الأحد 16/10/1444 هـ الموافق 07/05/2023 م الساعه (القدس) (غرينتش)
قراءة في المشهد الفلسطيني...أحمد سمير القدرة

  تشهد الساحة الفلسطينية منذ الانتخابات التشريعية الثانية 2006, حالة من الضبابية وعدم الاستقرار الداخلي, والتي أدت إلى انعدام وفقدان الثقة ما بين المكونات السياسية نفسها والمكونات الاجتماعية, والتي بدورها أدت إلى تفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وزادت من معاناة الشعب الفلسطيني, فمند اللحظة الأولى لإعلان نتائج الانتخابات بدأت التناقضات وصراع الصلاحيات في الساحة السياسية, والتي أدت في نهاية الأمر بعد مرور سنة ونصف من هذا الصراع الذي أخذ الطابع السياسي تارة والعسكري تارة أخرى, إلى حدوث الانقسام الفلسطيني, على الرغم المساعي التي بذلتها جمهورية مصر العربية لنزعل فتيل الأزمة بين فتح وحماس, برعايتها للعديد من الحوارات والتفاهمات واتفاقيات وقف اطلاق النار, إلى جانب دور المملكة العربية السعودية التي رعت اتفاق مكة, وتم تشكيل حكومة الوحدة الوطنية, إلا أن الصراعات كانت أقوى من جميع الاتفاقات, فحدث الانقسام الفلسطيني ودخلت الساحة الفلسطينية في منعطف خطير, والذي انعكس بشكل كبير وسلبي على القضية الفلسطينية, واستمر هذا الانقسام على الرغم من اتفاق حركتي فتح وحماس على إنهاء الانقسام وفق ما جاء في الورقة المصرية للمصالحة والمعروفة باتفاق القاهرة 2011 وتفاهمات الدوحة 2012 المكملة لاتفاق القاهرة والتي توجت في شهر يونيو 2014 باتفاق الشاطئ, والذي على أثره تم تشكيل حكومة الوفاق الوطني الفلسطيني فقط, من مجمل ما تم الاتفاق عليه في القاهرة.

هناك العديد من الأسباب التي أدت بشكل مباشر ومتسارع إلى حدوث الانقسام واستمراريته وتجذره, على الرغم من وجود اتفاق موقع بين الطرفين, والتي يمكن إجمالها بشكل مختصر دون الخوض في التفاصيل بالتالي:

أولاً: طبيعة النظام السياسي الفلسطيني – رئاسي/ برلماني – والذي أدى إلى تضارب الصلاحيات بين مؤسسة الرئاسة ومؤسسة مجلس الوزراء. ثانياً: التداخل في الصلاحيات  والمرجعيات وصناعة واتخاذ القرار بين منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية. ثالثاً: عدم وجود دستور يحدد طبيعة العلاقة بين مؤسسات النظام السياسي (التنفيذية والتشريعية والقضائية), بالتالي غياب مبدأ الفصل بين السلطات الثلاثة. رابعاً: عدم وجود برنامج وخطاب سياسي ذو مرجعية وطنية مشتركة يُحدد الاستراتيجية والخيارات والوسائل والبدائل. خامساً: وجود مدرستين وفكرين متناقضين ومتنافسين في الساحة الفلسطينية, مدرسة تؤمن بالعمل السياسي ومدرسة تؤمن بالعمل العسكري, مع عدم إنكار وتقليل دور وجهد أي منهما. سادساً: غياب مفهوم الديمقراطية والمشاركة السياسية ومبدأ دورية الانتخابات ومبدأ التداول السلمي للسلطة. سابعاً: غياب الدور الفاعل والمؤثر للأحزاب والفصائل السياسية الفلسطينية الأخرى في صنع واتخاذ القرار والمشاركة في رسم السياسة والاستراتيجية العامة للسلطة. ثامناً: تهميش دور مؤسسات المجتمع المدني في الحياة السياسية. تاسعاً: غياب مفهوم التعددية السياسية وتقبل الرأي والرأي الآخر وبالتالي غياب العمل المشترك بين المكونات السياسية وثقافة ولغة الحوار. عاشراً: تفاقم ظاهرة الواسطة والمحسوبية وتجاوز وغياب القانون ومبدأ المسائلة والمحاسبة والشفافية. الحادي عشر: غياب الثقة بين المكونات السياسية من حيث الأقوال والأفعال. الثاني عشر: ثُنائية الحوارات والمباحثات التي ماتزال ترافق الانقسام مع الحضور القوي والمستمر لمبدأ المحاصصة والملاحظات والمشاورات بعد كل جولة من جولات الحوار, وعدم وجود دور فاعل ومؤثر للأحزاب والفصائل الفلسطينية الأخرى على طرفي الانقسام, وعدم وقوفها أمام مسؤولياتها والإعلان عن الطرف الذي يرفض ويعطل تطبيق بنود اتفاق المصالحة. الثالث عشر: تغليب المصالحة الحزبية على المصلحة والقضايا الوطنية. الرابع عشر: غياب المرجعية القانونية والسياسية والتاريخية والوطنية للبت والنظر في كافة الخلافات والإشكاليات والأزمات التي حدثت خلال تلك السنوات لإيجاد حل توافقي.

انعكست هذه الأسباب وغيرها في ترسيخ الانقسام واستمراريته, على القضية الفلسطينية من جهة وعلى البيئة الداخلية من جهة أخرى, ويمكن إجمال حصرها في النقاط التالي:

أولاً: القضية الفلسطينية: لقد شكل الانقسام الفلسطيني نقطة مفصلية في تاريخ ومسيرة القضية الفلسطينية, بسبب غياب برنامج عمل وطني ورؤية واستراتيجية محددة وشراكة في العمل السياسي واتفاق جمعي على الوسائل التي يجب انتهاجها سواء دبلوماسياً أو عسكرياً, فقد انعكست أحداث الانقسام بشكل سلبي على القضية الفلسطينية ما أدى إلى تراجع مركزيتها وأهميتها وحضورها عربياً وإقليمياً ودولياً, هذا التراجع لا يمكن حصره فقط في الانقسام على الرغم من كونه السبب الرئيسي, فكافة المتغيرات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وتعدد الأزمات والصراعات والحروب ساهمت بشكل أساسي أيضاً في تهميش وتراجع مكانة القضية الفلسطينية, فتلك الأزمات أصبحت أكثر حضوراً وأهمية وذات أولوية على جدول أعمال وفي حسابات ومصالح وتنافس القوى الإقليمية والدولية, هذا الانشغال الدولي عن القضية الفلسطينية إلى جانب استمرار الانقسام الفلسطيني, قوى من الغطرسة الإسرائيلية في استمرار ممارساتها للجرائم والعنصرية والتطهير العرقي واصدار القرارات التعسفية بحق الشعب الفلسطيني, وانتهاك المقدسات الإسلامية والمسيحية والمحاولات والمساعي المستمرة لتقسيم المسجد الأقصى زمانياً ومكانياً, والتوسع الاستيطاني الإحلالي ومصادرة الأراضي والقتل والتشريد والاعتقال وغيرها من الجرائم التي لا تُعد ولا تُحصى, وجميعها ذات بُعد وطابع ديني بقرارات سياسية وعسكرية وقانونية, والتي تعتبر انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي ولحقوق الإنسان وتُصنف ضمن جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية, بالإضافة إلى التنصل وضرب كافة الاتفاقيات السياسية والاقتصادية التي تم إبرامها مع الجانب الفلسطيني بعرض الحائط, إلى جانب ادارة الظهر لكافة القوانين والقرارات الدولية والتنكر لكافة الحقوق الفلسطينية ورفض أي مشروع يسعى إلى إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية وفق قرارات الشرعية الدولية, بدعم وتأييد من قبل الولايات المتحدة الأمريكية سياسياً وعسكرياً وقانونياً, وكانت محصلة هذا التعنت الإسرائيلي والدعم الأمريكي المستمر, انسداد الأفق السياسي وتعثر عملية السلام وفشل مسيرة أكثر من اثنين وعشرين سنة من المفاوضات, وفشل الخيار العسكري في تحقيق الشروط والمطالب الفلسطينية عبر المفاوضات الغير مباشرة مع الجانب الإسرائيلي, إبان الحروب الثلاثة التي شُنت من قبل إسرائيل على قطاع غزة, فكانت نتيجة هذه التراكمات اندلاع الانتفاضة الفلسطينية في الأول من أكتوبر.

ثانياً: البيئة الداخلية الفلسطينية: لقد أفرز الانقسام الفلسطيني العديد من المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإنسانية, والتي شكلت في مجملها معاناة متفاقمة لدى الشعب الفلسطيني, وعلى سبيل المثال لا الحصر, فقد نتج عن الانقسام, عدم تجديد شرعية مؤسسات السلطة الفلسطينية – الرئاسة والتشريعي - لعدم إجراء الانتخابات, ما أدى إلى فقدانها صفة الشرعية والدستورية وفق القانون الأساسي المعدل والنظام الداخلي للمجلس التشريعي, وغياب الدور التشريعي والرقابي بسبب تعطيل عمل المجلس التشريعي وعدم الدعوة لعقد جلسات المجلس وفق القانون الأساسي المعدل والنظام الداخلي للمجلس التشريعي, وعدم قدرة حكومة الوفاق الوطني الفلسطيني من مباشرة وأداء مهامها وفرض سيادتها وإدارتها على قطاع غزة, إلى جانب انتشار ثقافة عدم الثقة والتشكيك والتخوين وتبادل الاتهامات والتراشق السياسي والاعلامي, وعدم تقبل الرأي الآخر وإنكار الآخر وتكميم الأفواه وانتهاك صارخ لكافة حقوق الإنسان من حيث حرية التعبير والرأي وحرية التظاهر والتجمع, والغياب الحقيقي لمفهوم الديمقراطية والمشاركة والتعددية السياسية والتنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية, وتفاقم الأزمات في قطاع غزة وأبرزها أزمة الكهرباء, وتردي الأوضاع الاقتصادية  في القدس والضفة الغربية وغزة, وارتفاع للأسعار بالتزامن مع قلة مصادر الدخل وانتشار الفقر, وارتفاع مستوى البطالة وانعدام فرص العمل أمام خريجي الجامعات, والتي دفعت العديد من العقول والطاقات الفلسطينية للهجرة بحثاً عن الذات وتطوير ما لديها من إمكانيات وقدرات والحصول على فرص عمل أو إكمال الدراسة هرباً من الواقع المُظلم للبحث عن واقع وحياة كريمة ومستقبل أفضل في ظل غياب القدرة وعجز الحكومة على توفير متطلبات الحياة الكريمة والإنسانية لأبناء الشعب الفلسطيني, وبطء عملية إعادة اعمار قطاع غزة واستمرار الحصار واغلاق معبر رفح, وفرض المزيد من الضرائب, واستمرار أزمة رواتب موظفي حماس الذين تم تعيينهم بعد الانقسام وقبل تشكيل حكومة الوفاق الفلسطيني, والتي تُشكل أحد الأسباب الرئيسية في تعثر ملف المصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام.

أمام هذا الواقع والمشهد الفلسطيني المتأزم سواء على مستوى القضية الفلسطينية أو حتى على مستوى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الفلسطينية, بسبب استمرار الانقسام الفلسطيني, يستوقف الكثير تساؤلات عدة, إلى متى سيستمر هذا الواقع, وكيف يمكن إنهاء الانقسام, وما هي الحلول, وما هو المطلوب من صُنّاع القرار لدى القيادة والفصائل الفلسطينية, وكيف يمكن التعامل مع كافة التحديات التي تحيط بالقضية الفلسطينية؟

وتكمن الإجابة على هذه التساؤلات في العديد من النقاط, والتي من أهمها تطبيق ما تم الاتفاق عليه في الورقة المصرية لإنهاء الانقسام الموقعة من كافة الفصائل الفلسطينية في 4 مايو 2011 في القاهرة, فكافة نقاط الخلاف والمشاكل بين طرفي الانقسام – منظمة التحرير الفلسطينية, الانتخابات, الأمن, المصالحات الوطنية, المعتقلون -  قد تطرقت لها الورقة المصرية بالتفصيل وطرحت الحلول وتم تحديد آلية التنفيذ بشكل دقيق من خلال تشكيل لجنة مشتركة مكونة من 16 عضواً, بعد أن خضعت هذه الحلول لمناقشات ومشاورات مطولة من قبل جميع الفصائل وتم ادخال التعديلات حسب الملاحظات التي وضعتها الفصائل وتم الاتفاق والتوقيع على الورقة المصرية, وبالتالي فهي المرجع الرئيسي والأساسي لإنهاء الانقسام.

إلى جانب الورقة المصرية, هناك أيضاً جملة من النقاط الأساسية التي يجب الإسراع في تحقيقها وتنفيذها والأخذ بعين الاعتبار بها لتجنب أي أحداث مستقبلية تؤدي إلى الانقسام مجدداً, وهي كالتالي:

أولاً: ضرورة الإسراع في إنجاز وإقرار الدستور الفلسطيني, ليكون صمام الأمان والمرجع الرئيسي والقانوني. ثانياً: تحديد طبيعة نظام الحكم في فلسطين إما رئاسياً أو برلمانياً. ثالثاً: إعادة صياغة النظام السياسي الفلسطيني والفصل بين السلطات وتحديد الصلاحيات بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والتأكيد على مبدأ التداول السلمي للسلطة وتحديد صلاحيات الرئيس ورئيس الحكومة. رابعاً: تنظيم العلاقة بين منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية, وتحديد صلاحيات واختصاص كلٌ منهما داخلياً وخارجياً. خامساً: صياغة برنامج وطني شامل متفق عليه لكافة الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها, بمشاركة جميع القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني والنُخب والمفكرين وأساتذة الجامعات والشباب, والمشاركة في آلية صياغة وصناعة القرار الفلسطيني وعدم حصره في القيادة السياسية للسلطة, على أن يتم اتخاذ القرار بعد الاتفاق عليه وإعلانه من قبل القيادة السياسية للسلطة. سادساً: تعزيز مبدأ المشاركة السياسية والعملية الديمقراطية, والحرص على دورية الانتخابات والتأكيد على مبدأ التداول السلمي للسلطة والسماح لأي حكومة منتخبة بممارسة مهامها على أكمل وجه ضمن فترتها القانونية. سابعاً: صياغة قانون للأحزاب السياسية الفلسطينية. ثامناً: مساهمة كافة الفصائل في عملية التنمية والتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي من خلال تقديم الرؤى والمقترحات للحكومة والجهات الرسمية. تاسعاً: القبول بالرأي والرأي الأخر وتعدد الأفكار التي تتوافق مع القضية والتاريخ والتراث والحضارة الفلسطينية, والسماح بحرية التعبير والرأي والنشر وعدم التقليل من شأن أي فصيل مهمها كان حجمه وقوته والسماح له بممارسة أنشطته وفعالياته دون اعتراض وفق القانون, مع التأكيد على أهمية توحيد الخطاب السياسي والإعلامي, والتأكيد على أهمية الحوار لحل الخلافات والمشاكل. عاشراً: تعزيز مبدأ المسائلة والمحاسبة والمراقبة والتزام الجميع بالقانون. الحادي عاشر: ضرورة الفصل بين القضايا الإنسانية والقضايا السياسية والمشاكل والأزمات التي تنجم عنها. ثاني عشر: الفصل بين السلطة والحزب السياسي.

وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية بالإضافة إلى ما سبق, أولاً: تطبيق قرارات المجلس المركزي الفلسطيني لمنظمة التحرير الفلسطينية الصادرة في 5 مايو 2015, والإسراع في تنفيذ ما جاء في خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الأمم المتحدة في 30 سبتمبر 2015, وتنفيذ قرارات اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية الصادرة 4 نوفمبر 2015, التي اعتمدت توصيات اللجنة السياسية المتعلقة بتحديد العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية مع حكومة الاحتلال. ثانياً: الدعوة لعقد اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني بمشاركة كافة الفصائل الفلسطينية, وصياغة استراتيجية وطنية لتحديد الخيارات والوسائل التي تنسجم مع متطلبات المرحلة الحالية والقادمة. ثالثاً: الحفاظ على المكتسبات والإنجازات السياسية التي تم تحقيقها والبناء عليها وتطويرها, والاستمرار في الحراك الدبلوماسي. رابعاً: التأكيد على استراتيجية التصادم والاشتباك والمواجهة الدبلوماسية من خلال التوجه للمحافل الدولية, والانضمام للمزيد من المنظمات الدولية, والاستمرار في التوجه لمحكمة الجنايات الدولية لمحاكمة قادة الاحتلال, والسعي المستمر مع الدول العربية والإقليمية والصديقة والمحبة للسلام, لإصدار قرار بإنهاء الاحتلال وانتزاع الحق الفلسطيني وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.

أحمد سمير القدرة

باحث في شؤون الشرق الأوسط

2015-11-06