الجمعة 10/10/1445 هـ الموافق 19/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
الحاج أبو أحمد وأعياد النصارى...د. حاتم عيد خوري

إلتقيتُه في مناسبة اجتماعية. كان يبدو انسانا سوّيا، مظهره أنيق: شَعرٌ مصفّف وبذلةٌ مرتبةٌ مكتملةٌ بربطةِ عنقٍ مناسبة وحذاءٌ ملمّع... قدّم نفسَه إليّ كقارىء يتابع ما أكتبُه ويقرأه باهتمام. كان يتحدث معي بلغة عربية فصحى، مُبديًا إعجابه "بالإسلوب المرح الذي يزرعُ ابتسامةً غيّبتْها الأحداثُ عن وجوهنا" ويُطالبني بالمزيد. كدْتُ أصدّق ما يقول. شعرتُ أنّ "الأنا" الذي في داخلي، قد أخذ بالانتفاخ كالبالون ووزني النوعي بدأ يتناقص وعمّا  قليل  سأعوم على شبرٍ من هواء.

غير أن بعض الحركات الجسمية التي أبداها محدّثي هذا، وبعض الكلمات الخارجة عن السياق التي قالها، كشفت عن لوثة معينة تعتريه بين فينة وأخرى، الأمر الذي أعادني إلى إتزاني، سيما بعد أن قال لي: "بودي ان أقلّد إسلوبك في الكتابة. ألا قلتَ لي إذا سمحتَ، كيف  تختار النكتة او النادرة التي تبني حولها موضوع مقالتك؟". قررتُ أن أجاريه لئلا أمسّ مشاعره، فقلت له مستفسرًا: "هل تظن أني أختار اولا النكتة  أو النادرة ثم أبني حولها الموضوع؟". أجاب باستغراب: " إلّا  كيف؟!!".

أدركتُ ان محدثي لا يدرك أنّ النكتة او النادرة تأتي في سياق الموضوع، كما لا يدرك أنّ الموضوع لا يُفصّل حسب مقاس النكتة او النادرة. لذلك قررتُ إنهاءَ المحادثة والتخلّصَ بروحٍ مرحةٍ عملا بقول الإمام الشافعي "وفارق ولكن بالتي هي أحسنُ"، فقلت لمحدثي، إن سؤاله  يذكّرُني بقصة  "الحاج أبو أحمد وأعياد ألنصارى".

كان الحاج أبو أحمد من قرية دير القاسي وهي إحدى قرى الجليل الغربي التي هُجِّرت لأسفي الشديد سنة 1948، وتقوم اليوم على أنقاضها مستوطنةُ إلكوش. كانت دير القاسي مبنية على تلتين شرقية وغربية، يمرّ بينهما الشارعُ الموصل بين ترشيحا وسحماتا جنوبًا وفسوطه 'قريتي' شمالا. المسافة بين دير القاسي وفسوطه لا تتجاوز ثلاثة كيلومترات. القريتان زراعيتان، أراضيهما  ومراعيهما  متشابكةٌ تماما بل مختلطة. نقاط التماس، والأصح مساحات التلاقي، بين أهل القريتين، كانت عديدة وواسعة. يتكلمون ذات اللغة وبذات اللهجة، ويعيشون ذات العادات والتقاليد، ويستعملون ذات الحافلة الواحدة التي توصل بينهم وبين سحماتا وترشيحا وعكا وحيفا، ويعتمدون في معيشتهم على ذات المواسم الزراعية كالتبغ  والقمح والعدس والفول والحمّص والشعير والكُرسنّة وغيرها من المواسم البعلية نظرًا لعدم توفر مياه ريّ جارية في البلدتين. الاختلاف الوحيد بين القريتين، كانت قضية الانتماء الديني. أهل دير القاسي كلهم مسلمون وكلهم 'بحكم الخطاب الديني المذهبي السائد اليوم في شرقنا' سنّيون أيضا. أمّا أهل فسوطه، فكلّهم مسيحيون ينتمون إلى كنيسة الروم الكاثوليك. هذا الاختلاف الديني، كما عرفتُه في طفولتي وكما سمعتُ عنه من والديّ وغيرهما من الأباء والأجداد ايضا 'رحمهم الله جميعًا'، لم يكن يوما مصدرا لخلافٍ او لنزاع على مستوى القريتين. أمّا الخلاف الذي قد يحصل بين شخصين حول قضية شخصية، فلقد كان يتمُّ إحتواؤه مباشرة ووأده في المهد، من قبل  الوجهاء في القريتين وذلك في عصر كانت فيه 'حسب تعبير المرحوم والدي'  "كلمة وجهاء مرادفة لكلمة  أوادم  وكانت كلمةُ  الأوادم ما زالت مسموعة"....فلا عجب إذن، أن تنمو وتترعرع وتتوطد علاقاتُ صداقة بين ابناء البلدتين، تجعلهم يتزاورون.

الزيارات لم تكن على مستوى الأفراد فحسب، إنما على المستوى العام أيضا. حيث كان يقوم وفدٌ رسميٌّ من فسوطه، مؤلف من الخوري والمختار والوجهاء بمعايدة جيراننا أهل دير القاسي، بمناسبة عيدي الأضحى والفطر، في حين كان يأتي إلى فسوطه في عيدي الفصح والميلاد، وفدٌ مماثل من دير القاسي برئاسة الشيخ ومختار الحارة الغربية ومختار الحارة الشرقية والوجهاء. ويُروى في هذا السياق، أن الحاج محمود الصادق المكنّى بالحاج أبو أحمد، وهو معروف  بعلاقاته الطيبة وروابط صداقته المتينة مع عدد وافر من أبناء فسوطه، كان يتردّد أكثر من غيره من أبناء دير القاسي، على فسوطه.

لاحظ الحاج أبو أحمد، أنّ المسيحيين لا يعيّدون عيدين فقط في السنة 'أي الميلاد والفصح' بل أعيادا أخرى كثيرة، فهناك مثلا عيد رأس السنة الميلادية وعيد الغطاس 'عماد السيد المسيح' وعيدالصعود'صعود السيد المسيح إلى السماء' وعيد العنصرة 'حلول الروح القدس' وعيد الصليب وغيرها من الأعياد. كما لاحظ الحاج أبو أحمد، أنّ أهالي فسوطه يحضّرون، وفقا لتقاليدهم، لكل عيد من الأعياد نوعًا معينا من الطعام المشهيّ. فمثلا على عيد الميلاد يُعدّون فراخًا محشيّة، وعلى عيد رأس السنة يحضّرون كبّه زحلوية، وعلى عيد الغطاس يُعِدّون زلابي وعلى عيد الصعود مهلّبيه الخ...لمعت النكتةُ في ذهن الحاج أبو أحمد المعروف ايضا بلطف معشره ومداعباته، فقال: " واللهِ يا جماعة ما في أحسن من جيرانّا النصارى، كُلْما اشتهوا أكلة بِعْمَلولْها عيد".

[email protected]       

2015-11-28