الخميس 13/10/1444 هـ الموافق 04/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
بداية مقدّمة كتابي " جولة في معبد الشعر التونسي " ... فوزي الديماسي

أقف ذات دهشة في محراب الحرف ، فتشدّني إليه شدّا حلقات الرسم ، ويهزّني الطرب على أنغامه ، فترقص صوري ، وخيالاتي في الذهن كرقص صبية زمن اللقاء مع من تحبّ ...هو الشعر . يهزّني من منبتي إليه هزّا ، فأجدني كما السابحات في الفضاء ، أوكطفل على شاطئ الأحلام يداعب حبّات الفجر ،

فيبني في الخيال  قصورا ، لتلعقها من بعد ذلك الأمواج الساخرة ببرود خرافيّ  ، وتبقي وراءها زبد الزّفرات صدى يتردّد على وجنتي الطّفل عبرات  ، وأحاول مرة بعد أخرى ، ويكفيني شرف المحاولة ، كذا علاقتي بالشعر ، علاقة قراءة ، وتمثّل ، وحياة ، علاقة خزّاف بمفرداته ، تعمل أنامله في الطين رؤاها ، وأحلامها ، وذوقها ، لعلّها تبعث في فضاء الشعر تباشير الجمال .

إنّ الشعر لحظة أنيقة ، لحظة معانقة فعل القول على ربوة المعنى ، كامرأة تقف على باب البحر منتظرة فارس أحلامها ساعة غروب ، أو ساعة شروق  ... قد يأتي ... قد لا يأتي ... وبين الانتظار والانكسار تنبجس لحظة اللذّة /  لذّة المعاشرة / معاشرة الحرف  ... والقصيدة هذه التعبيرة المحمّلة قيلا ، تمثّل لذاتي المتقبّلة المرآة التي أقف أمامها لعلّني أجد صدى نفسي فيها ، أو أجد صداها يتردّد في قيعان ذاتي  ، وبين المرآة والعمق تتناوب الحروف ، وتراوح  أمكنتها بيني وبيني ، كفعل المرجل في علاقته بالأثافي ، لعبة الوجه والقفا ، إنّها لذّة الحرف ، وحرف اللذة التي تنتابني كلّما نزلت إلى نهر الكلمات فجرا بحثا عن عمود الضّوء في تراتيل الأصوات الخفيّة  الناسلة من وهج السؤال.

والشعر سؤال في فضاء الوجود كسابحات الطير ، يحطّ من حين إلى حين على فنن الحياة بشقّيها الذاتيّ والموضوعيّ ، والمادي ، والهلاميّ  ، على مذهب الأخذ من كلّ شيء بطرف ، لتبني من بعد ذلك أشعّة القراءة عشّها / مستقرّها على أرض ( القصيدة ) ، والأرض مضطربة الأوتاد ، متحرّكة ، لا مستقرّ لها غير التّرحال مآبا ، تلك هي ملامح العلاقة بين الشعر ولحظة التقبّل ، لحظة ساحرة كما السراب ، أو كما الماسك على الماء .. يذهب كل شيء ويبقى السؤال ، والشعر سؤال / حيرة / ماء يجري .

ما الشعر ؟ سؤال " ما الشّعر؟ " سؤال مركزيّ في عمليّة التقبّل ...

الشعر نصّ الوجود ، وطريقة إقامة في العالم . باللغة يبني أحلامه ، وعلى متنها يطلب أقاصي الجمال فيها . لعبة الوجه والقفا ( الشعر / الوجود ) ، هو باب على الأسئلة الكونيّة ، والإنسانية الحارقة ، شأنه في ذلك شأن الفلسفة ، بل هو الفلسفة عينها ، حيث يقوم على التفاعل مع العالم ومساءلته ، وهو صدى لتردّد اللحظة الإنسانية في فضاء اللغة ، لعبة لغويّة مخاتلة ، تبدي ما لا تعلن ، لحظة شموس متمنّعة ، تقذف بك في قيعان الدهشة ,على حدّ تعبير الفيلسوف " هايدغار " , تلك هي اللحظة الشعرية . مادّته لغة زلال , واستعارة تقذف بك في لجج الحيرة واللذة ، وتلك هي أدوات اشتغالها على نصّ الوجود بأفراحه وأتراحه , وانتصاراته , وانكساراته ، إنّها لحظة ابتلاع كلّ شيء على طريقة طائر المينيرفا ، تلك هي اللحظة الشعرية او هكذا قيل

و" الشعر فضاء يتضايف فيه المقدس والمدنّس ، والمعلن , والمخفيّ… والممكن والمستحيل ، والترابي والهلاميّ ، والجميل والقبيح ، والمعقول واللامعقول. يتداخل فيه الذاتي والموضوعيّ ، وتتقاطع فيه الأزمنة وتنصهر ، مطيّته في ذلك زاد لغويّ متقلّب ومتحرك ينشد الشاعر من خلاله لحظة شعرية متفردة ، فعلها في المتلقّي كفعل السحر في الناس ، و ديدنه فوق ذلك الرسم بالكلمات على حد تعبير الشاعر نزار قباني*إنّك في حمى لحظة كونية ، ولحظة إنسانية بامتياز ، تحكي هموم الذات وتحاكيها ، وتقتفي آثار انتصارها الذاتي والموضوعي ولحظات انكسارها ، فتتمثّل الذات المبدعة كلّ اللحظات , وتستبطنها ، وترتقي باليومي المعيش إلى أعلى درجات الفنّ ، إذ سؤالنا الحارق اليوم في في عالم الكتابة فنيّ بامتياز يتمحور حول " الكيف نكتب ؟ " وليس " الما نكتب " فالمعاني في متناول الجميع , ولكن ما يميّز الكاتب عن كاتب آخر هو طرق تناوله للحظة الشعرية ، والشعر اختزال , وتكثيف , وعمل استعاري بامتياز ... نبحث فيه عن " الكيف نقول " ... أمّا المضامين فهي في متناول الناس جميعا.

ومع عوالم الصور المهترئة واللغة الركيكة ، تمتدّ الهواجس كرؤوس الأفاعي ، وتذبل الأحلام على قارعة السؤال ، ويحتلّ خريف العمر كافة أقطار الوجود المسيّج بالقحط ، فتينع رؤوس الفناء الراكدة في خطاب آسن ، وتتقلّب الشمس في ظلمة الموت يمنة ويسرة بحثا عن نقطة ضوء في قول يزفّ للكلمات بهجتها وألقها ، ويعبّد بالتالي للشمس شمس الكلمات الجميلات الأنيقات طريقها الملكي للعقول الموات لتبعث فيها معاولها والماء .

إنّ فعل الكتابة كما القمر ، نور يبعث في نفس المشتاق المنتظر على الجمر في شرفة الأمل نسائم الفجر ، ويزفّ للضمائر القاحلة ماء الحياة ... والأدب مائدة جمال ، تدعو لوليمتها كلّ صاحب لبّ سليم وقلب نقيّ مثل البحر الساكن في الليل البهيم .

ذلك هو الشعر فعل يستغرق ترحاله في حالة عزف منفرد ، تمارس فيه الذات طقوس التجلّي في محراب الوجود ، وتسبّح فيه بلغة مكثّفة مختزلة استعارية بالضرورة ، فتقف لحظة ولادة القصيدة على قمّة الأحاسيس الجريحة ، المثقلة بهمّ ذاتيّ , وآخر موضوعيّ ، فترسم بماء الشجن وألوان الحلم لوحة النّظم الملّطخ بالسقوط قيلا ، واللائذ بلعبة التخفّي ، والتمويه والغموض ، فلنخلع نعل الحسّ إنّك في حضرة السفر، سفر الكتابة ، والكتابة  تعرية للذات المتورّمة في الوجود , وسؤال حارق يجمع بين جنبيه أسئلة

متناسلة , تصبّ في نهر السؤال الأعظم " من أنا ؟ " ... من هنا تبدأ رحلة العذابات على فلك المداد , ومن هنا تطلق الحروف صيحة الولادة , ولادة الحيرة , والدهشة بمفهومها الهايدغاري ... إنّ الكتابة حفر في وجه العتمة , وأشعّة صباح تصارع السكون , والقعود , وموت الكائن , والكيان ...إنها بكاء رضيع لحظة دخوله من باب الوجود إلى ساحة الحياة محمّلا بمأساة السؤال .

 

ذاك هو الشعر تعبيرة يعلن بها الإنسان عن مغادرته ضيق " الفرد " إلى رحب " الإنسان " ، هذا الكائن المحمّل برؤى ، وتصوّرات ، وأحلام ، كما يحدّد من خلالها طرق إقامته في العالم عبر جسر اللغة ، واللغة فيه حمّالة مفاهيم ، وأسرار ، إذ تختزن ملامحه ، وتكشف عن خباياه ، وخيباته ، هذا الكائن / الإنسان المكتظّ بالأسئلة، والشعر لديه قلق وجودي ، وصيحة في وجه العتمة ، ورسم بمداد الألم على وجه الحياة المدجّجة بغموضها ، وانكساراتها ، وانتصاراتها ، وعبثها ، وأقدارها ، وأسئلتها المتلبّسة بأحشاء الذّات ، هذه الذات المستنفرة لأذنيها تسترق السمع لأنين الأطلال ، ورسوم الذكريات ، وأجنحة الأحلام المؤجّلة ، وللوجه التائه في مرايا العبث , وأهازيج الرحلة الممتدّة في اللاّمدى ، فالكتابة لحظة جنون على ضفّة الذات , تحبّر صباحاتها بقلب مفتوح كما البساتين , وترسم بدمعة رؤوم سنفونية الوجود سؤالا , وتكتب الإنسان أفقا خصيبا

2015-02-14