الخميس 16/10/1445 هـ الموافق 25/04/2024 م الساعه (القدس) (غرينتش)
قراءة شعرية للشاعر / ناصر عطاالله في ديوان 'ممر السماء' للشاعر ياسر حرب الفقعاوى

 

 افتتاحية شعرية لا يطاق الاختلاف عليها ، وأول ما تقرأه " أحبك أمي " في مجموعة ياسر حرب الفقعاوي الاولى ، وكأنه بهذه الافتتاحية الوجدانية أراد أن يفتح قلب كل من يتناول مجموعته ، وحسنٌ حيث أصاب ، فالحب الأكثر صدقاً والمنزه عن كل غاية هو حب الأم ، والمعطوف عليه ، حبّ الأب ولو كان التراب منزلتهما ، فرحم الله والديّ الشاعر اللذان ذكرا بفضله ، وليكونا مفتاح شاعريته القادمة في مجموعته البكر .

 

في الثانية يكشف ياسر حرب عن مفاجأته القادمة ، حينما اختار عالم نفس في علم الأجتماع  الفلسطيني ، المعاصر عبد اللطيف عقل كشاهد أول على مسراه الشعري فعقل نابلسي الجغرافيا ، وأن صنفه الكثيرون أنه أديب وشاعر وباحث ، إلا أنه تمترس خلف  إنسانيته المطلقه لينطلق منها الى الابداع ،فهو صاحب نشيد الانتفاضة ، وشواطيء القمر ، وقصائد عن الحب لا يعرف الرحمة ، وغيرها في مكتبة أدبنا الوطني المعززة لصمودنا فوق ترابنا المغتصب ، وياسر حرب اصطاد من عقل غلته الثمينة فالهوى للأحياء ، والهوى للأموات ، والزعتر قاهر الجوع إن حل وتبرك في الحياة .
ومن عقل نلج الى موائد ياسر الشعرية ، فأول ما نجده فاكهة الاستكشاف المتجددة لواحد من الكتب السماوية ، وهو العهد القديم "التوراة" وابرز معالم الابداع الكوني " بيكاسو " والشاعر الذي ميزّ الرسام عن سائر مخلوقات الله ، كأنه أراد أن يقول أن التوراة ناقصة بدون "بيكاسو " وأن اكتشافه هذا بنفي شبيه بابلو بيكاسو الاسباني  المولد، الكوني المعرفي ، أخذنا بنصوصه الى الصور التي سيطلعنا عليها في مجموعته الشعرية القادمة ، وكلها ستكون صادقة كهدهد الانبياء ، والدليل " هي " المستترة في كل نص ، ولا يعرفها القاريء إلا من كسرةٍ خجولة في أخر ضميره الشعري المنفصل كقوله :
يحتاجُ منك النرد أصابع اليقظة
فأستمسك بعظامي أولاً..
ورتل على صلبي سورة التوت
لأغفو على زندك كالغزالة .
ومن هذا الثقب السري يبحر شاعرنا في عالم مهوس بالرغبة والنطفة والرعشة ، والجنس ، ومن ثم إمتلاك أداة البحث عن موانئ النجاة من تيه قد دربّه الشاعر على هدى الانبياء وصولاً الى المقصود المجازي ، الاقتناع بعد جهد بما وصل إليه ، وأن كنت لست مع شاعرنا بأن الانبياء تركونا وحدنا ، ونحن نبحث عن الهروب ، إلا أن مجازه الشعري غير مطلق في عقيدته كباحث عن دلال لطيف للتيه المعتق في نصوصه .
والشاعر الباحث خير من الشاعر "المشخصاتي" ، وشاعرنا باحث جيد في نصوصه عن موجودات لها ظاهر معلوم وبواطن خفية تتناثر في فضاءات الكون وما وراءه ، يتلصصها بحسه المركز ، ويستشعرها بذائقته المعتّقة ، بما أمتلكه من لغة فضفاضة ، فأصبح للبحر أكتاف عند الشاعر ، وعنده سؤال عن أسرار السمكة ، وكم اصطادني لقيط مبهم مجروح ، يعالج جرحه بملح السؤال البحري ، وأخذني كقارئ الى تعديل معرفتي ، فالصياد لديه سهام ، وليس صنارة ، ولسهام الصيادين حنين للسمكة ، كما للجياد تأصيل للحبّ ، وإن أنتشار الشيب الدال على قدم السنين ، واقتراب النهاية المحتومة ، لا يبرر عزل الحب عن ما تبقى من الحياة ،  بل إن السهام والجياد وأن شابت كالعاشق فأنهم كلهم لا يتخلون عن الحب ، هذا ما أراد أن يقنع به محبوبته التي تحاول أن تمنع انصهارها فيه بسبب كبر سنه فيقول الشاعر على لسانها :
سأبتعدُ مسافة أصبع عن رؤياكْ
وأنفخ في روحكَ من زبدي
حتى يكتمل في سمائكَ البدر
ولكنه يدمغ عرضها برغبته الملحة فيها وهو على حاله والمشيب :
سبعُ سنبلاتٍ يجلدن القصيدة
وأنتِ لا تحسنين تفسير الحلم .
وعن الاعلام في مجموعة شاعرنا ياسر حرب ، فأخذ ميوله لذائقة الاسطورة فعشتار  ألهة الحب والجنس والجمال والتضحية في الحروب ، مسجية على موج قصائده ، ومكررة في حضورها كأنه سكر شرابه ، وابو الفوارس "أخيلوس" أو أخيل كما في الاسطورة الإلياذة تجده ضيفاً عند الشاعر ، ولكنه أجلسه في مكان متدني ليعلوا هو في حبه وارتباطه الروحي بمن أحب ، عن أخيل الذي انسحب بعد فتح طروادة ، وترك جيش أجاممنون للهزائم بسبب " كريسيس " ابنة ملك طروادة ، التي أثارها  الملك لنفسه ورفض لم شملها بوالدها المهزوم ، وأخيل النبيل عاشق أيضاً ولكن الشاعر ياسر حرب جاء من بعده لتكتمل صورة العاشق المفدى ، ولم ينس الشاعر ،  نيرون المغرور الذي حرق روما وفي مخيلته أنه يفعل ذلك لكي يعيد بناء المدينة ، ونجد افروديت أو فينوس ،  ألهة الحب والشهوة والجمال والانجاب ، في الأسطورة اليونانية ، والشاعر في نصه "أنا وهي " قصد أفروديت لتكون حواء البشرية ، مالكة تفاحة الغواية ، ولم يغادر الشاعر الاسطورة اليونانية قبل أن يأتي على ذكر "ايروس" إله الحب والجنس ، وهو ابن افروديت سالفة الذكر ، وحشوه في شاعرية الشاعر جاء بتوظيف لطيف عن بعيد لوصف حالة المشغولية بالرغبة عن أشياء كثيرة ، وهؤلاء ليسوا جميعهم ، فأخرون موزعين في نصوصه برقة صانع مبدع.
وليس من فائتة على الشاعر أن لا يذكر المدن التي يحبها ، فبيروت حاضرة وغزة بحروبها وقسوة عيشها ورصاص اعدائها ، وبلدته الأصلية يافا التي افرد لها نصاً متعمداً على نور الذاكرة .
والانبياء والملائكة والكتب المقدسة واسماء السور القرآنية ، والصلاة ، والقيامة ، المغفرة ، والموت وغيرها من مفرداتها المنثورة بين دفتي مجموعته الشعرية ممر السماء.
وقبل أن اغادر موجزتي هذه عن المجموعة الشعرية ، لا بد أن أثبت للشاعر مهارة اجتهاده وما حملته أنفاسه مع كل نص كتبه ، وهو همه العالي المخبأ بمأساة اللجوء والنفي والوطن الجريح ، و أمل العودة ، وكأن حبيبته هي الصندوق الأسود لكل هذا الهم ، الصندوق الذي لا زال مبعث إلهامه كشاعر يغزو الاساطير ويكتشف المجد الحياتي على طريقته الشعرية لكي يعيش الحبّ مع من يحبّ على منهج اختاره لذاته بقناعة ، رغم  بقاء قلق الريح تحت صهوة فرسه اللغوي .
ممر السماء مجموعة شعرية انجبت ثماني وخمسون نصاً ، كل نص له جديلة مرمية على كتف اللغة ، كمهرة تحاول أن تسبق الريح ، فحق للشاعر أن يتربع على عرشه الأدبي بعد منازلة خاضها بكل فروسية ونبل .
مبارك لك جلالة الشاعر ياسر حرب الفقعاوي هذا العرش الشعري الأول ، والى عرش يفيض بك ولا يغيض عليك .

2015-12-02