حفل الأدب الإسلامي منذ عصر صدر الإسلام وحتى اليوم بالكثير من النصوص الشعرية المخصصة لشهر رمضان. ونلمس نوعا من تباين مواقف الشعراء من هذا الشهر بين المديح والغزل والعتاب؛ وهو تباين يختلف اختلاف الشعراء والعصور الأدبية. حط هجاء البعض منهم على مرتكبي المعاصي في هذا الشهر، وركز البعض الآخر منهم على هجاء الشهر نفسه كابن الرومي وأبي نواس في شبابهما. وأفرد معروف الرصافي مثلا بعض الأبيات لنقد من يُكثر من الأكل عند الإفطار: "ولو أني استطعت صيام دهري/ لصمت فكان ديني الصيام. ولكن لا أصوم صيام قوم/ تكاثر في فطورهم الطعام". ليس الغرض من هذا النص هو تتبع كرونولوجي تاريخي لموضوع رمضان والصوم في الشعر العربي، بل محاولة تبيان شروط وإمكانيات الإبداع الفكري عامة والأدبي خاصة والشعري بالأخص. ما هي الميكانيزمات الفيزيولوجية والنفسية التي تساعد على هذا الأمر؟ وكيف تتم عملية الإبداع والمرور من التركيز على حرمان الجسد من الغذاء إلى غذاء الروح والنفس والعقل؟ لعل كل من يكتب بانتظام، يعرف بأن الرغبة في الكتابة لا تأتي مباشرة بعد الأكل، ولا تُفتح شهية التأليف والإبداع بعدما تُلبى شهية الجسد. وسبب هذا هو أن الجسد يكون بعد تناول وجبة من الوجبات منهمكا في تحويل الطعام إلى طاقة، فيما يسمى عملية الهضم. يحتاج الجسم في هذه الأثناء إلى قسط من الراحة والإسترخاء، قبل ضخ المخ بما يحتاجه من طاقة للإشتغال السليم وتنشيط المراكز التي عليه تنشيطيها، طبقا لما يود المرء القيام به بعد الأكل. عندما يزاول المرء أية عملية فكرية بعد شحن المخ بالطاقة، فعادة ما يكون النشاط الذهني مركزا على أشياء عملية، سواء تعلق الأمر بالمهنة التي يزاولها أو ميدان تخصصه: تحرير مقال صحفي، تهييئ درس بالنسبة لمدرس أو كتابة خطاب سياسي إلخ. تُجَنَّدُ مراكز الحساب والهندسة والفيزياء، أكثر من مراكز أخرى. يوظف الإنسان إذن ما يمكن تسميته الطاقة العملية لإنجاز أشياء عملية. وتُنشط مراكز الإبداع والخلق والتأمل والتفكير العميق قُبيل نفاذ الطاقة المتدفقة على المخ، أي بعد حوالي أربعة ساعات من الأكل. عندما ينشغل المرء في هذه الأثناء فكريا، فإن حظوظ إنتاجه لنصوص متميزة تكون كبيرة، شريطة تركيزه على ما يقوم به وفتح جميع نوافذه الحسية، العضوية منها والنفسية. ترافق هذا الإنشغال نوع من البهجة في العمل، ولا يشعر الإنسان بأنه يشتغل، وقد يشتغل لساعات طوال دون الإنتباه إلى الوقت ولا إلى مطالبة جسده بالغذاء مجددا. يتسامى بفكره زمكانيا ويصل إلى درجات خلق وتفكير لا يمكن أن يصلها في فترات أخرى. إذا وظف المبدع عن وعي وبكل قواه العقلية والروحية صومه، فقد يُنتج نصوصا لا ينتجها في الأيام العادية. ذلك أن الخلق الأدبي والشعري مثلا ينطلق عندما يُطوع المرء جسده ويتحرر كلية من ضغوطاته وإلحاحه في المطالبة بالغذاء ويتجاوز الإحساس الفيزيولوجي بالجوع والعطش وصداع الرأس والتواء الأمعاء داخله. ويقدم لنا المتصوفة خير دليل على هذا، فغالبا ما كانوا ينظمون قصائدهم وهم صيام ويدونون نصوصهم النثرية وهم طاوا البطن. وسبب هذا هو أن القريحة، كنشاط نفسي وعقلي، تنشط عندما يوظف الجسد مخزون طاقته، سواء أكانت سكرا أو دهنيات، لمساعدة النفس على التسامي، وفي هذا نوع من التعاون التضامني بين الجسد والنفس. فهذه الأخيرة تترك الجسد بعد الأكل يستريح، ويعوض لها الجسد على هذه "الخدمة" بإمدادها بالطاقة المودعة في بعض أعضائه عندما تكون تشتغل هي بدورها.