الخميس 16/10/1445 هـ الموافق 25/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
السياسات اللبنانية الرسمية في التعاطي مع الوجود الفلسطيني في لبنان: استبداد وظلم وتهميش

ياسر عزام/ مسؤول ملف اللاجئين في حركة حماس

يحكي اللاجئ الفلسطيني الأديب حسين لوباني الداموني حكاية اللجوء من فلسطين إلى لبنان، والمراحل التي مرّ بها شخصياً كلاجئ فلسطيني في لبنان، حيث سمّى هذه الحكاية «رحلة العذاب»، معبّراً عن العذابات التي تذوّقها الشعب الفلسطيني في النكبة واللجوء والتهجير الداخلي والهجرة الخارجية من لبنان بسبب المضايقات التي تعرضوا لها.

مرّ الشعب الفلسطيني في لبنان بظروف ومراحل عديدة، إيجابية وسلبية نسبياً، وقد قسّمها الباحث الفلسطيني محمد علي الخالدي إلى خمس مراحل، تحدث فيها عن وجود اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وتطورات حياتهم، ولكننا فيما يلي سوف نقدّم السياسات الرسمية تجاه الفلسطينيين في لبنان، مقسّمةً وفقاً للمراحل المذكورة، على الشكل التالي:

التعامل الأمني والاستبدادي

امتدت هذه الفترة ما بين (1948 -1967)، حيث استقبلت الدولة اللبنانية اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان بالترحاب، من رأس الهرم، أي الرئيس بشارة الخوري الذي رحّب بهم وتعهّد بإحسان ضيافتهم لحين عودتهم.. غير أن هذا الوعد سرعان ما تبخّر على الأرض، بعد القرارات السريعة التي اتخذتها الحكومة اللبنانية بنقل مجاميع اللاجئين من منطقة الجنوب إلى الوسط وبعلبك وحلب (قافلة حلب توقفت في الشمال واستقرت في مخيم نهر البارد).

في تلك الفترة عانى اللاجئون الفلسطينيون الكثير من التضييق، حيث لم يكن يُسمح لهم بالبناء الحجري، وكان «الدرك» اللبناني يحرّر المخالفات ويهدم المداميك التي بنيت على شكل سريع. وكان يدير المخيمات مكاتب للدرك اللبناني، ويعتبر الضابط المناوب (وغالباً ما يكون برتبة معاون أول؛ أي أقل من ملازم) هو الحاكم الفعلي للمخيم.

وكان اللاجئون ممنوعين من التنقل بين المخيمات من دون تصريح صادر من قائد الجيش (وليس من جهة شرطية أو سياسية!)، ويحتفظ كثير منهم بهذه التصاريح حتى يومنا هذا.

وحين تسلم الرئيس كميل شمعون السلطة بعد الرئيس بشارة الخوري، كان يعدّ الفلسطينيين امتداداً للتيار المؤيد للرئيس عبد الناصر والأحزاب الوطنية، وتعامل معهم على أنهم خزان ديموغرافي إسلامي، وبالمقابل عمل على تجنيس عدد كبير من المسيحيين الفلسطينيين.

وبعد ثورة 1958، ووصول الرئيس فؤاد شهاب إلى السلطة، وإعلانه عن مشروع «دولة المؤسسات»، ومن ضمنها إصدار المرسوم الاشتراعي رقم 42 بتاريخ 31 آذار/مارس 1959 القاضي بإنشاء «إدارة لشؤون اللاجئين الفلسطينيين في وزارة الداخلية والبلديات». ولكن مشروعه ترافق مع الدولة الأمنية، وتأسس في تلك الفترة المكتب الثاني (وهو عبارة عن استخبارات داخلية لها صلاحيات واسعة واختراقات تسلطية)، اشتدّ بطش السلطة اللبنانية للفلسطينيين، حيث جرى التعامل معهم بمنطق مخابراتي، وشملت الناشطين الفلسطينيين الاعتقالات الناتجة عن محاولة الانقلاب التي نفذها الحزب السوري القومي الاجتماعي. وحكم على بعضهم بالإعدام.. إلا أن أشهر الانتهاكات كانت باستشهاد المناضل جلال كعوش تحت التعذيب في أقبية المكتب الثاني.

نشوء المقاومة وانتقالها إلى لبنان

تمتد هذه المرحلة بين (1967 - 1975)، حيث تصاعدت حركة الناشطين الفلسطينيين مع انتشار أفكار وأعمال المقاومة وتغلغلها في مخيمات اللاجئين في لبنان. واصطدم في ربيع العام 1969 الجيش اللبناني بالمقاومة الفلسطينية، وقامت تظاهرات جماهيرية في المدن اللبنانية الكبرى، شارك فيها الفلسطينيون وأنصارهم اللبنانيون الكثر. وفي الربع الأخير من ذلك العام كانت قوات الأمن اللبنانية قد طُردت من مخيمات اللاجئين. ووقّعت المقاومة والجيش اللبناني في تشرين الثاني/نوفمبر 1969 اتفاقَ القاهرة الذي سمح رسمياً للمقاومين الفلسطينيين أن يستخدموا بعض المناطق المحددة في جنوبي لبنان قواعد لصراعهم ضد الكيان الصهيوني. وفي العام 1973 نفذ الجيش اللبناني غارات جوية على مخيم برج البراجنة في أيار/مايو 1973.

الحرب الأهلية

تمتد هذه المرحلة بين (1975 - 1982)، ويحاول اليمين اللبناني أن يلصق تهمة الحرب الأهلية بالفلسطينيين، وهي الحرب التي استمرت عشرة أعوام أخرى بعد خروج الفلسطينيين عام 1982. إلا أن أحداً لا يمكنه أن ينكر أنّ تنامي قوة المقاومة الفلسطينية في لبنان، أسهم بشكل مباشر في دعم القوى الوطنية.. وفيها جرى استهداف الفلسطينيين بعدة حصارات ومجازر (جسر الباشا، تل الزعتر، النبطية، صبرا وشاتيلا وغيرهم..).

ورغم أنه لم يكن لمنظمة التحرير تأثير حاسم في الانتخابات الرئاسية اللبنانية، حتى في أثناء الحرب، وجرى انتخاب سليمان فرنجية وإلياس سركيس بشكل طبيعي، إلا أن اليمين اللبناني والعدو الصهيوني راهنوا على انتخاب عدو الفلسطينيين الأول في لبنان، أي بشير الجميل. ونجحوا بعد اجتياح العام 1982 وإخراج قوات الثورة الفلسطينية بإيصال بشير الجميل إلى الرئاسة، وجهّز اللاجئون أنفسهم للهجرة من البلد أو تعرضهم للظلم الكبير، خاصة أنه كان يعد بتحويل المخيمات إلى حدائق حيوانات ومنتزهات للأطفال اللبنانيين. قُتل بشير الجميّل، وحدثت مجزرة صبرا وشاتيلا التي نفذها حزب الكتائب بحماية إسرائيلية، وانتخب أمين الجميل (وهو من الحزب نفسه) رئيساً للجمهورية. وكانت نتيجة التحقيقات التي قام بها قاضي التحقيق العسكري أسعد جرمانوس فضيحة إنسانية واستخفافاً بأرواح 3000 ضحية في مجزرة صبرا وشاتيلا، وبرّأ اليمين اللبناني من المشاركة في المجزرة.

الحصاد المرّ

في هذه المرحلة التي تمتد بين (1982 - 1987) شهد الفلسطينيون أسوأ فترات البطش بتاريخهم في لبنان، فعاد التعامل معهم بطريقة الخمسينيات والستينيات. حتى انفجرت التظاهرات (في أغلبها طلابية) في يوم الأرض 30 آذار/مارس 1983، ونفّذت السلطةُ اعتقالات عشوائية لآلاف الفلسطينيين، لمجرد الشبهة أو الكيدية، وكانت المحاكمات العسكرية قائمة وفاعلة.

وتكرّس هذا البطش بقرارات وقوانين ضد الفلسطينيين، وخاصة القرار الذي أصدره الوزير عدنان مروة الذي منع العمل على الفلسطينيين في 72 مهنة.

ونتج عن هذه الفترة، في ظل حكم حزب الكتائب ثم حرب المخيمات، موجات هجرة فلسطينية قدّرت بمئة ألف فلسطيني، هاجروا إلى الخليج والدول الاسكندنافية.

على الهامش

في المرحلة الخامسة الممتدة بين (1987 - 2000) عومل الفلسطينيون كفئة مستضعفة على الهامش، ولم يكن لهم تأثير في الساحة السياسية اللبنانية، بل إنه في أيار/مايو 1987، ألغى مجلس النواب اللبناني رسمياً اتفاق القاهرة الموقع في العام 1969.

وفي أيلول/سبتمبر 1995 صدر عن الحكومة اللبنانية قرار ينص بأن على الفلسطينيين الذين يحملون وثائق سفر لبنانية أن يستحصلوا على أذون بمغادرة البلد والعودة إليه، ثم ألغي هذا القرار في كانون الثاني/يناير 1999.

وشهدت هذه الفترة انتهاء الحرب اللبنانية وتوقيع اتفاق الطائف، والبدء بمرحلة «السلم الأهلي». وتسلم الرئيس رفيق الحريري رئاسة الوزراء.

التشويش والإرباك

في هذه المرحلة الأخيرة الممتدة بين (2000 - 2012) ظهر الإرباك والتشويش واختلاف التحالفات، وخروج الحليف السوري من لبنان، وانتقلت الأحزاب بين مواقع المعارضة والموالاة، وانقلبت الموازين والتحالفات أكثر من مرة، وشهد لبنان تطورات دراماتيكية بات من الصعب معها حلّ مسألة الوجود الفلسطيني في لبنان.

إلا أن أسوأ ما افتُتحت به هذه الفترة هو قانون تملك الأجانب، ومنْع الفلسطينيين من تملك شقة أو عقار خارج المخيم. وأقرّ مجلس النواب هذا القانون في 21/3/2001. وجاء في نص القانون «لا يجوز تملّك أي حق عيني من أي شخص كان، لا يحمل جنسية صادرة عن دولة معترف بها، أو لأي شخص، إذا كان التملك يتعارض مع أحكام الدستور لجهة رفض التوطين».

ولمزيد من تأكيد التعامل الأمني مع المخيمات، فإن مخيمات جنوب لبنان محاصرة بالحواجز العسكرية اللبنانية والجدران العازلة والأسلاك الشائكة، مع منع دخول مواد البناء، وذلك ابتداء من فجر 1/1/1997 (أي منذ 15 عاماً).

وشهدت هذه الفترة أيضاً، صدور قرار عن وزير العمل طراد حمادة، سنة 2005، يسمح للفلسطيني بمزاولة المهن المحروم منها، ما لم يتعارض مع قوانين نقابات المهن الحرة. وهذا الأمر تطور لاحقاً بمحاولة الحزب التقدمي الاشتراكي طرحه في المجلس النيابي، ما أدى إلى عودة الانقسام الطائفي بسبب هذا الطرح، وانتهى إلى تسوية «مخجلة» بين الأطراف، يقضي بتقنين عملهم بإجازة العمل، وهو أمر يزيد التقييد على عمل الفلسطينيين.

كما شهد هذا العهد كارثة تدمير مخيم نهر البارد، بطريقة مثيرة للريبة، حيث إنه لم يتم تدميره كلياً في الحرب التي نشبت. مما دعا المراقبين إلى الاعتقاد أن تدمير المخيم كان مُعداً سلفاً، وأن الأسباب إنما جاءت تحصيلاً لحاصل. ولم تصدق وعود الرئيس فؤاد السنيورة: «الخروج مؤقت، الإعمار مؤكد، والعودة حتمية».. التي قطعها للاجئين الفلسطينيين من أبناء نهر البارد الذين غادروا المخيم، في أثناء المعركة المحتدمة بين الجيش وفتح الإسلام.

وفي هذه الفترة، جرى تأسيس لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني، برئاسة السفير خليل مكاوي، في تشرين الثاني/نوفمبر 2005 بموجب القرار رقم 89/2005 الصادر عن مجلس الوزراء اللبناني. وتقضي مهمّة اللجنة بتطبيق سياسات الحكومة اللبنانية الخاصة باللاجئين الفلسطينيين في لبنان. وهي بذلك تعتبر الأكثر احتكاكاً بالفلسطينيين من الطرف الرسمي اللبناني.

الفضيحة الحقوقية

ارتكبت الحكومات اللبنانية المتعاقبة الكثير من التضييق على اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وقامت لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني بنشر نتائج «الاستعراض الدوري الشامل في المفوضية السامية لحقوق الإنسان»، حيث خضع لبنان في العام 2011 لمراجعة سجله الحقوقي. فتبين أن المفوضية تقدمت بثمانية عشر توصية لتحسين ظروف عيش اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وافق لبنان على ست توصيات فقط، ورفض اثنتي عشرة توصية (رفض –مثلاً- التوقيع على بعض الاتفاقات الحقوقية الدولية، لشمولها الفلسطينيين).

ملاحظات

بعد هذا السرد، نسجل الملاحظات التالية:

1- لم تتعامل الدولة اللبنانية مع الوجود الفلسطيني تعاملاً سياسياً، بل كان أمنياً وعسكرياً بشكل دائم.

2- لم تتعامل الجهات اللبنانية مع الفلسطيني كحليف أو مواطن، بل تراوحت التعاملات معه بين غالب ومغلوب، وعداء، وعنصرية، واتفاقات على الحد الأدنى الممكن.

3- كان العامل الطائفي هو الأساس؛ فكانت تفترق المصالح الطائفية في الحرب ويختلفون على حقوق الفلسطينيين. أما الآن فإن التوازن الطائفي والتحالفات العابرة للطوائف، لم يكن بصالح الفلسطينيين الذين خسروا دعم بعض الحلفاء بسببها.

4- افترق اليمين المسيحي لسنوات في ظل تحالفات 8 و14 آذار، وحين طرح مشروع حق عمل الفلسطينيين، اتحدت الأحزاب والتيارات المسيحية ضد المشروع، بعيداً من تحالفاتهم الأخرى.

5- أصبح حرمان الفلسطينيين من حقوقهم هو السائد وغيره الاستثناء.

6- ينبغي للطرف اللبناني أن يدرك خطورة الاستمرار بالضغط على الفلسطينيين، خصوصاً على المحاصرين في المخيمات، فشدة الضغط تولّد الانفجار.

7- القانون اللبناني منخفض السقف جداً فيما يخص الوجود الفلسطيني. مما يضطر الفلسطيني إلى مخالفة القانون والعمل بدون ترخيص. وفي المقابل فإن التغاضي و«التطنيش» قائم على عملهم من دون حقوقهم. وذلك يضعه في موقع ضعيف ومخالف للقانون. والوضع يشبه نظرية «الدولة العميقة» القائم على مستوى معيشي منخفض يُعوّض بامتيازات مخالفة للقانون تُعطى للموالين فقط.

8- ينبغي التحذير من الأسوأ، وهو إدخال القضايا الأمنية الفلسطينية إلى صلب الصراع الداخلي اللبناني. ويمكن في هذه المرحلة رصد الكثير من هذه المحاولات.

9- لن يستطيع الفلسطينيون التقدم بمواقفهم وتحقيق الإنجازات، إلا بتشكيل مرجعية موحدة تقودهم.

10- إذا تلكأت القيادات والفصائل الفلسطينية عن القيام بمهماتها فإن اللاجئين سيكونون مستعدين لتحقيق ما لا تستطيع القيام به الفصائل، كما حدث مؤخراً في مخيم نهر البارد.

المصدر: مجلة فلسطيني المسلمة – عدد آب 2012

2012-08-03