الأحد 16/10/1444 هـ الموافق 07/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
قراءة نقدية في قصيدة "كيف يكون الوقت لي" للشاعرة: آمال غزال / إعداد الدكتور: فيصل حسين غوادرة

كيف يكون الوقت لي


كيف يكون الوقت لي ؟!!
وأنا المصلوبة على نخيل الانتظار!!!

كيف يكون الوقت لي ؟!!
وأنا الفاردة أجنحتي
لألمس شذرات الفضاء المحلق بالأمل
فيعاكسني التيار !!!


كيف يكون الوقت لي ؟!!
وذاكرتي تتسلق جسور الحرف المرصوف بالتمني
الموصلني
كي أظلني أنا ’’’’

كيف أسكن أحلامكم ؟!!  يوماً
وقد أعلنت سقوط رمش النوم
من جفن الأجل
و حرمت جلدي على ثيابكم الرثة
بعدما هجرتها رائحة النخوة
فما قيمة الدم
ما قيمة الدم المنبعث في أصابع المسافات الصماء
وأيدي من سراب
تناجي صرير أبواب الهزيمة
أو ما زلنا نقاتل !!
ومتى نقاتل
لنرتق جروح خيبتنا المعجونة بوحل الأمنيات
،،،،،،،،،
أهمس لقافلة الهزيع الأخير
برئة غزالة ضالة
أنادي صحراء العروبة الصماء
وهمهمة الصبح الراحلة خلف سفح أخر الأنفاس

كيف أكون وطنكم ؟!! يوماً
وقد تقاسمتم لحمي
كما الذبيحة وقطاع الطريق
أتشربون نخب هزائمكم
بأحذية أجنبية ؟؟!!
وتدقون كؤوس النبيذ الخالي من هممكم
لتحتفلوا بأعراس دمائكم
وتنصبوا بنادقكم في وجه الريح
لتداروا أرجحتكم

آاااااه يا أمة العرب
ها هي القدس تئن تئن تناديكم

______________ / آمال غزال- فلسطين

*******************

حاولت الشاعرة "آمال غزال" في قصيدة النثر هذه، والتي جعلت عنوانها: "كيف يكون الوقت لي"، أن تبث في حناياها هموم القدس وآلامها، عبر أنين الشاعرة، الذي مثَّل كل عربي في ربوع العروبة، التي أًصبحت عروبة صمّاء، مهزومة، مأزومة، ضلّت طريقها؛ لتعيش خيبة الانتظار، ووهم الأمل...
وسأتعرض لهذه القصيدة من الزوايا الآتية:
• العنوان:
العنوان هنا مكون من أربع كلمات:  جعلت الأولى أداة استفهام، وما بعدها جملة فعلية فعلها فعل مضارع، فاعلها الوقت، متبوع بجار ومجرور، ودون أن تضع علامة استفهام نهاية عنوانها، والعنوان هو أول ما يلقاه القارئ أو المتلقي من العمل الأدبي، والعنوان ذو صلة عضوية بالقصيدة، وهو النداء الذي يبعثه العمل الأدبي إلى مبدعه( ).
والعنوان بدئ باستفهام لا علامة له، وهو يثير دلالات متعددة عند المتلقي، فهل سقطت العلامة سهواً؟ أم كان الاستفهام بلا دلالة استفهام، بل وكأن الشاعرة أرادت أنه من كثرة استعمال العنوان أًصبح خبراً تقريرياً، لا رائحة للاستفهام فيه. وهذا يجعل العنوان كنظام سيميائي له "أبعاد دلالية، وأخرى رمزية تغري الباحث بتتبع دلالاته، ومحاولة فك شفراته الرامزة"( ). وقد جعلت "آمال" عنوانها ذا مقدرة متنامية، وذا قدرة تفاعلية توالدية، خلال النص الشعري والأسطر الشعرية، ولذا فهو عندها بمثابة "المحور الذي يتوالد ويتنامى ويعيد إنتاج نفسه"( ). وهذا تحقق بوجود السمة التكرارية لنص العنوان ذاته في الأسطر (1، 3، 7)، مع وجود علامة استفهام متلوة بعلامتي تعجب بعد كل عبارة عنوان تكررت.
وإذا ولجنا إلى دلالة العنوان نجده يتساءل بأسلوب تعجبي بثوب ساخر، فكيف يكون الوقت (الزمن) للقدس في زمن نسيها وتناساها العالم العربي من محيطه إلى خليجه؟! كل ذلك من خلال دمج الأسلوب الإنشائي بالأسلوب الخبري؛ ليكون عبارة مدمجة تشي بالتساؤل والتعجب والسخرية واللاأمل، في ظل الضياع والخيبة والهزيمة.
• التكرار :
لقد تعاملت الشاعرة مع التكرار بطريقة تكاد تشكل ظاهرة لها دلالتها في نصها الشعري، فالتكرار عادة ما يؤتى به "لإشباع المعنى والاتساع في اللفظ"( )، وقد جاء التكرار عند الشاعرة مكثفاً في بعض الجوانب؛ لأن التكثيف لمثل هذه السمات التكرارية يؤكد على أن بنية التكرار هي من أكثر البنى التي تتعامل الشاعرة معها؛ ليتم توظيفها بكثافة لإنتاج الدلالة( )، وأول ما يطالعنا في قصيدة الشاعرة من البنى التكرارية، هو الاستفهام الذي نال حضوراً لافتاً لدى الشاعر، فأول ما أشعلت النار في قصيدتها، كان بعود ثقاب الاستفهام "كيف"، والذي تكرر ست مرّات في النص، أما الاستفهام بشكل عام، فقد تكرر إحدى عشرة مرة، وذلك في الأسطر (العنوان+1، 3، 7، 11، 16، 17، 20، 21، 28، 31)، وقد عمدت الشاعرة إلى الاستفهام لإيجاد إثارات خطابية، ومنبهات عقلية، ففَعّلَت فيه الأسلوب الإنشائي الذي عادة ما "يجسد نمطاً إيقاعياً جمالياً يرتفع في النفس بترداد حدة النغم فيه"( )، حيث غطى الاستفهام فيه معظم مناطق القصيدة مراوحة بين أدوات الاستفهام (كيف) -وهي أكثرها- و(أو ما) و(ما) و(متى)، وفي كل مواقع التواجد جاء الاستفهام في مطلع المقطع الشعري؛ وذلك ليقوم بشحنة دلالية وإيقاعية ونفسية طيلة أسطر المقطع، إلا ما كان في المقطع الرابع، حيث وجدت (ما والهمزة ومتى) خلال الأسطر، وكأنها تعمل على تقوية تلك الشحنات لتواصل مسيرتها حتى نهاية المقطع.
ولعل هذه الشحنات تتعمق في نفسية الشاعرة لتخرج عن وظيفتها الأساسية إلى دلالة التعجب والوهم، فإذا بالشاعرة تكررها أحياناً دون علامة استفهام،  كما في العنوان، وقولها: "فما قيمة الدم"، "وقولها ما قيمة الدم... الصماء" أو قولها و"متى نقاتل" تحولها إلى تعجب كما في قولها: "أَوَما زلنا نقاتل"!!" أو تردف الاستفهام بعلامتي تعجب، كما جاء في مواقع متعددة، وفي كل ذلك فإنه "يشير النسق التكراري لعناصر الجمل الاستفهامية، التي تعمل على ربط السياق الشعري، إلى اعتبار الاستفهام أداة فاعلة تشكل أساس البنية الدلالية للنص"( ).
وأجد صور التكرار تتعدد في بنية القصيدة، فإضافة إلى تكرار الاستفهام، أجد تكرار ضمائر المفرد المتكلم، والجمع المخاطب، وأجد كذلك تكرار بعض المفردات مثل: يوماً، ما قيمة الدم، الوقت، كيف، الصماء، نقاتل، إلى غير ذلك من البنى التكرارية التي تحتاج إلى مزيد من الدراسة والمعالجة.
• السؤال والإجابة:
وأجد الشاعرة جردت من نفسها شخصية أخرى جعلتها تتحدث باسم القدس، التي احتلها الصهاينة اليهود، وتخلى عنها العرب في كل مكان، وجعلت شخصية القدس تتحمل مسؤولية إدارة الحوار الاستفهامي والتقريري داخل بنية هذه القصيدة، فهي تسأل وتكرر السؤال "كيف يكون الوقت لي؟!!"، ولكن مع تغير في الإجابة من مقطع إلى آخر بعد كل استفهام.
ففي الاستفهام الأول في المقطع الأول، تجيب الشاعرة عن سؤال قدسها الاستفهامي التعجبي بلسان قدسها، وبجملة تعجبية أخرى جعلت نهايتها ثلاث علامات للتعجب، عندما قالت: "وأنا المصلوبة على نخيل الانتظار!!!". وفعلاً، كيف يكون الوقت لك يا قدس، وأنت المصلوبة التي لا حراك فيك، على نخيل وهمي، أسمته الشاعرة "نخيل الانتظار"، فالصّلب عملية تكاد تكون من خلال السياق بأنها أبدية، رغم قول الشاعرة "نخيل الانتظار"؛ لأن كلمة نخيل وقعت بين المصلوبة على يمينها، والتي تمثل فيها فهل الصلب، والانتظار على يسارها، والتي تمثل فيها فعل الانتظار، وبين الصلب والانتظار وقفت القدس تعاني عملية الصلب، التي لا نهاية لها، بل ستبقى في سجل الانتظار تنتظر من يتذكرها، وهنا تتحقق الإجابة على السؤال: بأنه لا وقت لك يا قدس ينتظرك عند بني يعرب.
ثم تأتي الإجابة في المقطع الثاني بقولها: "وأنا الفاردة أجنحتي/ لألمس شذرات الفضاء المحلق بالأمل/ فيعاكسني التيار"، ولا يبتعد الجواب هنا كثيراً، عن إجابة المقطع الأول، فالقدس هنا تفرد أجنحتها –كالمصلوبة-؛ لتحلق في فضاء الأمل، فيعاكسها التيار لتعود كما بدأت... وبذلك يكون لا وقت لك يا قدس. وكذلك الأمر في المقطع الثالث ينتهي الأمر بالتمني، وتتكرر النهاية.
أما في المقطع الرابع، فتغير القدس سؤالها، فتتغير الإجابة، ولكنها هنا تطرح ثلاثة أسئلة، فقد جاء الأول: "كيف أسكن أحلامكم؟!!" فبعد أن فقدت القدس السّكن في العقول، رضيت بأن تسكن الأحلام، وجاءت بقرائن على ذلك، من خلال إيرادها ألفاظ النوم وجفن...، وحتى سكن القدس للأحلام غير مسموح به في عالم العروبة؛ لأن النوم غير مسموح به بعد سقوط الرمش الواقي والمعين على النوم، وضياعه من الجفون، وتستمر القدس (الشاعرة) في وصف مشهد التشاؤم المسيطر عليها، فتقول: إنها حرّمت على جلدها أن يرتدي الملابس الرثة البالية التي يتصدق بها العرب؛ لأن النخوة لم تعد موجودة عندهم، وفي قمة التشاؤم واليأس جاء تساؤل القدس الثاني: "فما قيمة الدم" وتركت سؤالها دون علامة استفهام؛ لأن السؤال فقد قيمته عند من لا يقدرونه، استفهام جوابه النفي والإنكار، فلا قيمة لدم ينبعث من أيدي السراب والهزيمة. ويأتي السؤال الثالث في خضم هذا المشهد "أوَما زلنا نقاتل!!". وقد جعلت الشاعرة خاتمته علامتي تعجب بعد الاستفهام، وكأنها تعجب لمن ما زال يقاتل من أبناء فلسطين، أو حتى يفكر فيه، في ظل الغياب العربي والخيبة المعجونة بوحل الأمنيات.
ثم تطرح القدس سؤالاً تعجبياً آخر في مطلع المقطع السادس، "كيف أكون وطنكم يوماً؟!!" وهو سؤال يتناغم مع بقية الأسئلة في النص، فالقدس التي لم تجد لها وجوداً في الزمن العربي، ولا مكاناً حتى في أحلامهم، لا ترضى بأن تكون لهم وطناً؛ لأنهم رضوا بتقسيمها وتوزيعها على قطّاع الطرق. ويأتي السؤال الأخير في المقطع السابع بهمزة الاستفهام: "أتشربون نخب هزائمكم بأحذية أجنبية؟؟!!"، وهو سؤال جاء بعلامتي استفهام متلوة بعلامتي تعجب، لم أجد غيرها في النص، وفيه دلالة مكثفة للاستفهام والتعجب؛ لأنها تعبر عن قمة الهزيمة والهوان والتخاذل والاحتقار الذي يعيشه العالم العربي.
• التلقي والتأويل:
لقد أعطت نظرية التلقي التي أرسى دعائمها "ياوس" و"إيزر"، ودوراً للمتلقي في تأويل العمل الفني وتحليل أبعاده( )، وقد انعكست كثير من مفردات هذا النص وتراكيبه على مرآة اللغة المعيارية، التي "هي الخلفية التي ينعكس عليها التحريف الجمالي المتعمد للمكونات اللغوية للعمل، أو بعبارة أخرى الانتهاك المتعمد لقانون اللغة المعيارية"( ). وإني لأجد الشاعرة "آمال" قد أثقلت نصها –قيد القراءة- بمناطق للتلقي والتأويل، وأخرى بالإنزياحات، وثالثة بالصور، وغير ذلك من فنيات العمل الشعري. وإذا ما حاولت أن أستعرض بعض مناطق التلقي والتأويل، فإني أجدها كثيرة، أترك بعضها عند حديثي عن الانزياح، وبعضها للصورة الفنية، وقضايا أخرى، وأمثل لهذا الموضوع ببعضها، فمثلاً قول الشاعرة "نخيل الانتظار": قديماً كان يصلب من أريد قتله على جذع شجرة نخيل؛ ولذا تمثلت الشاعرة صورة القتل هذه، وخلعتها على الصّلب لشخصية القدس، التي تم صلبها، وانتهى الأمر، عندما جاءت الشاعرة بصيغة المفعول (المصلوبة)، ولكن صلبها تم على نخيل غير عادي، فقد أضافته لغير ما يتوقع المتلقي، وهو "الانتظار"، وكان المنتظر أن تضيفه إلى الصحراء، أو الحقل، وفي إضافتها هذه خرق للغة المعيارية، وانزياح عن المتوقع، فهل قصدت الشاعرة من هذه الإضافة أن الانتظار طويل للقدس حتى تأخذ حيزها في العقل العربي؟ أم أن القدس ستبقى واهمة إذا اعتقدت أن العرب سيعملون من أجلها شيئاً؟ أم أن هذا الوهم سيتبدد على صلابة النخيل وصموده وشموخه؟... إلى غير ذلك من التأويلات، وهنا يبرز أثر القراءة التأويلية التي تشكل "في نظر المتلقي إستراتيجية للاختلاف والمغايرة، بقدر يتيح إنتاج معنى مختلف، أو ممارسة للفكر بطريقة مغايرة، ولأن التأويل هو كذلك، فإنه يتيح للمؤول المتلقي أن يخترق الحواجز بين الأنا والآخر، وأن يصل الأزمنة المتباعدة بعضها ببعض"( ).
وقول الشاعرة: "جسور الحرف"، في السطر الثامن من الفقرة الثالثة، أضافت المضاف إلى غير ما يُلائمه، فلا علاقة حقيقية بينهما، فماذا قصدت الشاعرة من هذين المتضايفين؟ وكيف يكون الحرف جسراً؟ وكيف يكون مرصوفاً بالتمني؟ وكيف تتسلقه ذاكرتها؟ ... إلى غير ذلك من التأويلات والتوقعات. وكذا في قولها: "أصابع المسافات الصماء: كيف ينبعث الدم منها؟ وهل للمسافات أصابع؟ وكيف تكون المسافات صماء؟. وقولها: "جروح خيبتنا المعجونة بوحل الأمنيات"، وكيف يكون للخيبة جروحاً؟ وكيف يعجن الوحل بجروح الخيبة؟ وما هي وحل الأمنيات؟
وهل في قول الشاعرة: "لألمس شذرات الفضاء المحلق بالأمل"، وقولها: "برئة غزالة ضالة" تناسب وتناغم؟ وهل في العبارتين تقارب في المعنى والمغزى؟ حيث الفشل والضياع، وهل لكلمة "أمل" و"غزالة" علاقة باسم الشاعرة صاحبة النص "آمال غزال"؟ أم هو توارد عفوي يعبر عن منحى نفسي نامٍ داخل نفسية الشاعرة؟ وفي الحقيقة أن مواطن التلقي والتأويل كثيرة، ومتعددة الجوانب والمرامي، إذ لا يكاد يخلو سطر منها، وتحتاج جميعها إلى الوقوف عليها، والتأمل فيها وإعطائها حقها من التأويلات التي تستحقها. ولعلّي قبل أن أفارق هذا الموقع أتساءل: ما التلقي والتأويل المتوقع بين العنوان وجملة الختام؟ أي بين "كيف يكون الوقت لي"، وقولها: "ها هي القدس تئن تئن تناديكم". فالشاعرة في عنوانها –وإضافة إلى ما قلته سابقاً- توائم بين ضمير الغائب (يكون)، وضمير المتكلم المفرد (لي)؛ لأن القدس الغائبة الحاضرة، تود أن يكون لها حضور في الضمير العربي الغائب الحائر، ولو بصيغة المتكلم؛ لعلّها توقظ الحسّ العربي الذي ما زال يقف على بوابة الانتظار ينتظر، وجاء العنوان تقريباً بموازاة جملة الختام، بل ومندغماً معها، من حيث خطاب الضمير الذي جمع بين الغائب(تئن) وبين المتكلم الجمع، ولكنه هنا جمع بين التكرار (تئن تئن)، وبين ضمير الجمع، وفي ذلك مواءمة بين اللفظ والتكرار والضمائر لتتناسب مع ما ورد في العنوان بلفظه وضمائره.
ولكن جملة الختام سبقت بتكرار (آاااااه)، وما فيها من تأوهات وتألمات ممزوجة بهاء التنبيه(ها) لتنبه وتوقظ العالم العربي لأنين القدس الذي لا ينقطع، ومناداتها واستغاثتها، ولكن لا مجيب ولا مغيث... ومع كل ما تقدم، فإن "النص الذي حقق قدراً عالياً من العمق والشعرية يتجاوز حدود المعنى المعزول، أو المقصدية الأحادية الدلالة"( ). كما أن للنص إذا ما أنجز حياة مستقلة عن صاحبه، قد تتجاوز تجاوزاً كاملاً ما أراده صاحبه منه( ).
• الصورة الفنية:
تتزاحم الصور على عتبات مقاطع هذا النص الشعري، بل جاءت مكثفة حتى دخلت إلى أعماق كل سطر شعري من مكونات هذه القصيدة، فالصورة عند شاعرتنا "تشكيل لغوي، يكونها خيال الفنان من معطيات متعددة، يقف العالم المحسوس في مقدمتها، فأغلب الصور مستمدة من الحواس، إلى جانب ما لا يمكن إغفاله من الصور النفسية والعقلية"( ).
لقد آلم الشاعرة موقف التخاذل والتآمر من أمة العرب، حتى سيطر على شعورها ومشاعرها، فعمدت إلى قصيدة النثر هذه، تصب فيها لواعج فؤادها النازف بدم الحسرة على أمة الملايين، وعلى شعب الجبارين، الذي يساوم ولا يقاوم، والذي نصب بندقيته صوب الريح، ولعلّي ضمن كل هذا أقف على بعض صور الشاعرة في نصها هذا، وعلى بعض مراميه ودواعيه... فربما أضيء الفانوس السحري على صورة توقظ مشاعر العزة في هذه الأمة المهزومة المأزومة، المسكونة بالخيبة والخذلان، فالصورة الشعرية هي السمة المميزة للخطاب الشعري، والحدّ الفاصل بين لغة الشعر ولغة النثر، ذلك بأن كثيراً من مكونات اللغة الشعرية قابلة للتغيير والتطوير، ولكن الصورة تبقى المبدأ الثابت في القول الشعري( ).
كثيراً ما لجأت الشاعرة إلى التجسيم والتشخيص، فالقدس مصلوبة، وفاردة أجنحتها، وذاكرتها تتسلق، وسكنت الأحلام، وجفن الأمل، ورائحة النخوة، وأبواب الهزيمة، المعجونة بوحل الأمنيات، وأعراس دمائكم، ووجه الريح، إلى غير ذلك، وهذا التركيز على ناحيتي التجسيم والتشخيص يشكل ظاهرة تستحق الدراسة في هذا النص الشعري، ويشي بمقدرة الشاعرة على تكوين صورها وتنويعها، وتفعيلها في ذاكرة المتلقي، وتدل على جرأة الشاعرة في إشعال مخيلة المتلقي في تكوين الصور التي تعطي للنص الشعري حيويته وتقبله عند الآخر.
كما تلجأ الشاعرة إلى توظيف الكناية في معرض تصويرها الفني، كقولها: "سقوط رمش النوم"، وقولها: "أيدي من سراب"، كناية عن عدم وجودها على الحقيقة، وقولها: "أبواب الهزيمة"، كناية عن تعدد أنواع الهزيمة، وقولها: "أنادي صحراء العروبة"، كناية عن أن العرب أصبحوا لا قيمة لهم، ولا فائدة فيهم، ولا خير يرجى منهم، وقولها: "لتداروا أرجحتكم"، كناية عن زيغكم وانحرافكم عن الحق، إلى غير ذلك. والشاعرة في توظيفها للكناية في نصها الشعري تعمد إلى ما في جعبتها من هموم وأنين لتفرغها بالتكنية دون التصريح؛ لأن الهمّ كبير، والألم عميق، والجرح غائر، والانتظار طويل.
وكما أشرت –آنفاً- إلى تدفق الصور الفنية في هذا النص، ولكن أكتفي بالإشارة إلى الصورة –الصور- في المقطع الرابع، الذي يتوزع فيه ثلاث جمل استفهامية لتعمق التجاذب بين الأسلوب الإنشائي والخبري في مشهد تفاعلي يزيد من قوة الصورة وتأثيرها على نفسية المتلقي.
والشاعرة صورت القدس، وهي تتساءل عن كيفية إقامتها في أحلام أبناء هذا الوطن، ولكن كيف تدخل إلى أحلامهم بعد أن سقطت رموش النوم من جفونهم؟ وكيف تقيم عندهم بعد أن حرّمت ثيابهم على جلدها؛ لأنها تخلو من النخوة؟ وهنا في ظل هذا المشهد تسأل القدس: ما قيمة الدم المنبعث من السراب؟ والأيدي التي تخاطب الهزيمة؟ وسؤال ثالث: أوَما زِلْنا نقاتل!! تتساءل القدس في ختام هذا المشهد: لماذا نقاتل؟ إذا كان قتالنا يعمل على شفاء جروح الخيبة المعجون بوحل الأمنيات. وبذلك تتشكل الصورة العامة من أربعة محاور، الأول:  تكون من الأحلام ويناسبها النوم والجفون، والثاني: تحريم اللباس إذا كان لا نخوة فيه، والثالث: لا قيمة للدم(التضحية)، إذا كان في سراب وهزيمة، والرابع: التعجب من استمرار القتال؛ لأنه لا يعالج إلا جروح الخيبة والفشل والأماني المهزومة.
وقد وازنت الشاعرة في نصها هذا بين المحسوس واللامحسوس، بل كثفت من الصورة المعنوية الممزوجة بالمادي الملموس؛ لتشكل صورة حزينة مؤلمة عن الواقع العربي نحو القدس الشريف، ولعل هذه الصورة الشعرية التي عملت الشاعرة على تركيبها وإبرازها، ما هي إلا إعادة إنتاج عقلية لتجربة عاطفية عاشتها الشاعرة نحو القدس، بما فيها من أنات وأنين، يؤدي في النهاية وبشكل عام في جميع مشاهد النص، وليكوّن ما يسمى بالصورة الموسعة، وهي "تلك التي تفتح فيها كل عبارة فسحة عريضة للمخيلة، كما أن كل عبارة تعدل تعديلاً قوياً العبارة الأخرى( ). وعلى سبيل الحقيقة، لو أعطيت هذه القصيدة ليد رسام لأبدع لنا لوحة كبيرة مكونة من مجموعة من الصور، وهي وإن كانت في مجملها لوحة فنية جميلة، لكنها تشاؤمية تنم عن الواقع الذي نعيشه بما فيه من ضياع وهزيمة وخذلان.
• الانزياح:
لجأت الشاعر إلى الانزياح في مواطن كثيرة من نصها هذا، مما جعل النص مفتوحاً على بعض التأويلات، التي هيأها النظام السيميائي للغة الشعرية، أو بسبب الفجوة بين النظام المعياري المألوف والنظام الشعري، الذي جاء عليه نص هذه القصيدة( )، ومن هذه المواطن قول الشاعر "نخيل الانتظار"، و"جسور الحرف المرصوف بالتمني"، و"رمش النوم"، و"جفن الأمل"، "ورائحة النخوة"، و"أصابع المسافات"، و"أبواب الهزيمة"، و"جروح خيبتنا المعجونة بوحل الأمنيات"، و"غزالة ضالة"، و"صحراء العروبة الصماء"، و"همهمة الصبح"، و"سفح آخر الأنفاس"، و"أعراس دمائكم"، و"وجه الريح"... إن تركيز الشاعرة على الانزياح أظهر أن له "وظائف معنوية كثيرة إلى جانب وظيفته الأسلوبية، فالانزياح الإضافي يتمثل في المفاجأة التي ينتجها حصول اللامنتَظَر من خلال المنتَظَر، أي أن يتوقع المتلقي مضافاً إليه يتلاءم والمضاف"( )، فالمضاف إليه فيما ورد من أمثلة، انزاح عما يجب أن يكون عليه، فالنخيل لا يناسبه الانتظار، والجسر لا يناسبه الحرف، وكذلك الرمش لا يتلاءم معها النوم، وكذا الأمر في سائر الانزياحات، فالشاعرة في هذه الانزياحات تحقق عندها الكثير من حالات التناقض واللامتوقع، وفي ذلك "تصوير يشف عن قمة المعاناة، وإيحاء في التقرير، وضرب من الانحراف الأسلوبي، الذي يُفْزَع إليه التعبير عن المثير والمدهش، وغير العادي"( ). وهذا الانحراف أو الانزياح الذي وزعته الشاعرة على جلّ مناطق القصيدة، كما رأينا ذلك في خارطة الانزياحات التي سبق عرضها، تعمل على إيجاد الإثارة الذهنية في البنية النصية، وهذه "الإثارة الذهنية التي تنحرف عن المعتاد القياسي في حياتنا الذهنية، لا بد وأن يكون لها انحراف لغوي مرافق، عن الاستعمال العادي"( )، والحديث عن هذه الانزياحات طويل، وتأويلها متعدد، وتفسيرها متنوع لا مجال لذكرها في هذه العجالة.
• الالتفات:
إن الالتفات في حقيقته يعتمد على حركة الذهن، وانتقالها من معنى إلى معنى، أومن أسلوب في الكلام، إلى أسلوب آخر مخالف للأسلوب الأول( )، وفي التعليل لبلاغة الالتفات لاحظ الزمخشري أن العدول من أسلوب إلى أسلوب فيه إيقاظ للسامع، وتفعيل له من خطاب إلى خطاب آخر؛ لأن السامع ربما ملّ من أسلوب، فينقله إلى أسلوب آخر، تنشيطاً له في الاستماع، واستمالة في الإصغاء( )، وأجد الشاعرة "آمال غزال"، قد ركزت على الالتفات في قصيدتها هذه بشكل مثير للانتباه، فقد ورد الخطاب في الضمائر بين الغائب والمتكلم، بدءاً من العنوان "كيف يكون الوقت لي"، ومروراً بمواقع مختلفة في النص، حيث نجد حضوراً للضمير المتكلم (أنا)، فقد تكرر كضمير (أنا) وكياء المتكلم (لي، أجنحتي، يعاكسني...)، وكتاء المتحركة(أعلنت، حرمت)، أو كنا(زلنا).. إلى غير ذلك، وأستطيع أن أبين ذلك من خلال لوحة الالتفات الآتية (لبعض المقاطع):
المقطع الأول: يكون (هو) + أنا (لي) +أنا.
المقطع الثاني:  يكون (هو) + أنا (لي) + أنا+ أجنحتي(أنا) +لألمس (أنا) +الفضاء(هي) +يعاكسني (هو +أنا)
المقطع الرابع: أسكن (أنا) +أحلامكم (أنتم) +أعلنت (أنا) +رمش (هو) +حرمت (أنا) +جلدي (أنا)+ ثيابكم(أنتم) +هجرتها(هي) +الدم (هو) أيدي (هي) +تناجي(هي) +زلنا(نحن) +نقاتل(نحن) +لنرتق +(نحن) +خيبتنا(نحن) +الأمنيات(هي).
كذلك الأفعال في هذا المقطع: أسكن(مضارع متكلم) +أعلنت(ماضٍ متكلم) +حرمت(ماضٍ متكلم) +هجرتها(غائبة) +تناجي(مضارع غائبة) +زلنا(ماضٍ متكلم) +نرتق(مضارع متكلم.
وهكذا في سائر مقاطع نص القصيدة، حيث تركز الشاعرة على هذه القضية البلاغية؛ لتظهر من خلالها إبداعية الالتفات التي "تتجلى في كونها أسلوباً دلالياً وانتقالياً، يتم فيه تحويل الخطاب من صيغة معينة إلى صيغة أخرى مختلفة عنها"( ). ولعل الشاعرة هدفت من التركيز على الالتفات في هذا النص؛ لأنه يعد "من السمات التضليلية التي تأسر وجدان الشاعر، فيلجأ إليها لمداورة القارئ، وتطرية لنشاط السامع"( ). وربما جاءت المراوحة في استخدام الضمائر والتنقل في الخطاب بينها، حتى توصل الشاعرة رسالة إلى الجميع، بدءاً من ذاتها، بأن المسؤولية عامة على الجميع نحو القدس وضياعها واستردادها، فالذات الشاعرة والمتحدثة مسؤولة، وذلك من خلال ضمائر المتكلم، والذات الغائبة(ضمير الغائبة) مسؤولة أيضاً، والذات المخاطبة (ضمير المخاطب) مسؤولة كذلك، وإن كان التركيز عليه واضحاً في نص القصيدة، من خلال الضمير (كم) في مثل قولها: ("أحلامكم"، و"ثيابكم"، و"وطنكم"، و"هزائمكم"، و"دمائكم"، و"بنادقكم"، و"أرجحتكم"، و"تناديكم")، حيث المسؤولية شاملة عما حدث للقدس من تهويد وتشريد وتقتيل، في ظل ألوان من الخيبة والفشل والتخاذل والتآمر.
وهذا يظهر لنا أن نص قصيدة النثر للشاعرة "آمال غزال" نص مفتوح من كل جوانبه، وله قراءاته التأويلية التي لا تقف عند حدود ما تحدثت فيه، فقد بقيت زوايا أخرى من الممكن إضاءتها والحديث فيها، وإزالة الغموض أو التعمية عنها، وما تعرضت له في هذه القراءة وأبنت بعض مراميه، لا يعني أنني تحدثت عنه بصفة الشمول والكمال، فالكمال لله وحده، ونتذكر هنا بأن النظرية التفكيكية تنفي فكرة القراءة الصحيحة أو الوحيدة، وتعنى بمبدأ يقوم على تعدد القراءات، والنص عندهم "ساحة تباينات لا بيانات، ساحة تفجير المعاني لا حصر لها"( ).
وبقي أن أذكر الأخت الشاعرة "آمال غزال" بأنه: إذا كان العرب والعروبة لم يفعلوا شيئاً لقدسها، فلتبدأ بالعزف على وتر الإسلام؛ لأن الإسلام وحده هو الذي يعيد للقدس كرامتها وعزتها، مصداقاً لمقولة ابن الخطاب: "ومن يبتغي العزة بغير الإسلام أذله الله".
كما أنوه أن القدس تحتاج منكِ ومنّا أكثر، وكلٌ يقدم في مجاله ما يحسنه.

والله ولي التوفيق

الدكتور: فيصل حسين غوادرة / أستاذ مشارك / جامعة القدس المفتوحة
الهوامش:

( ) الكواز، محمد كري، (1426هـ)، علم الأسلوب- مفاهيم وتطبيقات، جامعة السابع من إبريل، الجماهيرية الليبية، ط1، ص:125-126 .
( ) قطوس، بسام، (2001م)، سيمياء العنوان، دار ومكتبة كتابة، إ{بد، الأردن، ص:12 .
( ) مفتاح، محمد، (1987م)، دينامية النص، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، ص:72.
( ) ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم، (1984)، الشعر والشعراء، عالم الكتب، بيروت، ط3، ص:240.
( ) عبد المطلب، محمد، (1988م)، بناء الأسلوب في شعر الحداثة-التكوين البديعي، (د.دار نشر)، (د.ط)، ص:390.
( ) جمعة، حسين، (2005م)، جماليات الخبر والإنشاء- دراسة بلاغية جمالية نقدية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ص:47 .
( ) موسى، إبراهيم نصر، (2005م)، آفاق الرؤية الشعرية-دراسات في أنواع التناص في الشعر الفلسطيني المعاصر، وزارة الثقافة، الهيئة العامة للكتاب، ط1، ص:72 .
( ) الرواشدة، سامح، (2001)، إشكالية التلقي والتأويل، منشورات أمانة عمان الكبرى، ط1، ص:141 .
( )  ونسكي، يان موكار، (1984م)، اللغة المعيارية واللغة الشعرية، ترجمة: ألفت كمال الروابي، مجلة فصول، م5، ع1، ص:49 .
( ) غصن، أمينة، (1999م)، قراءات غير بريئة في التأويل والتلقي، دار الآداب، بيروت، ط1، ص:54 .
( ) الرواشدة، سامح، (2001)،  إشكالية التلقي والتأويل، ص:14.
( ) روتفن، (ك، ك)، (1989م)، قضايا في النقد الأدبي، ترجمة: عبد الجبار المطلبي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، ص:287 .
( ) البطل، علي، (1983م)، الصورة في الشعر العربي، دار الأندلس، بيروت، ط3، ص:30 .
( ) ويليك، رينيه، (د.ت)، نظرية الأدب، ترجمة محيي الدين صبحي، مراجعة د. حسام الخطيب، (د.دار نشر)، ط3، ص:194 .
( ) نفسه، ص:211 .
( ) الرواشدة، سامح، إشكالية التلقي والتأويل، ص:54  .
( ) إطميزة، عبد المجيد عامر، (2013م)، أعماق القول، مؤسسة المواكب، مجلة مواقف، الناصرة، ص:16 .
( ) بكار، يوسف، (2007م)، عين الشمس-مقارنات في النقد ونقد النقد، مكتبة الرائد العلمية، عمان، الأردن، ط1، ص:77 .
( ) ويليك، رينيه، (د.ت)، نظرية الأدب، ص:189 .
( ) عبد المطلب، محمد، (1988م)، بناء الأسلوب في شعر الحداثة، ص:59 .
( ) عبد المطلب، محمد، (1984)، البلاغة والأسلوبية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، (د.ط)، ص:207  .
( ) حمرة العين، خيرة،(2001م)، شعرية الانزياح-دراسة في جماليات العدول، مؤسسة حمادة للدراسات الجامعية والنشر والتوزيع، إربد، الأردن، ط1، ص:44.
( ) نفسه، ص:224 .
( ) تامر، فاضل، (1994م)، اللغة الثانية، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، ص:46-47 .

2015-02-09