الأربعاء 19/10/1444 هـ الموافق 10/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
الوزير الأسبق سمير الحباشنة يكتب عن الاستراتيجية المطلوبة


إنّ التطلع إلى الأمام ومحاولة إجلاء الرؤيا المستقبلية للواقع الفلسطيني وتتبّع السبل المناسبة وصولا الى الهدف الأسمى المتمثّل بقيام الدولة الفلسطينية ناجزة السيادة، انما يقتضي الانطلاق مما هو قائم والبناء عليه، وقياس مدى صلابة التربة التي يقف عليها المشروع الفلسطيني، بحيث نرصد بموضوعية ما انجزه الشعب الفلسطيني عبر مسيرته الكفاحية الممتدة عبر عقود ...، وتقييم ماهية هذا الانجاز، وكم يشغل من حجم الطموح الكلي، كمقدمة للولوج الى التعديلات اللازمة لتصويب المسيرة / السياسية والميدانية وصولا الى الهدف المنشود.

أسوق هذه المقدمة كرد على أصحاب منطق التقييمات المطلقة الذين يعالجون الأمور على قاعدة الأبيض والأسود ! ذلك أن السجّل الكفاحي المشروع للشعوب الطامحة للتحرر والاستقلال يحتوي بالعادة على مراحل مد وجزر بين الانتصارات والاخفاقات، وانّ الشعوب الحية والقيادات الواعية هي القادرة على تشخييص نتاجات كل مرحلة وبالتالي تعزيز النجاح وتجنب الاخفاق.

وعليه فإن تلطيخ المسيرة الفلسطينية كلها بالسّواد هو منطق عدمي ولا يخدم الا الاعداء. وانّ نقد مسيرة منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية لا بد أن يكون من خندق الالتزام بالقضية الفلسطينية ولابدّ أن يحمل النقد بدائل لما هو قائم والا يصبح ضربا من التشويه والثرثرة .. ولا يعزز المسيرة بل يحبطها..

ولأن دعوتكم الكريمة قد حدّدت العديد من المحاور ، فإنني سأكتفي بتناول مسائل محدّدة أراها من الأهمية في بلورة الاستراتيجية المطلوبة نحو انجاز الاستقلال الوطني والسيادة.

السلطة الفلسطينية .. النجاح والإخفاق

وبناء على ذلك ، وبدءا بالحديث عن الانجاز فانّ قيام السلطة الفلسطينية كان انجازا كبيرا لا يُستهان به وشكّل خطوة نوعية على طريق التحرر وقيام الدولة، فالسلطة الفلسطينية اتاحت عمليا انتقال الكفاح الفلسطيني من خارج فلسطين الى داخلها، وهو الهدف الذي طالما ألحّ عليه المرحوم الرئيس جمال عبدالناصر باعتبار ذلك شرطا استراتيجيا لا بد منه، ذلك أنّ القضية الفلسطينية لن تأخذ مداها ولن يتحول الكفاح الفلسطيني الى حقيقة واقعية مؤثرة الا بانتقاله الى الداخل على أرض فلسطين. ونعلم أنه بموجب قيام السلطة الفلسطينية أتيحت العودة الى حوالي عشرات الآلاف، وجُلّهم قيادات ورجال منخرطون في العملية الكفاحية ، الأمر الذي أعطى زخما اضافيا للفعل الفلسطيني في الداخل.

و السلطة اتاحت البدء ببناء المؤسسات الفلسطينية كمقدمة لإرساء دعائم الوجود المادي للدولة العتيدة المنتظرة، وبتقديري ان الانتقال الى الداخل وبناء مؤسسات السلطة الفلسطينية كانت عوامل دفع ايجابي، أوجدت أمرا واقعا حفّز أغلب دول العالم لأن تعترف بالكيانية والدولة الفلسطينية، وتدحض مقولة الصهيونية التقليدية .. بأنّ فلسطين أرض بلا شعب.

لقد أُتيح لي زيارة فلسطين لمرتين في العامين الآخرين، بحيث لمست ذلك الانجاز على أرض الواقع، فالشعب الفلسطيني وبموجب قيام السلطة الفلسطينية تمكّن عمليا من امتلاك مؤسسات دولة ، مدنية وتعليمية وأمنية .... الخ/ الأمر الذي رفع من منسوب الاعتداد الوطني لدى الشعب الفلسطيني وعزز الأمل بالنفوس بأنّ ازالة الاحتلال و قيام الدولة لهو أمر ممكن. وكان لذلك تجلياته في تلك المقاومة الشعبية الفريدة عنوانها التشبّث بالارض وطي صفحات النزوح بلا عودة ... خصوصا مع قيام المشاريع الاقتصادية والخدمية و حفز الاستثمار التي خفّفت من حاجة الشعب الفلسطيني وشبابه للعمل خارج فلسطين او اللجوء الى العمل في مشاريع الاحتلال الاقتصادية. وحتى لا يكون حديثنا نظريا فلا بد ان نتذكّر أنّ التشبث الفلسطيني بالارض قد تجّلى ابّان الحروب الاسرائيلية على قطاع غزة حين شاهدنا ازدحام البوابات بين مصر وقطاع غزة بآلاف الغزيين الفلسطينيين الذين ينتظرون الدخول الى غزة لا الى الخروج منها .. وكلنا نتذكر الصمود الاسطوري الفلسطيني في مخيم جنين في وجه العدوان الاسرائيلي الذي لم ينجح حتى باخراج الفلسطينيين من المخيم الى مدينة جنين !

الّا أنّ السلطة الفلسطينية -رغم ايجابياتها- كانت وقعت في مطّبات، كان -وما زال- يمكن تداركها، فقد أخفقت الفصائل المسلحة والتنظيمات السياسية من تغليب التناقض الرئيس على التناقضات الثانوية ولو الى حين ... ولم تستطع تحقيق مقولة «الاختلاف في اطار الوحدة» كسمة رئيسة لحركات التحرر الوطني. ولم تتمكن تلك الفصائل أن تُمارس حق الاختلاف أو الاتفاق داخل الكينونة الفلسطينية «منظمة التحرير الفلسطينية» الأمر الذي قاد الى احتراب الأخوة ومن ثم ظهور تراجيديا الانقسام الجغرافي والديموغرافي ، ونشوء كيانتين «تحت الاحتلال» في الضفة الغربية وغزة !! ما كان له أكبر الأثر السلبي على مسيرة الكفاح الفلسطيني.

فالفلسطينيون -مع الأسف- لم يتمثلوا اداء الحركة الصهيونية والتي -مهما كبُرت- تناقضات اطرافها واحزابها السياسية ، تبقى تعمل في اطار مؤسّساتهم حتى قبل قيام كيانهم السياسي...

انّ الابقاء على وحدة المؤسّسات الفلسطينية وتفعيلها والتفاعل بداخلها اتفاقا او اختلافا والاحتكام الى مبدأ الأكثرية والأقلية هو شرط رئيس لتحقيق النجاح والوصول بالمشروع الفلسطيني الى غاياته النهائية والنبيلة بالانعتاق من الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية.

ومن على منبر ياسر عرفات أتمنى على الفصائل الفلسطينية -وبالذات الأخوه في فتح وحماس- أن يأخذوا خطوات تاريخية وأن يقدّموا تنازلات جريئة من اجل ترجمة اتفاقاتهم السابقة واعادة اللحمة للصف الفلسطيني والأرض الفلسطينية.

بل أدعو مؤسسات المجتمع المدني العربي ورجال الفكر والسياسة أن يبادروا الى عمل من شأنه تقريب الأخوة و توحيد الصف الفلسطيني وانضواء الجميع في اطار منظمة التحرير الفلسطينية..

كما أنّ على السلطة الفلسطينية أن تتخلص مما يعتريها من اختلالات ادارية ومالية، وتحقيق التمكين المُؤسسّي في كل المجالات، والتخلص من اي تضارب أو ازدواجية بالمؤسسات، ورسم خطوط واضحة في الادوار لكل من منظمة التحرير الفلسطينية كوعاء للاستراتيجية الفلسطينية لكل الفلسطينييين» في الداخل وفي المهجر» ومهمات السلطة الفلسطينية كأداة لإدارة الاراضي الفلسطينية ومحاكاة متطلبات الشعب الفلسطيني الحياتية اليومية.

القانون الدولي والقضية الفلسطينية

لقد تحصّل الفلسطينيون قي قمة الرباط العام 1974 على قرار عربي وبالاجماع، مكّن الشعب الفلسطيني من التحكم بزمام أموره، والذي نصّ «كمضمون» على أنّ منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وكنّا كمواطنين عربا قد صفقنا آنذاك لهذا القرار لانه حمل الاعتراف بالشعب الفلسطيني وقيادته وحقوقه المشروعه.

والآن حينما ننظر الى الوراء أقول إنّه بقدر ما حمل هذا القرار من دفع معنوي للكفاحية الفلسطينية والاعتراف بالفلسطينيين كشعب وحقه في كيانية مستقلة مثل بقية اشقائهم العرب في اقطارهم المختلفة وتمكينهم من الاشراف على قضيتهم، واعتبارهم اصحاب الكلمة الفصل في مسارات القضية، وبالتالي نزع هواجسهم وشكوكهم بسلوك الآخر نحو قضيتهم .... الا انّ ذلك القرار الذي جاء على اطلاقه قد أوقع -كما أعتقد ويعتقد غيري من العاملين في الشأن العام العربي- ضررا مزدوجا على القضية الفلسطينية بُرمّتها منذ تاريخه... وحتى الآن.

فالقضية الفلسطينية التي عُرِّفت على الدوام حتى ما قبل النكبة وقبل توضُّح أهداف المؤامرة الدولية بقيام اسرائيل أنّها قضية العرب الأولى المركزية، دولا وشعوبا، وهي جوهر الصراع العربي-الإسرائيلي، افتقدت بموجب هذا القرار مركزيّتها ولم تعد عمليا أولوية في الاداء العربي، بحيث أصبحت قضية تخص الشعب الفلسطيني!، واعتقادي أنه ما كان للدول العربية أن تذهب الى صلح منفرد دون هذا القرار، فقد أصبح الالتزام بالقضية التزاما أدبيا ليس إلا.

لقد أدّى قرار الرباط –موضوع الحديث- الى تجزئة الصراع العربي الاسرايلي ليصبح (فلسطينيا- إسرائيليا) ، (أردنيا- إسرائيليا) ، (سوريا- إسرائيليا) ...الى آخره، ولقد كنت سألت في احد المؤتمرات العربية الشعبية أحد المتحدثين من بلد عربي معنيا جدا بالقضية الفلسطينية ، عن منطق التشتيت والتجزئة الذي يتحدث به وعن تخليه عن القضية الأم ، القضية الفلسطينية، فأجابني: «فليقلّع الفلسطينيون شوكهم بأيديهم، هم من أراد ذلك .. « !

والضرر الآخر يتعلق بالأراضي الفلسطينية «حدود العام 67» حيث تمت اعادة تعريفها عمليا بموجب هذا القرار من أراض محتلة لدولة ذات سيادة عضو في هيئة الامم «الأردن»، ومن أراض تدار من قبل دولة ذات سيادة عضو في هيئة الامم كذلك «مصر»، أصبحت بموجب قرار قمة 1974 أراضي متنازعا عليها! ما أتاح لإسرائيل تبرير عدوانيتها، واقامة المستوطنات والعبث بالقدس وتمدّدها في طول وعرض فلسطين على اعتبار انها أرض غير مملوكة لطرف أو لدولة معترف بها دوليا .

وعليه فإن من المناسب العمل على تصويب مسار هذا القرار بقراءة جديدة لا من حيث تغيير مضمونه، بل من حيث توقيت العمل بهذا المضمون ، فقبل التحرير نعيد المسؤوليات الدولية والتعامل مع الاراضي الفلسطينية المحتلة باعتبارها ارضي أردنية ومصرية كسبيل لإعادة الارض وليس تبديلا لمستقبل هذه الارض بعد التحرير، فهذه المناطق هي التي ستقوم عليها الدولة الفلسطينية العتيدة المنتظرة بعد الانسحاب والتحرير. ويمكن أن يتم ذلك بغطاء الجامعة العربية وموافقة منظمة التحرير الفلسطينية والأردن ومصر كشرط لنفاذ هذا التعديل.

كما أنّ التطورات الأخيره في الملف الفلسطيني وقرار المجلس المركزي بوقف التنسيق الامني بشتّى أشكاله مع الاحتلال، انما يعني عمليا خطوة كبيرة نحو حل السلطة الفلسطينية، وهذا حدث كبير و مفصلي في تاريخ القضية الفلسطينية يحتاج لأن يكون البديل الوطني الفلسطيني المستقبلي بعناوينه وآلياته واضحا وجليا، وأنّ ما ورد من اقتراح فيما يتعلق بالتعامل مع قرار قمة 74 قد يشكل جزءا من عناوين المرحلة القادمة.

وفي هذا السياق فإن ما كانت تردّده حماس على الدوام كشرط لاتمام المصالحة الفلسطينية والمتعلق بوقف التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والاحتلال، قد تم فعلا بقرار المجلس المركزي الآنف الذكر، وعليه فإنه لم يعد من مسوّغ عملي لدى حماس يحول بينها وبين اتمام اللقاء الفلسطيني، علما بأن اللقاء لا يجب أن يندرج تحت عنوان (المصالحة)، انما تحت عنوان «وحدة الشعب الفلسطيني» وقواه وفصائله في داخل الوعاء الذي يتسع للجميع وهو منظمة التحرير الفلسطينية، حيث يمكن أن تتفاعل الآراء وبالتالي الاتفاق على ما يمثل مصلحة وطنية فلسطينية بشعارات وأدوات تخدم كل مرحلة على حدا.

إنّ الضرورة الوطنية الفلسطينية تقضي بأن يتفق الجميع داخل اطار منظمة التحرير الفلسطينية على أدوات المقاومة بأشكالها كافة، مقاومة مسلحة او سلمية، بالتظاهر او الاضراب أو العصيان المدني، والأهم من ذلك أن يتفق الجميع على أداة المقاومة التي تناسب كل مرحلة، فلا يجوز لأي فصيل بأن ينفرد بأسلوب خاص به. فالفلسطينيون في مركب واحد وليس من حق أي فصيل أن يحفر في هذا المركب لأن الغرق سيلحق بالجميع.

انّ العامل الذاتي في مسيرة حركات التحرر هو المحرك الرئيس، و بالتالي فإن الكرة الآن في مرمى الفلسطينيين لأن يعيدوا القضية الفلسطينية الى رأس سلم الاهتمامات العربية والدولية، خصوصا بعد أن تراجعت مؤخرا بفعل الاهتمامات العربية الداخلية والكوارث المحيطة بأغلب أقطارانا المهمة، بل بأولويات الاهتمامات الدولية التي تنصب على قضايا ليست بينها القضية الفلسطينية.

وللقياس فإن علينا أن نتذكر بأنّ القضية الفلسطينية حتى عشية الانتفاضة الاولى في نهايات العام 87 كانت قد تراجعت ولم تعد أولوية لا في سلم الاولويات العربية ولا الدولية، وجاءت الانتفاضة الاولى انتفاضة الحجر و «النقّيفة» لتعيد القضية للمركز الاول ، فالعامل الذاتي الحيوي والنشط هو الذي يجبر العامل الموضوعي ليعيد ترتيب أولوياته، فقد كانت الانتفاضة الاولى أسلوبا أمثل كأداة سلمية للكفاح أعطت الأُكل المتوخّى منها، تماما عكس الانتفاضة الثانية والتي أخذت خط سير المواجهة العسكرية مع الاحتلال مع « البون» الشاسع في القدرات والامكانات، والتي ادّت الى خسران الشعب الفلسطيني الانجاز المتحقق على الأرض كنتيجة لمعاهدة أوسلو.. ولنا أيضا في عدوان اسرائيل المتكرر على غزة انموذج لمواجهة ما كان يجب أن ينجر اليها الشعب الفلسطيني، فآلاف الشهداء والمصابين وتحطيم البُنى كانت كارثة بلا مقابل !.

إذن فحين ندعو الى وحدة الشعب الفلسطيني في اطار مؤسّساته و على رأسها منظمة التحرير الفلسطينية فإننا ندعو الى امكانية الاختلاف في اطار الوحدة وأيضا الى أهمية الاتفاق على أدوات المقاومة المتبعة من الجميع في كل مرحلة من المراحل هذا دون أن ينغمس الشعب الفلسطيني أو أي من فصائله في الخلافات العربية-العربية أو الخلافات السياسية داخل البلد الواحد، فالفلسطينيون أصحاب قضية هي محل اجماع، وعليهم ألا يتدخلوا في الشؤون العربية الداخلية او البينية حتى لا يكون ذلك سببا بأن تأخذ أي دولة عربية موقفا معاديا أو أن تخف جذوة دعمها للقضية الفلسطينية.

وبعد ذلك، فليس أمام الشعب الفلسطيني اليوم الا أن يعيد توحيد الاطارات الفلسطينية والجغرافيا الفلسطينية، فليس من المفهوم ولا المبرر هذا الانقسام الأيدولوجي والسياسي والديمغرافي والجغرافي، انها مسؤولية تاريخية تتطلب من الجميع الارتقاء الى مستوى الحدث والى مكانة تليق بقضية هي الاقدس والأهم ليس في المصير الفلسطيني فحسب بل في المصير العربي كله، وأثمِّن دعوة الرئيس عباس مؤخرا الى حركة حماس بالعودة مع اجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية حال اتمام تلك العودة.

ومن الضرورة بمكان أن يتم استثمار الحرب الباردة التي تطل برأسها بين الغرب من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى، وأن ندفع بالملف الفلسطيني ليصبح من الملفات الدولية التي يتم تناولها في اطارات العلاقات الدولية المستجدة .

من وحي محاضرة في مؤسسة ياسر عرفات

القاهرة  25/2/2015


2015-03-15