ إلى الوَطَن
وعِشْتُ الإهانةَ
ومَدَدْتُ يدي أُمَدّدُ مُدّةَ الإقامة
لذلك كان الحفر في صخرة الفنّ قبل أن يكون في صخرة الحياة ، حيث لفّ ( البحث الفنّي الدؤوب المتقلّب ) الديوان بأجنحته ليقلي به في لجّة الحيرة / حيرة جمالية وأخرى بنيوية ، كما لفّنا بذات المشاعر ، فلا نحن إزاء قصيدة ، ولا مسكنا بخيط السرد ، بل كنّا صدى للشاعر في تيهه واضطرابه ، فخرج علينا من شرفة قصائده بوجهين ، يتناوبان على مذهب " الوجه والقفا " على حدّ تعبير أستاذنا توفيق بكّار ( السارد / الشاعر )، فجمع بين تكثيف الشعر ، واختزاله ، وبين تعدّد الأصوات في السرد وشخصياته ، كقصيدته الحوارية مع أبيه ، إنّها حالة التشظّي يحياها الشاعر ، لذلك وجدناه " موجة قول " متكسّرة على صخرة الأجناس إلى وجوه من الفنّ متعدّدة ، فبين الفيض ، والبرق ، والحالة ( لحظة نفسيّة بعينها )، والحكاية ، والتداعي ، والخطيّة ، وسرد الأحداث يراوح الشاعر / السارد مكانه بين همّه " الآن وهنا " ، وشجنه على مساحات في الزمن ممتدّة ، إنّه سقوط الذات ، يليه سقوط الجنس الأدبي . وهو تداخل الذات على أرض مختلفة نوافذها ( أزمنة ، ورؤى ، وأحداث متضاربة ، ومتنوّعة ) تلقي بظلالها حتما على طرق تصريف فنّ القول ، إنّه التأرجح بين الوثوقية ، ، والاطمئنان ، والسكينة ، والقناعة ، والحالة ، واللحظة ، والجرح ، ألوان من المشاعر شتّى ، تتقاذفها الرغبة الجامحة في الحكي ، وإستدعاء الآخر إلى فضاءات البوح والشكوى، والنجوى ، والرغبة الأخرى في إطلاق العنان للذات المكلومة لتحاور ذاتها وتحوّل ماء فتنها وسقوطها إلى لوحات ، وفي الأخير يبقى الوطن هو الحصن ، والواحة ، ونقطة عودة الذات إلى ذاتها ، كما جاء على لسانه من قصيدته " من أجل حلم واحد "
رَجَعتُ..
مازالَ تُرابُكِ عالقًا في جَسَدي يا قَريتي
مازالَ شيئًا من كَلامي ومنْ عَرَقي
ولا تَزالُ أحلاَمي تَدفعُني إلى قَادِمِ أيّامي، وقَديمُ عُمُري يُشَوّشُ أفكَاري ويَشْحَذُ آلامي،
وكُنتِ عَرَفتِني المُتَوَهِّمَ عَظَمَة
أُسابقُ الأحزَان
رَجَعتُ. وقَعتُ في جُوعي إليكِ. رَجَعتُ يا شمسَكِ الغَاضِبة، الكاذبة، يا مُترقِّبةً أخبَاري، عندي لَكِ أكثَرُ من حَاجَة تُشبِهُ الغُربَة
وتُشبِهُ بقايا مَحبّة
رَجَعتُ، بعدَ زَمانٍ زَمانٍ كنتِ في عينِ المَكَانِ المَكَان.
لو زَحَفتِ على الصّحراءِ، لو زَحَفتِ على صَدري، كسَرتِ عِظامي. سَافَرتِ علَيّ بما فِيَّ من حُب امرأةٍ قديمٍ وكتَاباتٍ قَديمة.
رَجَعتُ إليك رَجَعتُ. أصبحَ الجُوعُ من طَبائعي وعَادَاتي ومِنْ أصدقَاء وَجَائعي.
جمعتُ لكِ أكثرَ مِن حَاجَة..
سألتُ عنكِ رفاقَ الصِّغر، سألتُ جُيُوبَهم المَثقُوبة تَفضَحُ جَوازاتِ السَّفَر
سألتُ عنكِ جِراحَهم نُباحَهم
رأيتُكِ في عُيونِهم وكانُوا أحَبُّوك.
لمستُكِ في ثِيابِهم، فَكأَنّهم نَزَعُوا التّرابَ العالقَ ورَدَمُوكِ
وكانَ الصّيفُ شِتاءً يَابسًا في وجُوهِهمْ
رَجَعتُ تَقُودُني جِراحَاتُ المَاضِي إلى أنْقاضي حيثُ تُغتَالُ اللّحَظاتُ ويُجْهَضُ قَادِمُ العُمُر
مِنْ أجْلِ حُلْمٍ واحِدٍ رَجَعت
إلى الأرض شَاحبَة
إلى الشّمسِ كَاذِبةِ الإشْراقْ
إلى كُلِّ زُقاقْ
رَجَعتُ إلى هَذهِ الصّخُورِ تَكبُرُ كُلَّ يوم
إلى الطّيورِ تَهْجُرُ كُلّ يوم
رَجَعتُ إلى عُيُونِها.. ذَهَبَت وكانتْ أروعَ مَا فِيك
أَورقَ بينَ جَنبَيَّ الفِراقْ..
جِئْتُ وعادَيْتُ الزّمَنَ النّاقِمِ عَليكِ
زَمَنَ السُّرّاقْ
إنّها رقصة مّا على جرح الديوان ، لعلّها تنير دربا ، أو تفتح نافذة من النوافذ المطلّة على آهات الكاتب، وحراحه ، ونزف حروفه ، إنّها تعبيرة من تعبيرات لا متناهية في تناول هذا العمل ، لاتقول بالوقوف عند كلّ منعطفاته ، والغوص في كلّّ محيطاته ، بل هي لمسة وفاء للحرف نتمنى لصاحبها مزيد الإبداع والتألّق