الجمعة 14/10/1444 هـ الموافق 05/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
الحصاد المر...مقدمة النهايات ....نادية حرحش

الحصاد المر هو عنوان كتاب للمؤرخ الفلسطيني سامي هداوي،الكتاب الذي بين يدي هو الطبعة الرابعة لسنة ١٩٩١، وكان الكتاب في طبعته الاولى قد نشر سنة ١٩٦٧ بالانجليزية ولقد تم ترجمته الى عدة لغات من بينها العربية . الكتاب بعنوانه الحصاد المر هو محاكاة تأريخية لتاريخ فلسطين الحديث. سامي هداوي من مواليد القدس سنة ١٩٠٥ وعمل في سجلات الاراضي في فترة الانتداب البريطاني . حكايته الشخصية هي حكاية نصف الشعب الفلسطيني الذي تم تهجيره من بيته وارضه بعيد اعلان الدولة الصهيونية لوجودها . اهتمامي بالكتاب ينصب في عدة اتجاهات ، قد تبدأ من وجوده على رف مكتبتي المتواضعة منذ مدة في انتظار دوره للتصفح او القراءة . وقد يكون موضوعي البحثي الحالي في أدراج بعض المعلومات التي يتكلم عنها الكتاب. والأهم هو رحلة بحثي في المؤرخين والأدباء الفلسطينيين من حيث المراجع . فعندما تم اقتراح اسم سامي هداوي لي قبل سنوات تعجبت لوجوده . لأني وككثير ممن يدعون حب المعرفة ، او يزعمون البحث عنها ، وبالاخص فيما يخص القضية الفلسطينية ، وجدت السبيل الى المعلومات من قبل المفكرين الغربيين والاسرائيليين . وبينما هو جهل مؤكد ، الا ان له اسبابه بعد انتهائي من جلد الذات . فالكتب تلك سهلة المنال وكثيرة الشهرة وجيدة وشاملة في الكثير منها . اخذني الكثير من الوقت لاستيعاب ما يجري من تهميش للباحث والمفكر الفلسطيني كهداوي بالرغم من شهرة أعماله في بعض الاماكن الاكاديمية لما بكتبه من اهمية تخص البحث في القضية الفلسطينية . فبدون وعي منا كقراء او باحثين وجدنا انفسنا في الالتفاف نحو ما يصدره لنا الغرب من علم . هذا الموضوع ليس موضوع هذه القراءة اليوم . ولكنني فكرت ان اقل واجب ممكن ان اقدمه لمفكر وباحث فلسطيني او عربي اكتشفه في طريق جهلي هو ان اتكلم ولو قليلا عن هذه الاشكالية في مشاركتنا نحن كعرب بلا وعي باقصاء ابنائنا من مفكرين ومبدعين ولا نقدرهم الا بعد ان يقدرهم الغرب. قرأت العشرات من الكتب التي تناقش القضية الفلسطينية ، واعتبرت ولا زلت اعتبر الكثير منها بآهمية فائقة . فالكتب كنز لا تنتهي قيمتها ولا تتحدد بصورة او بهيئة بعينها . ولكن ما يشدني دائما في هكذا قراءات هو اولا اختلاف الكتابة في القلم الفلسطيني لتاريخه ولو تكلم عن نفس الموضوع . فالقصة هنا هي قصة الذات ، ومهما حاول الفلسطيني الخروج عن دائرة التذويت ترى الكلام يذوت ذاته فيصبح جزءا لا يتجزأ من كيان الكاتب وتراه بين الصفحات وفي كل قصة يرويها . فالتاريخ الفلسطيني بقضيته هو تاريخ لا يزال يكتب ، ومن يكتبه اصحابه مهما تمت المحاولات في التخلص منهم او تهميشهم. وهذا يأخذني للسبب الاخر في قراري الكتابة بهذا الكتاب . ولا أعرف حتى اللحظة ان كان تحليله ورؤاه المستقبلي لما كتبه قبل اكثر من اربع عقود هو عمل تنبؤي لعبقري ، ام هو محصلة طبيعية لما جرى وما يجري وما كتبه كان واضح للكثيرين الا نحن العرب والفلسطينيون ؟ فالموضوع ليس فقط سرد تاريخي وتحليلي للخلفية التاريخية للمنطقة من ارض وشعب وديانات . ليس الموضوع كذلك في قراءة للحركة الصهيونية ولا فلسطين الانتدابية ولا الامم المتحدة والحروب في المنطقة ولا السلام ولا المعاهدات . قد يكون الكتاب من اهم الكتب التي وثقت التاريخ الفلسطيني الحديث من كافة المحاور والاتجاهات بطريقة استثنائية من حيث شموليتها بالرغم من كثرة الكتب التي كتبت وتكتب كل يوم في الشأن الفلسطيني . فكلمة شمولي هي كلمة تليق بهذا العمل . ما استوقفني ولا يزال المقدمة التي كتبت قبل ما يزيد عن ثلاثة او اربعة او ربما خمسة عقود ، هذا يعتمد على اذا ما كان الكاتب قد وضع المقدمة في الطبعة الاولى . ولكن حتى لو كان قد كتبها قبل عقد واحد ، كانت ستكون اشبه بالنبوءة . ليس بالنسبة للشأن الفلسطيني ، ربما لأن الشأن الفلسطيني انتهى سياسيا ولم يبق منه الا أطياف شعب . ولكن الشأن العربي والطموح الصهيوني فيه . ...منذ نشأة الدولة الصهيونية. مما لا شك فيه لأي متطلع على تاريخ السياسة الاسرائيلية بأنها ممنهجة ومخطط لها منذ قيام الدولة . فلا يوجد صدف في حراك اسرائيل بمخططاتها للمنطقة . كل في هذا النظام يعمل ضمن شبكة متماسكة الخطوط تؤدي في اطرافها دائما الى مكتب رئيس الوزراء الاسرائيلي ايا كان اسمه او انتماؤه الحزبي. لو كنت قرأت هذه المقدمة قبل عدة اعوام لكنت قلت في نفسي ان هذا الرجل يبالغ ويبني كلامه على نظريات المؤامرة . إسرائيل الكبرى هي نظرية مؤامرة نحن العرب اخترعناها . فاسرائيل لا تستطيع العيش فينا نحن الفلسطينيون باحتلالها لنا ، فكيف لها ان تطمح في الدول المجاورة . كل ما تريده هو اقتصاد مريح لها وسط تطبيع سلمي يسمى سلام . الا ان وقوفي هنا جعلني اقرأ كل كلمة واعيدها مرارا واجسدها تلقائيا في كل تلك المشاهد التي تحيط بنا من كل الاتجاهات في السنوات الاخيرة . تعلمنا في الصغر ان اسرائيل تطمح فيما تسميه اسرائيل الكبرى والتي تصل اطرافها من النيل الى الفرات . وعلى العملة المعدنية الاسرائيلية هناك خارطة ترسم خطوطها هذه المساحات التي لا تنتهي بخارطة فلسطين . وفي جانب هذا الادعاء تعلمنا ايضا اننا سنرمي اليهود في البحر اذا ما سمح لنا . ادعاء سمعته من قبل اليهود برعب منهم للحظات في السابق كنت اظن انهم يصدقونه. وسمعته من قبل الشيوخ على المنابر المختلفة في الجوامع وشاشات التفزة العربية باختلافاته في السابق. يبدآ سامي هداوي مقدمته بالتكلم عن المرة الاولى التي تم فيها استعمال التقسيم كحل في المنازعات في التاريخ عندما لجأت امرأتين الى الملك سليمان للتحكيم في منازعتهما على طفل ادعى كلاهما امومته له. عندها حكم سليمان بتقسيم الطفل الى قسمين ، وحينها تبينت الام الحقيقية . وهي تلك التي رفضت التقسيم . قد تكون هذه القصة ادق ما يمكن وصفه بالنسبة لفلسطين فيما بين الصهيونيين والعرب . فرفض الفلسطينيون للتقسيم أتى من حبهم الشديد لما آمنوا به بقوة في ارض كانت هي لهم وطن . فكان من المستحيل لهم قبول عرض في اقل من كل الارض. لما يترتب عليه التقسيم من بتر لاعضاء الجسم تشوهه وتسلب منه الروح . فهذا حال فلسطين بعد التقسيم وما آلت اليه من احتلال لم يبق منها الا الروح النابضة في تراب هذه الارض. روح تنبض بفلسطين . المشكلة التي تكمن في ما يراه الكاتب ، ربما لانه لم يعش ليرى الانهيار العربي في ابشع صوره.فبرأيه ان العالم استوعب سوء ذاك القرار بعد عدة عقود ،لكن الوقت قد مر وزاد سوءا لا يمكن اصلاحه . فالمعاناة التشريد التي اصابت ولا تزال للشعب الفلسطيني تفاقمت في كل يوم وعلى مدار العقود . الا ان اسرائيل ، ولأنها لم تكن ابدا ام تلك الارض ظلت تبيع وتشتري فيها وتحيك ما طاب لها من قصص واحتالت ولا تزال على التاريخ في خلط ،خلط الامور وتعقدت لدرجة لم يعد يعرف العالم رأسه من قدماه في الشأن الفلسطيني الاسرائيلي . فالهدف الصهيوني من هذه التعقيدات والمتاهات كان مقصودا بداية لتشتيت العالم عن الجرائم التي ارتكبت ولا تزال في حق الفلسطينيين، في زمن وازن تلك الجرائم ما كانت النازية قد ارتكبت في حق اليهود من جرائم في اوروبا. ومن جهة اخرى ارادت اسرائيل الاستمرار بالاستيلاء على الاراضي وضمها . في وقت ابقت المراوغة في الامم المتحدة قائمة لتصبح القضية مسألة نزاع بين دول على اراضي. وكأن الشعب الفلسطيني لا ينتمي الى الفئة الانسانية عند تعداد الشعوب. فحولت اسرائيل القضية الى صراع عربي اسرائيلي عام في حين انه كان بالاصل نزاع عرب فلسطين واليهود. فالموضوع هو موضوع الانسان الفلسطيني وحقه في ارضه وعليها. فتحول النقاش مع السنينفي الذاكرة التأريخية الى هروب للفلسطينيين من ارضهم الى هروب طوعي وكأن اليهود دخلت الى بيوت اختار شعبها الهجرة . وفقد الفلسطينين مع الزمن حتى حقه في اللجوء الى مكان امن ان استطاع في وقت الحروب التي شنت عليه. فتغيرت الرواية تدريجيا وتناقلت الى اللسان العربي والفلسطيني ليصبح الفلسطيني هارب وجبان ، ومحيت حقيقة لن يمحها التاريخ الذي كتبه الضحايا من شهداء ولاجئين لما حل بهم من قتل وسلب وترهيب . بداية كان الصوت العربي في المطالبة بالحق الفلسطيني موحد. فلم يرض العربي بأقل ما طالب فيه الفلسطيني العربي. ولكن مع مرور الوقت تشابك الامور هنا ، ونزلت العرب من صهوة حصانها وتدنت المطالب الى ما تمن به اسرائيل على الجميع. ونسي العرب ان هناك صراع اخر هو صراع عربي اسرائيلي قررته اسرائيل منذ قيامها . فاسرائيل منذ البداية كان من ضمن مخططاتها في التخلص من الفلسطينيين هو ايجاد وطن بديل لهم في دولة عربية مجاورة . وان كان هذا من لغو نظريات المؤامرة قبل عدة سنوات، فلقد اصبح يناقش على الطاولات اليوم في الساحات الاعلامية الاسرائيلية والمؤتمرات السياسية المختلفة . فلا يخجل الاسرائيليون من الطلب اليوم من الفلسطينيينو بالرحيل الى الاردن . او ايجاد دويلة في قطاع غزة توسع من حدود سيناء والعريش بمصر . طموح اسرائيل كان منذ قرار التقسيم في ايامه الاولى ، عندما اغتالت العصابات الارهابية الاسرائيلية فولك بيرنادوت وسيط الامم المتحدة عندما حذر في توصياته لما لم يتناسب مع اسرائيل حين كتب لمجلس الامن : " انه من غير الممكن تجاهل ان الهجرة الغير محدودة للمنطقة اليهودية من فلسطين قد تؤدي بعد مرور سنوات الى تزايد ضغط سكاني وتأثرات سياسية واقتصادية تبرر المخاوف الحالية للعرب من التوسع العام لليهود في الشرق القريب ." واضاف : " من المستحيل تجاهل ان موضوع الهجرة اليهودية الى المنطقة اليهودية من فلسطين تعني فقط باليهود والمنطقة ولكن تلك الخاصة بالعالم العربي المجاور ." فبينما تستمر اسرائيل بالادعاء برغبتها بالسلام ، فانهم يحضرون انفسهم دائما للحرب. فاذا لم يكن التوسع هو هدفهم المرجو ، يتساءل هداوي عما كان يقصده بن غوريون حين قال:" المحافظة على الوضع القائم لن تنفع. لقد جهزنا لدولة ديناميكية، تلتوي عند التوسع." . فتأكد طموحه عندما قال في ١٩٥٣ : " لقد تأسست اسرائيل فقط على جزء من ارض اسرائيل ،حتى اولئك المشككون لاعادتنا للجبهة التاريخية من الصعب ان ينكروا شذوذ الحدود للدولة الجديدة." بينما لا يزال التاريخ القائم بين إسرائيل ومن يجاورها من البلدان العربية مبني على التعدي والاعتداء من قبل اسرائيل دائما ، على الرغم من إدعاءاتها الدائمة بالتظلم ولعب دور الضحية والأقلية . فلو راجعنا التاريخ بقراءة جديدة لتنبهنا بوضوح بأن الحروب كانت دائمة تشن من قبل إسرائيل . فهي التي تستفز في اغتيالات وخروقات جوية واعتداءات امنية وحدودية ، ومن ثم تطالب امام المجتمع الدولي بالسلام . والسلام الذي تريده اسرائيل كما يؤكد الكاتب يعني اعتراف الدول العربية بالسيادة الاسرائيلية فوق الاراضي المحتلة من قبل اسرائيل ، انهاء المقاطعة العربية ضد اسرائيل ، فتح قناة السويس للملاحة الاسرائيلية ، والإذعان لتحويل مجرى مياه نهر الأردن لإسرائيل بالرغم من الضرر الواضح في هكذا خطوة للمصالح العربية وحقوقها. هذه الطموحات في السلام ليست الا تأكيدا لوصول اسرائيل لطموحها بالنسبة لحلمها في اسرائيل الكبرى . تلك الامبراطورية التي تمتد من النيل الى الفرات. مما يبقي شأن اللاجئين الفلسطينيين شأنا عربيا خالصاتتحمل الدول العربية مسئوليته، بادعاء ارعن بان الشتات الفلسطيني سببه الحروب العربية ضد اسرائيل. فالحصاد المر الذي تعيشه الامة العربية اليوم هو حصاد زرعت بذوره الصهيونية وروته الايدي العربية. لا يزال البعض منا يدعي زرعا غير قائم ، والبعض منا أعجبه طعم حلاوة مغشوشة ممزوجة بنكهة صناعتها غربية نرتمي اليها عادة لاماننا بأن ما يجلبه الغرب لابد يسر القلب . وها هو الحصاد ينتهي ولم يبق منه الا المرار ... وفي انتظار موسم جديد لم تعد لفلسطين فيه ارض تزرع ، الارض العربية قد حرقت وفسدت وفسدت تربتها . ترتوي الارض العربية تربتها بدماء شعوبها وجثثهم اصبحوا سمادها . والصهيونية تنتصر امام انهزاماتنا . ولا تزال الامة العربية تتلاهث وراء حلم صهيوني بلا وعي او إدراك ، يتحقق يوميا من دمائنا كشعوب وأراضينا وخيراتنا كأوطان .

2015-07-11